الأحد، 7 مارس 2010

في قلبي ......... محبوبتان



   في قلبي تعيشُ أجملُ عروستين ، يسري حبّهما في وجداني كما يجري الدمُ في عروقي ، وردتان أشتمّ عبيرهما في الصباح والمساء ، هما رئتاي اللتان أتنفس بهما ، وأستنشق عشقهما كما أتنفس الهواء ، لي يدان ، ولي قدمان ، وعينان ، ولي ايضاً ....محبوبتان ، تتنازعان قلبي فيما بينهما وتتنافسانِ عشقيَ ألأبدي ، إحداهما شرقية ، والأخرى غربية ، وبين هذه وتلك ، أعيش أجملَ قصص العشق والهوى ، عشق الوطن ، مع اختلاف الحال ، بين الوطن الذي كان سيكونُ لي ، وحُرمت منه ، والوطن الذي أبصرتُ النورَ فيه ، وعلى أرضه ترعرعت .

   بين والدةٍ أنجبت ووقعت أسيرةً ، وهاجر ابناؤها غصباً ، وبين والدةٍ احتضنت وربّت وأنشأت ، أجدُ قلبي حائراً يكاد ينقسم الى نصفين ، كي يتسع لكليهما ، إحتار دليلي في الهوى بينهما ، بين الوطن الأم ، والوطن الذي ولدت وعشت فيه.

    بين عمّان والقدس ، بين الضفة الشرقية والضفة الغربية ، توأمة روحية تتجاوز كل الحدود والعقبات ، كل نقاط التفتيش ، وكل حدود الجغرافيا ، كل الخطوط الحمراء ، والجدران العازلة ، وتتجاوز كل الأسلاك الشائكة .

   عمّان .... عاصمة الذكريات
   لعمّان غَزَلُ القوافي ، وسمرُ الليالي ، أُنشودة صيفٍ ، وحميمية ليلة شتاءٍ ، ذكرياتُ الصِبا ، تفتِّح ورد الشباب .
   لعمّان جمال المباني ، والحجر المَعانيّ ، لعمّان صَخَبُها ، ونبضُها المتسارع ، إيقاعها السريعُ النابضُ بالحياة ، لعمّان إزدحام الذكريات ، في أُلفة نادرة ، تربطنا بها وبكل أحيائها.

   لعمّان مقاهي وسط البلد ، روعة التسكّع في شوارعها ، ساندويتش فلافل مع كوبٍ من العصير ، تناول صحنٍ من الكنافة في زقاقها "عالواقف" ، إزدحام دور السينما ، وتلك الأكشاك المترامية ، بما تحتويه من كتب وصحف ومجلات ،  تستقطب القرّاء والمثقفين ، وتجمعهم حولها.

    لعمّان رائحة الياسمين في الصيف ، ورائحة فاكهة الأغوار ، إلتقاء المغتربين باحبائهم والتسامر ليلة صيف ، جمال الطبيعة الخضراء ، وإنتشار سكانها على سفوح جبالها في رحلة نهاية الاسبوع ، رائحة الشواء التي تنبعث من الكانون ، كأسُ شايٍ على الفحم ، وأرجيلة تنتظر دورها للحصول على بعض الفحم .  

   لعمّان حباتٌ من المطر تتساقط ، معلنةً بدء فصل الشتاء ، وقرب إكتساء المدينة بالثوب الأبيض ، رجل الثلج  والكستناء بالإنتظار .

   لعمّان أجواء رمضان ، والتفاف العائلة حول مائدة الإفطار ، صلاة التراويح ، تناول القطايف البيتيّة ،  والسهرات العائلية ، لعمّان بهجة العيد ، وإلتقاء الأقارب والأصدقاء والجيران ، تجهيز حلوى العيد ، وأولادٌ ينتظرون العيدية بفارغ الصبر ، ويلهون بهدايا العيد في الطرقات ، زاهين بملابس العيد الجديدة .

   القدس ....عاصمة الحنين   
    للقدسِ حبُ الوطن ، الحنينُ الى الأصول ، ذكريات الآباء والأجداد ، إنكسار الأمل ، وذكريات البدايات ، قصص وحكايا زمان ، طفولة أبي ، وأحلام البنات التي ترويها أمي ، حكاية الوطنِ الذي ضاع ، كلُّ ذلك الدم الذي روّى ترابه ، وكلُّ تلك التضحيات ، والخيانات ، والمعاهدات ، الحرب والسلام ، واللا حرب واللا سلم ، أناشيد الثورة ، وقصة كفاح شعب ، زغرودة أم الشهيد في استقبال ضيوف بيت العزاء ، ودمعةُ رجلٍ تتدحرج بصمتٍ على خده في وقار ، بكاء طفلة على أمها ، تحدي الأولاد للجنود ، حجرٌ يكسر حاجز الصمت ، ويذكّرنا أن الأمل باقٍ ، ولو ضاق الأفق .

   الحنين الى الوطن ، ولو لم نعش فيه ، ولو لم نلعب في حاراته ونختبأ في زواياها الضيقة ، حبنا للوطن ولو لم نسبر اغوار ليله ، هو عشقٌ مكنونٌ في صدورنا ، لوطنٍ أحببناه دون أن نراه ، قرأناه قِصصاً وتابعناه عبر التاريخ والكتب والأحاديث المسائية ، أرتبطنا به وعاش فينا ، وحملناه معنا ، حقيبة سفر .

   حب الوطن هو ذلك الشعور الخفي الذي نشعر به دوماً ، عندما ننظر الى الخارطة ، ونبحث عن ......... "الوطن" ، حب الوطن هو ما يدفعنا الى كره الجغرافيا و التاريخ ، ما عادت جغرافيا العالم تعنينا ، طالما أنها لا تحمل وطننا بين طياتها .
هذا الوطن لي ، لي مدرسة أبي ، وبيتُ جدّي ، وعينُ الماء الذي وردته أمي ، ولي مَسقط رأس إخوتي ، ومسقط رأسي الذي كان سيكون لي ، ولي ذكرياتُ عمّاتي وخالاتي ، ولي أقاربي الذين لا أعرفهم ، ولي أصدقائي الذين كنت سأعرفهم ، ولي بنتُ الجيران التي كنت سأحبها ، ولي ذلك البحر ، وتلك السماء ، وهذه الأرضُ لي ، وهذا التراب لي ، ولي قبري ، هناك ، ولو لم أدفن به.

   كنت صغيراً لم أبلغ الحُلُم عندما زرت الضفة الغربية ، في زيارتين وحيدتين خلال سنتين او ثلاثة ، ولم أعد اليها بعد ذلك ، وعندما يدعوني أقربائي الى زيارتهم (بعد أخذ التصاريح اللازمة ، كوني لست مواطناً فلسطينياً ) أقول لهم " نأتيكم محرِّرِين ان شاء الله " لتتعالى الضحكات من بعدها ، ويسود ذلك الشعور " شرّ البلية ما يُضحك" ، لم يكن أكثرهم يصدّق أني جادٌ فيما أقول ، ولكنهم بعد ذلك يتأكدوا أنني أرفض زيارة "وطني" بتصريحٍ من العدو ، وأرفض أن أسمح لأحد جنوده أن يفتشني وأن يتفحّص أوراقي ليسمح لي بالعبور الى بلدي ، لا ، لن يحدث هذا ، وسأظل أعيش في غربتي الداخلية بعيداً عن وطني ، كي أشعر دوماً بحاجتي الى هذا الوطن ، وكي أشعر دوماً بشعور النقص هذا الذي يعتريني عند الحديث عن الوطن ، وسأبقى أُمنّي نفسي دوماً أننا سندخلها يوماً فاتحين ، إن لم نكن نحنُ فليكن جيلُ إبنائنا وبناتنا ، هذا الجيل الذي يقع على عاتقنا مسؤولية أن نعلّمه حبَّ الوطن ، و أن نذكّره دوما بأن له وطناً مسلوباً ، وأن له عدواً .

    عندما نتحدث مع ابنائنا علينا ان لا ننسى أن نحدثهم عن ذكريات آبائنا وأجدادنا ، ومعاناتهم ضد الإحتلال ، عن توقيفهم واعتقالهم وتعذيبهم ، وعن المجازر التي ارتكبت بحقهم ، أن نتحدث معهم عن المقاومة وعن الثورة ، بحلوها ومرّها ، عندما نتحدث معهم عن الأدب ، علينا ان لا ننسى ذكر محمود درويش ، وسميح القاسم ، وابراهيم طوقان ، وعندما نتحدث عن الفن ، علينا أن لا ننسى أن نذكر لهم مارسيل خليفة ، وأحمد قعبور ، وفرقة العاشقين ، عندما نجتمع في المساء ، ونلتف حول المائدة ، علينا ان نتذكر أخوةً لنا لا يجدون قوتهم اليومي ، وعندما نقص عليهم قصص التاريخ ، علينا أن لا ننسى أن نقص عليهم قصة وطن ، ونقرأ الفاتحة على أرواح شهدائنا .

      لو كنت أملك أن أتمنى أمنية في هذه الحياة ، وتكون هذه الأمنية محققة ، لتمنيت أن أتملك بيتاً في القدس ، على ربوةٍ مُطلّة ، أطل منها على وطني المُحرّر ، وأشتم رائحة بلدي ، أسهر مساءً على ضوء القمر ، قمر وطني ، وأعدّ النجوم ، نجومَ وطني ، وأنام هنيئاً ، في بلدي ، أصحو فجراً ، أصلي في المسجد الأقصى ، وأعود الى البيت حاملاً معي وجبة الإفطار ،إفطارَ بَلَدي ، أوقظ زوجتي و أبنائي ، لنتناول الإفطار سويةً ، هناك ، في بلدي ، وعندما أموت ، أدفن هناك ، على ذات الربوة ، وعندما يزورني أبنائي ، ويقرأون الفاتحة على روحي ، سأقول لهم ، لا تنسوا حبّ الوطن .
 لو قدّر لي هذا ، لما تمنيّت غيره .

في قلبي
محبوبتان ،
عروستان ،
غير أني دائمُ الشعور بالإغتراب ، والحنين الى ................ وطني

 أيمن أبو لبن
07-03-2010   
  

    

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق