شاء
القدر أن يقودَ كريستوفر كولومبوس الى اكتشاف "العالم الجديد"
، رغم أن هذا لم يكن في نية كولومبوس ، الذي أبحر بسفينته متجهاً نحو الغرب ، ظناً
منه أنه سينتهي بجزر الهند الغربية؛ ليجد كولومبوس وفريقه الإستكشافي أنفسهم في قارة
جديدة ، لم تكن البشرية يومها تعلم عن وجودها على أرضنا ، في أغرب اكتشاف شهده
العالم الحديث ، إكتشاف "العالم
الجديد (أمريكا) " . تفاجأ
الجميع بوجود امتدادٍ للجنس البشري على هذه الارض ، مجتمعٌ معزولٌ تماماً عن هذا
العالم ، برغم بعض المصادر التي تقول أن هناك اتصالاً سابقا مع القارة الاوروبية ،
ولكن هذا لا ينفي حالة العُزلة التي كان يعيشها قاطنو هذه القارة ، وبما ان نيّة
كولومبوس كانت استكشاف المزيد من القارة الهندية ، أطلق اسم " الهنود" على
قاطني هذه القارة " الجديدة" التي حملت اسم امريكا بعدئذ ، نسبة الى
مساعد كولومبوس " امريكو" الذي واصل رحلته وأكمل اكتشاف القارة ،
اعلاناً لبداية حقبة جديدة في تاريخ البشرية .
القدرُ
يكون غريباً أحياناً حين يفاجأنا بأحداثه ؛ كان قدَرُ كولومبوس أن يكتشف هذه
القارة المعزولة عن باقي العالم ، وكان قدَرُ " الهنود " سكان القارة الأصليين
، ان يُباد̊وا عن بَكرة أبيهم ، وُيسلخوا من تاريخ الأمم البشرية ، وكأنهم لم
يكونوا على هذه الأرض أبداً ، وليسطّروا أكبر قصة إبادةٍ جماعيةٍ منظّمة ، عرفها
التاريخ على يد من يدّعون الآن أنهم رُعاة الإنسانية والديمقراطية والحرية في
العالم ، ورغم هذا الإدعاء الا أن دماء الهنود ما زالت تقطرُ من أيديهم ، وما زالت
بدلاتهم الأنيقة مضرجةً بالدماء ، وما زال أنينُ الضحايا يخدش أصوات ضحكاتهم ، وما
زالت رائحة الدم تفوح رغم أنف رائحة العطور الباريسية.
كان
قدَرُ الاووبيين الباحثين عن الثروة والمال ، والباحثين عن فرصة عيش جديدة ،وأولئك
الذين لا يملكون فرصة عيش أصلاً ، أن يجدوا ضآلتهم في هذه القارة الشاسعة والمليئة
بالخيرات ، وكان قدر الافريقيين البائسين ، أن يُستعبدوا ويُهجّروا عبيداً ، ليعملوا
على إستصلاح هذه القارة من أجل الرجل الأبيض ، ويدخلوا التاريخ في أكبر عبوديةٍ منظمة
عرفها التاريخ الحديث .
عجيبٌ
هذا القدر عندما يصوغ الأحداث لتحقيق أقدارنا !!!.
يتحدث
محمود درويش في قصيدته المشهورة "خُطبة الهندي الاحمر" عن عقدة الهندي الأحمر ، التي ستظل تُطارد الرجل الابيض أينما
حلّ ، وها هي عقدة الهندي الأحمر تظهر من جديد ، في أحدث أفلام جيمس كاميرون
"افاتار" الذي حطم كل الأرقام القياسية ، وما زال ، وبرغم كل ما
يحتويه هذا الفيلم من إبداع فني ، وتكنولوجي ، ومن استخدامٍ راقٍ لأدوات الانتاج
الفني ، الا أن محتوى الفيلم والرسالةَ التي يؤديها الفيلم تظل الأجمل والأقوى ،
وتتفرّد وحيدة برُقيِّها ، لتضيف إبهاراً جديداً ، الى حالة الإبهار العامة التي
يعيشها مشاهد الفيلم ، وهو يتابع هذه التحفة الفنية ، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
تدور أحداث الفيلم في عالَمٍ مفترض مستقبلي ، حيث
يصل البشر الى إكتشاف كوكب غير كوكبنا الذي نعيش عليه ، ويجدون جنساً آخر يسكن هذا
الكوكب ، ويحتوي هذا الكوكب على ثروات طبيعية هائلة ، يسيل لها لعاب العلماء ، كما
يسيل لها لعاب الباحثين عن الثروات والمال ايضا ، ويبدأ البشر بمحاولة إستغلال هذا
الكوكب والحصول على ثرواته ، ويجدون معارضة من السكان الاصليين ، الذين لا يأبهون
بالثروات الموجودة ، ولا بقيمتها ، وإنما يريدون المحافظة على الطبيعة ، وعلى
البيئة ، وعلى إرتباطهم بالالهة ، عبر هذه الطبيعة ، وبما أن سكان هذا الكوكب
بدائيون مقارنة مع ما وصل اليه الجنس البشري ، تزداد الأطماع البشرية رويداً رويداُ
، وتدفع البشر الى استخدام القوة والسلاح للاستيلاء على هذا الكوكب ، غير آبهين
بمصير السكان الأصليين ، وتبدأ الصدامات والنزاعات بين الجنسين ، فريقٌ يملك كل أنواع
التكنولوجيا النوعية ، والقوة المفرطة ، وفريق ما زال يداعب أحلام الطبيعة والارتباط بالأرض الأم ، والروحانيات ، والتعلق بكافة
المخلوقات من حيوانات ونباتات.
وكما تلاحظون ، أن هناك ارتباطاً وثيقاً بين ما سبق قوله عن القارة
الامريكية ، وبين أحداث هذا الفيلم ، حتى أن الصورة الخيالية المفترضة لسكان
الكوكب الجديد تتشابه الى حدٍ بعيد مع الهنود الاصليين الذين عاشوا في قارة امريكا
، من حيث نطق اللغة وحركات الجسد ، واستخدام الأصوات والتعابير ، ومن حيث طبيعة
العيش في جماعات قبلية ، وإلإيمان بالطبيعة والإلتصاق بها ، والعلاقة المميزة التي
تجمعهم مع كل مخلوقات الطبيعة وعطفهم عليها ، وإيمانهم بالروحانيات ، بالاضافة الى الفجوة الحضارية
الهائلة بينهم وبين المستعمرين .
ينتصر
المخرج هذه المرة للطبيعة وللحق ، ضد الشر ، وضد الاستعمار ، ضد استغلال خيرات
الشعوب باسم تحقيق الحرية ونشر الديمقراطية ، ضد مصادرة حقوق الآخرين ، الذين لا
حول لهم ولا قوة ، ضد استعمال القوة لتحقيق الأطماع ، ضد هذا الجشع البشري ، ينتصر
للطبيعة ، وللسكان الاصليين ، ويوصل لنا رسالة في غاية الأهمية " الطبيعةُ كفيلةٌ بإعادة التوازن بين الخير والشر وإن بَعُدَ
الأجل " .
عقدة الرجل الهندي ستظل تطارد كل الامريكان ، الذين صنعوا تاريخهم على
جثامين الآخرين ، وبنوا بيوتهم على خراب بيوت الآخرين . وستظل هذه اللعنة ، الى أن
يغير الامريكان من نظرتهم العلوية والفوقية الى الآخرين ، وأن يبدأوا هم بالتغيير ،
لا أن يطالبوا غيرهم ، وستظل هذه اللعنة الى أن يعترفوا بخطاياهم ، وبأنهم أول من
أعتدى وأول من جنى وأول من أباد ، واستباح أراضي الغير ، وأن تاريخهم الحديث كُتب
بدم الهندي الأحمر ، وأن تاريخهم منقوص ، وان حريتهم زيف ، وأن مدينتهم الفاضلة
ملعونة، عليهم أن يغيروا ما بأنفسهم ، قبل أن يأتي ذلك اليوم الذي ينتصر به القدر
، وينتصر به الخير على الشر ، ولو بعد حين ، و قبل أن يحاكم الرجل الهندي الأحمر ،
قاتله ، ومغتصب أرضه ، ويلقي مرافعته الأخيرة "خطبة الهندي الأحمر" .
افاتار فيلم يستحق المشاهدة ، أدعو جميع من
يعشق أفلام الخيال العلمي ، والحركة ، والمؤثرات البصرية والسمعية ، أن يشاهدوا
هذا الفيلم ويستمتعوا به ، وأذكرهم أن لا ينسوا الوقوف دقيقة صمت إجلالا لذكرى من
كانوا يُسمّوا الهنود أو الهنود الحمر .
أيمن أبولبن
7-2-2010
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق