في قلبي تعيشُ أجملُ عروستين ، يسري حبّهما في وجداني كما يجري
الدمُ في عروقي ، وردتان أشتمّ عبيرهما في الصباح والمساء ، هما رئتاي اللتان
أتنفس بهما ، وأستنشق عشقهما كما أتنفس الهواء ، لي يدان ، ولي قدمان ، وعينان ،
ولي ايضاً ....محبوبتان ، تتنازعان قلبي فيما بينهما وتتنافسانِ عشقيَ ألأبدي ، إحداهما
شرقية ، والأخرى غربية ، وبين هذه وتلك ، أعيش أجملَ قصص العشق والهوى ، عشق الوطن
، مع اختلاف الحال ، بين الوطن الذي كان سيكونُ لي ، وحُرمت منه ، والوطن الذي
أبصرتُ النورَ فيه ، وعلى أرضه ترعرعت .
بين والدةٍ أنجبت ووقعت أسيرةً ، وهاجر ابناؤها غصباً
، وبين والدةٍ احتضنت وربّت وأنشأت ، أجدُ قلبي حائراً يكاد ينقسم الى نصفين ، كي
يتسع لكليهما ، إحتار دليلي في الهوى بينهما ، بين الوطن الأم ، والوطن الذي ولدت
وعشت فيه.
بين عمّان والقدس ، بين الضفة الشرقية والضفة
الغربية ، توأمة روحية تتجاوز كل الحدود والعقبات ، كل نقاط التفتيش ، وكل حدود
الجغرافيا ، كل الخطوط الحمراء ، والجدران العازلة ، وتتجاوز كل الأسلاك الشائكة .
عمّان .... عاصمة الذكريات
لعمّان غَزَلُ القوافي ، وسمرُ الليالي ، أُنشودة صيفٍ ، وحميمية
ليلة شتاءٍ ، ذكرياتُ الصِبا ، تفتِّح ورد الشباب .
لعمّان جمال المباني ، والحجر المَعانيّ ، لعمّان
صَخَبُها ، ونبضُها المتسارع ، إيقاعها السريعُ النابضُ بالحياة ، لعمّان إزدحام
الذكريات ، في أُلفة نادرة ، تربطنا بها وبكل أحيائها.
لعمّان مقاهي وسط البلد
، روعة التسكّع في شوارعها ، ساندويتش فلافل مع كوبٍ من العصير ، تناول صحنٍ من الكنافة في زقاقها "عالواقف" ، إزدحام دور السينما ، وتلك الأكشاك
المترامية ، بما تحتويه من كتب وصحف ومجلات ، تستقطب القرّاء والمثقفين ، وتجمعهم حولها.
لعمّان رائحة الياسمين في الصيف ، ورائحة فاكهة
الأغوار ، إلتقاء المغتربين باحبائهم والتسامر ليلة صيف ، جمال الطبيعة الخضراء ،
وإنتشار سكانها على سفوح جبالها في رحلة نهاية الاسبوع ، رائحة الشواء التي تنبعث من
الكانون ، كأسُ شايٍ على الفحم ، وأرجيلة تنتظر دورها للحصول على بعض الفحم .
لعمّان حباتٌ من المطر
تتساقط ، معلنةً بدء فصل الشتاء ، وقرب إكتساء المدينة بالثوب الأبيض ، رجل
الثلج والكستناء بالإنتظار .
لعمّان أجواء رمضان ،
والتفاف العائلة حول مائدة الإفطار ، صلاة التراويح ، تناول القطايف البيتيّة ، والسهرات العائلية ، لعمّان بهجة العيد ، وإلتقاء
الأقارب والأصدقاء والجيران ، تجهيز حلوى العيد ، وأولادٌ ينتظرون العيدية بفارغ
الصبر ، ويلهون بهدايا العيد في الطرقات ، زاهين بملابس العيد الجديدة .
القدس ....عاصمة الحنين
للقدسِ حبُ الوطن ، الحنينُ الى الأصول ، ذكريات
الآباء والأجداد ، إنكسار الأمل ، وذكريات البدايات ، قصص وحكايا زمان ، طفولة أبي
، وأحلام البنات التي ترويها أمي ، حكاية الوطنِ الذي ضاع ، كلُّ ذلك الدم الذي روّى
ترابه ، وكلُّ تلك التضحيات ، والخيانات ، والمعاهدات ، الحرب والسلام ، واللا حرب
واللا سلم ، أناشيد الثورة ، وقصة كفاح شعب ، زغرودة أم الشهيد في استقبال ضيوف
بيت العزاء ، ودمعةُ رجلٍ تتدحرج بصمتٍ على خده في وقار ، بكاء طفلة على أمها ،
تحدي الأولاد للجنود ، حجرٌ يكسر حاجز الصمت ، ويذكّرنا أن الأمل باقٍ ، ولو ضاق
الأفق .
الحنين الى الوطن ، ولو
لم نعش فيه ، ولو لم نلعب في حاراته ونختبأ في زواياها الضيقة ، حبنا للوطن ولو لم
نسبر اغوار ليله ، هو عشقٌ مكنونٌ في صدورنا ، لوطنٍ أحببناه دون أن نراه ، قرأناه
قِصصاً وتابعناه عبر التاريخ والكتب والأحاديث المسائية ، أرتبطنا به وعاش فينا ،
وحملناه معنا ، حقيبة سفر .
حب الوطن هو ذلك الشعور الخفي الذي نشعر به دوماً
، عندما ننظر الى الخارطة ، ونبحث عن ......... "الوطن" ، حب الوطن هو ما يدفعنا الى كره
الجغرافيا و التاريخ ، ما عادت جغرافيا العالم تعنينا ، طالما أنها لا تحمل وطننا بين
طياتها .
هذا الوطن لي ، لي مدرسة أبي ، وبيتُ جدّي ، وعينُ الماء الذي
وردته أمي ، ولي مَسقط رأس إخوتي ، ومسقط رأسي الذي كان سيكون لي ، ولي ذكرياتُ عمّاتي
وخالاتي ، ولي أقاربي الذين لا أعرفهم ، ولي أصدقائي الذين كنت سأعرفهم ، ولي بنتُ
الجيران التي كنت سأحبها ، ولي ذلك البحر ، وتلك السماء ، وهذه الأرضُ لي ، وهذا
التراب لي ، ولي قبري ، هناك ، ولو لم أدفن به.
كنت صغيراً لم أبلغ الحُلُم
عندما زرت الضفة الغربية ، في زيارتين وحيدتين خلال سنتين او ثلاثة ، ولم أعد
اليها بعد ذلك ، وعندما يدعوني أقربائي الى زيارتهم (بعد أخذ التصاريح اللازمة ،
كوني لست مواطناً فلسطينياً ) أقول لهم " نأتيكم محرِّرِين ان شاء الله " لتتعالى الضحكات من بعدها ، ويسود ذلك الشعور " شرّ البلية ما يُضحك" ، لم يكن أكثرهم يصدّق أني جادٌ فيما أقول ، ولكنهم بعد ذلك
يتأكدوا أنني أرفض زيارة "وطني" بتصريحٍ من العدو ، وأرفض أن أسمح لأحد
جنوده أن يفتشني وأن يتفحّص أوراقي ليسمح لي بالعبور الى بلدي ، لا ، لن يحدث هذا
، وسأظل أعيش في غربتي الداخلية بعيداً عن وطني ، كي أشعر دوماً بحاجتي الى هذا
الوطن ، وكي أشعر دوماً بشعور النقص هذا الذي يعتريني عند الحديث عن الوطن ، وسأبقى
أُمنّي نفسي دوماً أننا سندخلها يوماً فاتحين ، إن لم نكن نحنُ فليكن جيلُ إبنائنا
وبناتنا ، هذا الجيل الذي يقع على عاتقنا مسؤولية أن نعلّمه حبَّ الوطن ، و أن نذكّره
دوما بأن له وطناً مسلوباً ، وأن له عدواً .
عندما نتحدث مع ابنائنا علينا ان لا ننسى أن
نحدثهم عن ذكريات آبائنا وأجدادنا ، ومعاناتهم ضد الإحتلال ، عن توقيفهم واعتقالهم
وتعذيبهم ، وعن المجازر التي ارتكبت بحقهم ، أن نتحدث معهم عن المقاومة وعن الثورة
، بحلوها ومرّها ، عندما نتحدث معهم عن الأدب ، علينا ان لا ننسى ذكر محمود درويش
، وسميح القاسم ، وابراهيم طوقان ، وعندما نتحدث عن الفن ، علينا أن لا ننسى أن
نذكر لهم مارسيل خليفة ، وأحمد قعبور ، وفرقة العاشقين ، عندما نجتمع في المساء ،
ونلتف حول المائدة ، علينا ان نتذكر أخوةً لنا لا يجدون قوتهم اليومي ، وعندما نقص
عليهم قصص التاريخ ، علينا أن لا ننسى أن نقص عليهم قصة وطن ، ونقرأ الفاتحة على أرواح
شهدائنا .
لو كنت
أملك أن أتمنى أمنية في هذه الحياة ، وتكون هذه الأمنية محققة ، لتمنيت أن أتملك
بيتاً في القدس ، على ربوةٍ مُطلّة ، أطل منها على وطني المُحرّر ، وأشتم رائحة
بلدي ، أسهر مساءً على ضوء القمر ، قمر وطني ، وأعدّ النجوم ، نجومَ وطني ، وأنام
هنيئاً ، في بلدي ، أصحو فجراً ، أصلي في المسجد الأقصى ، وأعود الى البيت حاملاً
معي وجبة الإفطار ،إفطارَ بَلَدي ، أوقظ زوجتي و أبنائي ، لنتناول الإفطار سويةً ،
هناك ، في بلدي ، وعندما أموت ، أدفن هناك ، على ذات الربوة ، وعندما يزورني
أبنائي ، ويقرأون الفاتحة على روحي ، سأقول لهم ، لا تنسوا حبّ الوطن .
لو قدّر لي هذا ، لما تمنيّت
غيره .
في قلبي
محبوبتان ،
عروستان ،
غير أني دائمُ الشعور بالإغتراب ، والحنين الى ................
وطني
أيمن أبو لبن
07-03-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق