الأحد، 7 فبراير 2010

افاتار..... "لعنة الرجل الهندي"



   شاء القدر أن يقودَ كريستوفر كولومبوس الى اكتشاف "العالم الجديد" ، رغم أن هذا لم يكن في نية كولومبوس ، الذي أبحر بسفينته متجهاً نحو الغرب ، ظناً منه أنه سينتهي بجزر الهند الغربية؛ ليجد كولومبوس وفريقه الإستكشافي أنفسهم في قارة جديدة ، لم تكن البشرية يومها تعلم عن وجودها على أرضنا ، في أغرب اكتشاف شهده العالم الحديث ، إكتشاف "العالم الجديد (أمريكا) " . تفاجأ الجميع بوجود امتدادٍ للجنس البشري على هذه الارض ، مجتمعٌ معزولٌ تماماً عن هذا العالم ، برغم بعض المصادر التي تقول أن هناك اتصالاً سابقا مع القارة الاوروبية ، ولكن هذا لا ينفي حالة العُزلة التي كان يعيشها قاطنو هذه القارة ، وبما ان نيّة كولومبوس كانت استكشاف المزيد من القارة الهندية ، أطلق اسم " الهنود" على قاطني هذه القارة " الجديدة" التي حملت اسم امريكا بعدئذ ، نسبة الى مساعد كولومبوس " امريكو" الذي واصل رحلته وأكمل اكتشاف القارة ، اعلاناً لبداية حقبة جديدة في تاريخ البشرية .

   القدرُ يكون غريباً أحياناً حين يفاجأنا بأحداثه ؛ كان قدَرُ كولومبوس أن يكتشف هذه القارة المعزولة عن باقي العالم ، وكان قدَرُ " الهنود " سكان القارة الأصليين ، ان يُباد̊وا عن بَكرة أبيهم ، وُيسلخوا من تاريخ الأمم البشرية ، وكأنهم لم يكونوا على هذه الأرض أبداً ، وليسطّروا أكبر قصة إبادةٍ جماعيةٍ منظّمة ، عرفها التاريخ على يد من يدّعون الآن أنهم رُعاة الإنسانية والديمقراطية والحرية في العالم ، ورغم هذا الإدعاء الا أن دماء الهنود ما زالت تقطرُ من أيديهم ، وما زالت بدلاتهم الأنيقة مضرجةً بالدماء ، وما زال أنينُ الضحايا يخدش أصوات ضحكاتهم ، وما زالت رائحة الدم تفوح رغم أنف رائحة العطور الباريسية.

     كان قدَرُ الاووبيين الباحثين عن الثروة والمال ، والباحثين عن فرصة عيش جديدة ،وأولئك الذين لا يملكون فرصة عيش أصلاً ، أن يجدوا ضآلتهم في هذه القارة الشاسعة والمليئة بالخيرات ، وكان قدر الافريقيين البائسين ، أن يُستعبدوا ويُهجّروا عبيداً ، ليعملوا على إستصلاح هذه القارة من أجل الرجل الأبيض ، ويدخلوا التاريخ في أكبر عبوديةٍ منظمة عرفها التاريخ الحديث .
 عجيبٌ هذا القدر عندما يصوغ الأحداث لتحقيق أقدارنا !!!.

   يتحدث محمود درويش في قصيدته المشهورة "خُطبة الهندي الاحمر" عن عقدة الهندي الأحمر ، التي ستظل تُطارد الرجل الابيض أينما حلّ ، وها هي عقدة الهندي الأحمر تظهر من جديد ، في أحدث أفلام جيمس كاميرون "افاتار" الذي حطم كل الأرقام القياسية ، وما زال ، وبرغم كل ما يحتويه هذا الفيلم من إبداع فني ، وتكنولوجي ، ومن استخدامٍ راقٍ لأدوات الانتاج الفني ، الا أن محتوى الفيلم والرسالةَ التي يؤديها الفيلم تظل الأجمل والأقوى ، وتتفرّد وحيدة برُقيِّها ، لتضيف إبهاراً جديداً ، الى حالة الإبهار العامة التي يعيشها مشاهد الفيلم ، وهو يتابع هذه التحفة الفنية ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

    تدور أحداث الفيلم في عالَمٍ مفترض مستقبلي ، حيث يصل البشر الى إكتشاف كوكب غير كوكبنا الذي نعيش عليه ، ويجدون جنساً آخر يسكن هذا الكوكب ، ويحتوي هذا الكوكب على ثروات طبيعية هائلة ، يسيل لها لعاب العلماء ، كما يسيل لها لعاب الباحثين عن الثروات والمال ايضا ، ويبدأ البشر بمحاولة إستغلال هذا الكوكب والحصول على ثرواته ، ويجدون معارضة من السكان الاصليين ، الذين لا يأبهون بالثروات الموجودة ، ولا بقيمتها ، وإنما يريدون المحافظة على الطبيعة ، وعلى البيئة ، وعلى إرتباطهم بالالهة ، عبر هذه الطبيعة ، وبما أن سكان هذا الكوكب بدائيون مقارنة مع ما وصل اليه الجنس البشري ، تزداد الأطماع البشرية رويداً رويداُ ، وتدفع البشر الى استخدام القوة والسلاح للاستيلاء على هذا الكوكب ، غير آبهين بمصير السكان الأصليين ، وتبدأ الصدامات والنزاعات بين الجنسين ، فريقٌ يملك كل أنواع التكنولوجيا النوعية ، والقوة المفرطة ، وفريق ما زال يداعب أحلام الطبيعة والارتباط  بالأرض الأم ، والروحانيات ، والتعلق بكافة المخلوقات من حيوانات ونباتات.

   وكما تلاحظون ، أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ما سبق قوله عن القارة الامريكية ، وبين أحداث هذا الفيلم ، حتى أن الصورة الخيالية المفترضة لسكان الكوكب الجديد تتشابه الى حدٍ بعيد مع الهنود الاصليين الذين عاشوا في قارة امريكا ، من حيث نطق اللغة وحركات الجسد ، واستخدام الأصوات والتعابير ، ومن حيث طبيعة العيش في جماعات قبلية ، وإلإيمان بالطبيعة والإلتصاق بها ، والعلاقة المميزة التي تجمعهم مع كل مخلوقات الطبيعة وعطفهم عليها ، وإيمانهم  بالروحانيات ، بالاضافة الى الفجوة الحضارية الهائلة بينهم وبين المستعمرين .

   ينتصر المخرج هذه المرة للطبيعة وللحق ، ضد الشر ، وضد الاستعمار ، ضد استغلال خيرات الشعوب باسم تحقيق الحرية ونشر الديمقراطية ، ضد مصادرة حقوق الآخرين ، الذين لا حول لهم ولا قوة ، ضد استعمال القوة لتحقيق الأطماع ، ضد هذا الجشع البشري ، ينتصر للطبيعة ، وللسكان الاصليين ، ويوصل لنا رسالة في غاية الأهمية " الطبيعةُ كفيلةٌ بإعادة التوازن بين الخير والشر وإن بَعُدَ الأجل " .

   عقدة الرجل الهندي ستظل تطارد كل الامريكان ، الذين صنعوا تاريخهم على جثامين الآخرين ، وبنوا بيوتهم على خراب بيوت الآخرين . وستظل هذه اللعنة ، الى أن يغير الامريكان من نظرتهم العلوية والفوقية الى الآخرين ، وأن يبدأوا هم بالتغيير ، لا أن يطالبوا غيرهم ، وستظل هذه اللعنة الى أن يعترفوا بخطاياهم ، وبأنهم أول من أعتدى وأول من جنى وأول من أباد ، واستباح أراضي الغير ، وأن تاريخهم الحديث كُتب بدم الهندي الأحمر ، وأن تاريخهم منقوص ، وان حريتهم زيف ، وأن مدينتهم الفاضلة ملعونة، عليهم أن يغيروا ما بأنفسهم ، قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي ينتصر به القدر ، وينتصر به الخير على الشر ، ولو بعد حين ، و قبل أن يحاكم الرجل الهندي الأحمر ، قاتله ، ومغتصب أرضه ، ويلقي مرافعته الأخيرة "خطبة الهندي الأحمر" .  

   افاتار فيلم يستحق المشاهدة ، أدعو جميع من يعشق أفلام الخيال العلمي ، والحركة ، والمؤثرات البصرية والسمعية ، أن يشاهدوا هذا الفيلم ويستمتعوا به ، وأذكرهم أن لا ينسوا الوقوف دقيقة صمت إجلالا لذكرى من كانوا يُسمّوا الهنود أو الهنود الحمر .

أيمن أبولبن
7-2-2010

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق