الاثنين، 18 نوفمبر 2019

مأساة "جوكر"




أثار فيلم "جوكر" الكثير من الجدل واللغط، حتى قبل بدء عرضه الرسمي في صالات السينما، كما شهدت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، موجة من التفاعلات مع الفيلم، والدلالات التي يمكن قراءتها من القصة، وماهيّة الرسالة التي يريد القائمون على العمل ايصالها الى المشاهد، كما تباينت كذلك آراء النقّاد السينمائيين، وإن اتفق الجميع على نجاح الفيلم فنيّاً.

فيلم "جوكر" هو فيلم درامي تشويقي اجتماعي بحت، لا ينتمي لسلسلة أفلام "الكوميكس" رغم أنه يتحدث عن شخصية رئيسية في تلك السلسلة، إذ أنه يغوص في أعماق شخصية "جوكر" ويبحث عن بدايات تكوين سلوكياته وبناء شخصيته، حيث يركز الفيلم على الظروف الاجتماعية السيئة التي عاش فيها "آرثر" ممثل الكومبارس الهزلي الذي يعاني من أمراض نفسية مزمنة ويعيش مع والدته المعتلّة صحياً، والتي يتبين في النهاية أنها تعاني من هلوسات وأزمات نفسية أيضاً.

وفي الوقت الذي يحلم فيه آرثر أن يصبح نجما كوميديا ناجحا في عروض "ستاند أب كوميدي" فإنه يتحول إلى محل للسخرية والنقد، نتيجة مشاكله النفسية التي تؤثر على سلوكه ونطقه بل وشكله الخارجي.

في المجمل، الفيلم قدّم لنا الممثل "خواكين فونيكس" بشكل لم نعهده من قبل وبأداء باهر تجاوز التوقعات وتفوّق فيه على سابقيه، وبات المرشح الأوفر حظا للفوز بجائزة أوسكار هذا العام لفئة أفضل ممثل. كما تميّز الفيلم أيضاً بالإخراج المتقن والتكنيك العالي، وبالموسيقى التصويرية التي أدّت دورها في الاستحواذ على حواس المشاهد وجذب انتباهه طوال مدة الفيلم.

نجاح الفيلم فنيا ودراميا في حبك القصة وعرض الجانب الآخر من قصة "جوكر"، قدّم لنا شكلاً آخر من المآسي الأدبية الشهيرة، يصح تسميتها ب "مأساة جوكر". هذه المأساة الأدبية أدت في النهاية الى تعاطف شريحة كبيرة من المشاهدين والجمهور والنقاد مع هذه الشخصية، وبدا هذا لافتاً ليس فقط في التعليقات والمنشورات وتأوهات الجمهور وضحكاتهم في صالات السينما وتفاعلهم مع تلك الشخصية، بل إنه وصل إلى حد الإعجاب البطولي بهذه الشخصية.
فقد تحوّلت السلالم في برونكس-نيويورك التي شهدت رقصة جوكر الشهيرة في الفيلم، إلى مزار سياحي للعديد من المعجبين، وباتت تعرف اليوم ب "سلالم جوكر"، مما اضطر شرطة نيويورك إلى الاشراف على تلك المنطقة وتنظيم الدخول اليها.

هذا الاعجاب البطولي بحد ذاته بفرض علينا سؤالاً غاية في الأهمية: ما السر وراء هذا التعاطف وهل يمكن التلاعب بالبشر عن طريق دغدغة المشاعر واستدرار العطف؟

في الحقيقة إن العقل البشري قابل للخداع والتمويه واستدرار العطف، وهو خاضع أيضاً لقبول العديد من الحجج والبراهين التي تبدو في ظاهرها منطقية، ولكنها في الحقيقة مبنية على مغالطات للمنطق والواقع، وهو ما يطلق عليه مصطلح "المغالطات المنطقية". وفي هذا المجال يقع العديد من الناس في خطأ إطلاق أحكام خاطئة أو تكوين مواقف بعيدة عن الحق والمنطق.

ومن ضمن هذه المواقف والقرارات، التعاطف مع الجلاد أو الخلط بين خطيئة الظلم واستخدام العنف كوسيلة للانتقام، ذلك العنف الذي سرعان ما يتحول الى غاية في حد ذاته.

ويكفي أن نستشهد بما تصنعه السينما بشكل عام في عقول المشاهدين، فسلسة أفلام "رامبو" أعطت الشرعية لحرب أمريكا في فيتنام، (على الأقل في أذهان المشاهدين)، وهو ما فشلت في تحقيقه الإدارة الأمريكية خلال عقود، بل إن شخصية "رامبو" أصبحت شخصية وطنية بطولية تستحق الإعجاب والاشادة.
ورغم أن الجزء الأول من أفلام السلسلة كان يتناول مشكلة الجنود العائدين من ساحة المعركة وصعوبة اندماجهم في المجتمع من جديد، إلا أن بروباغندا الحرب وعقدة التفوّق الأنجلوساكسوني استغلت نجاح الفيلم وحوّلت مساره في الأجزاء التالية إلى تمثيلية هزلية عن الحروب الإنسانية التي يخوضها الجيش الأمريكي!

يمكن القول، إن البشر بطبيعتهم يميلون إلى مساندة الضعيف في مواجهة القوي، بغض النظر عن ميزان الحق والعدل، وهم بالتالي يميلون إلى مساندة المواطن ضد السلطة (أي سلطة) لا شعورياً، وهذه المتلازمة السيكولوجية جزء من سيكولوجية الجماهير التي تحدث عنها بإسهاب عالم الاجتماع غوستاف لوبون.

ويبقى السؤال الأخير هل يروّج الفيلم للعنف أو يبرّره؟ وهل يخلط الفيلم بين مفهوم الضحية والجلاد؟

   للإنصاف نقول إن الفيلم جاء ليلقي الضوء على الخلفية السيكولوجية والاجتماعية لشخصية "جوكر" الشريرة في سلسلة أفلام "باتمان"، وكان لزاماً أن تكون هذه الشخصية في النهاية هي نتاج المجتمع وآفاته، والاضطهاد القسري لها، فإذا أضفنا إلى ذلك، الانحرافات النفسية والسيكولوجية التي تعاني منها، ستكون النتيجة حتماً شخصية منحرفة وخارجة عن القانون.

الفيلم لا يتبنى وجهة نظر معينة في هذا الخصوص، وإنما يعرض الواقع كما هو، فالانحرافات النفسية والسلوكية في شخصية جوكر واضحة للعيان، كما ان الاضطهاد والعنف والسخرية والتهميش والظلم، التي تعرض لها في المجتمع واضحة وجليّة، ويبقى الحكم مرهون بوجهة نظر المشاهد، وقناعاته وميوله.

ولعل ذلك يتوضح حين يتعرض جوكر للسخرية من قبل الإعلامي والكوميدي الشهير موراي (يقوم بدوره روبرت دي نيرو)، حيث يشعر المشاهد وبشكل عفوي بالتعاطف مع جوكر، ولكن عندما يتحاور هذا الإعلامي مع جوكر ويتحدث معه عن جرائمه، يظهر لكل عاقل ألاّ منطق ولا حجة تحكم كلام وسلوكيات جوكر، ويظهر جليّاً أنه مجرد شخص ضعيف مضطرب نفسيا يستخدم العنف الشديد والسلوك الحاد، ليعبّر عن رفضه الباطني لظروفه السلبية، ولكي يغطّي على فشله في التعامل مع هذه الظروف أو التغلب عليها، سواء على المستوى الفكري أو السلوكي.

فعندما يتعرض أحد طلاب المدارس على سبيل المثال للتحرش أو التنمر فإنه يكسب تعاطف زملائه بل وتعاطف المجتمع ككل، ولكن عندما يفشل هذا الطالب في التعامل مع الأمر ضمن نطاق القانون والمحاسبة المسؤولة، وينكفأ على نفسه ويداري على ضعفه وعدم قدرته على المواجهة، ثم يتخذ من العنف أو تدمير الممتلكات، وسيلة للدفاع عن النفس، فإنه حينها يفقد مشروعية المواجهة، ويتحوّل الى مجرد ضال ومخالف للأعراف وقيم المجتمع.

"مأساة جوكر"، باختصار هي مأساة كل شخص مُهمّش وضعيف أساء له المجتمع، أو عامله النظام بازدراء، وتم تشويه صورته، والتركيز على مساوئه وعيوبه الشخصية ومشاكله النفسية، فانحرف وحاد عن جادة الصواب واستسلم لاضطراباته النفسية بل ووجد فيها الستر والدرع الواقي لمواجهة ذاته والمجتمع، وحدث في النهاية، أن تعاطفت معه جموع المهمشين والمظلومين وقليلي الحيلة، وكل من كسرته الحياة، إشباعاً منهم لرغبة الانتقام لديهم، وتحقيقاً لأمانيهم المكبوتة باسترجاع حقوقهم، حتى لو كان ذلك على شاشات السينما!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
17-11-2019

الخميس، 7 نوفمبر 2019

الشارع العربي يخلع عباءة الماضي وينتفض من جديد




 ما زلت أذكر تماماً ليلة هروب "زين العابدين بن علي" من تونس، وتلك الجملة الشهيرة التي قالها أحد المحتفلين في شوارع تونس: "لقد هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخية!" نعم، لقد هرمنا وفقدنا الأمل بأن يستعيد الشارع العربي نبضه وفورته، ويعود لامتلاك زمام الأمور واستعادة دوره المؤثر والمشاركة في كتابة التاريخ.
 كنا حينها نُمنّي النفس كناشطين ومهتمين في الشأن العام بأن تنجح ثورة تونس لتكون الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل، وكنا متيقنين أن تقويم العالم العربي الجديد، سيبدأ من تلك النقطة الفاصلة، مرحلة ما بعد الربيع العربي!

ولكن، في وسط انشغالنا بالأحلام الوردية، والمستقبل المشرق، غفلنا عن ردة فعل الأنظمة السلطوية "الانتقامية" من ثورات الربيع العربي، وردة فعل العالم الغربي على الفرص المتزايدة لقيام ديمقراطيات حقيقية في مناطق تستحوذ على مصادر الطاقة، وتشرف على بوابات العالم المختلفة -إن جاز التعبير- من مضيق جبل طارق مروراً بقناة السويس وصولاً إلى مضيقي باب المندب وهرمز، إضافة إلى الأهمية الكبرى للعالم العربي في منظومة التجارة الحرة التي ترعاها الولايات المتحدة والشركات العابرة للقارات.

 أفقنا على كوابيس متتالية، فقد نجحوا في زرع الإرهاب والتطرف بين ظهرانينا، ليقسموا العالم العربي قلوباً شتى، هذا يلصق تهمة الإرهاب والفوضى بالربيع العربي، وذاك يتعلّل بنظرية المؤامرة لمساندة الأنظمة السلطوية، وآخر يرى أن زمن الخلافة بدأ يلوح في الأفق حاملاً معه بشائر ظهور المهدي!

وبعد انتهاء الموجة الأولى، وجدنا أنفسنا أمام متغيرات جديدة فُرضت علينا، فقد عاقب العالم (الغربي والعربي) الشعب المصري على سوء سلوكه الانتخابي وعلى اختياره الديمقراطي الحر، وفي سوريا، ساهم الكل في إذكاء الصراع الطائفي وتحويل الثورة السلمية إلى ثورة مسلحة، ومن وسط الركام ظهرت داعش لتتحكم في المشهد وتطغى جرائمها على الساحة وتصبح "الغول" الذي يخوفوننا به من كل شيء اسمه ربيع عربي!

ولكن، ومع نهاية هذا المشهد، جاءت بشائر الموجة الثانية من الربيع العربي، وكانت تونس الحصان الأسود الذي كسب الرهان، فقد عززت تونس تجربتها السلمية الناجحة بأن صوّت الشعب التونسي وبكثافة لصالح مرشح مستقل من خارج الأحزاب السياسية، لتصبح تونس أنموذجا يُحتذى به في العالم العربي.

وعلى نفس الغرار، انتصرت إرادة الشعب الجزائري وأسقطت الحكم العسكري في البلاد الذي استمر لعقدين من الزمان، لتكتب الجزائر بذلك صفحة جديدة في تاريخ العالم العربي، تلاها السودان بثورته الأنيقة والجميلة والتي أزاحت بدورها الحكم العسكري في البلاد المستمر منذ ثلاثين عاما ونيّف.

وها نحن اليوم نشهد مظاهرات لبنان، التي وحّدت الشعب اللبناني في وجه الطغيان والفساد السياسي والمالي والاداري، تحت شعار ( كلّن يعني كلّن)، فالبلد قد انهارت اقتصادياً من الخارج، بينما يأكلها سرطان الطائفية من الداخل، فكان أن وقف الشعب بكل طوائفه معا، ليعلن حقبة جديدة من تاريخ لبنان، لا للطائفية لا للفساد، لا للكهنوت، نعم للعمل النظيف والشريف ولحكومة تكنوقراط لا تقوم على أساس المُخاصصة.

ومع تقديم سعد الحريري استقالة حكومته تكون أولى اللاءات التي وضعها حسن نصرالله قد سقطت، وبهذا يؤكد الشعب العربي رسالته من جديد، وهذه المرة من لبنان: (لا سلطة مهما كانت، سياسية أو دينية أو وطنية تستطيع فرض ولايتها على الشعب بالقوة).

وفي العاصمة الأردنية عمّان، كان هناك حدث عميق المعنى لا يقل أهمية عما ذكرنا آنفاً، وهو انتصار نقابة المعلمين في وقفتها الاحتجاجية ضد غطرسة الحكومة وتعاليها، ونجاح النقابة في انتزاع حقوق المعلمين بأداء نقابي عمّالي عالي المستوى، وسط تعاطف ومساندة الغالبية العظمى من طبقات المجتمع الأردني.

وإذا أخذنا في الحسبان الصراع التاريخي القائم بين الحكومات وحليفاتها شركات رجال الأعمال من جهة، وبين النقابات العمّالية من جهة أخرى، واضعين في الحسبان أيضاً، الأرق الذي تشكّله مؤسسات المجتمع المدني لأي حكومة في عالمنا العربي، لوجدنا ان هذا النصر قد أعاد إحياء الايمان بمنهجية النقابات العمالية وأهمية المؤسسات المدنية في المجتمع، وهو نصر آخر يضاف للربيع العربي.

ما يميّز هذه الموجة الثانية من موجات الربيع العربي أنها غدت أكثر ثراءً في الفكر والنهج، وأكثر حرصاً على عدم تكرار أخطاء الماضي، والأهم من ذلك، أنها تشهد إجماعاً من الشارع العربي أكثر من ذي قبل، فنسبة كبيرة ممن كانوا يؤيدون نظرية المؤامرة في السابق ويهاجمون الربيع العربي، أصبحوا اليوم على يقين أن أفكارهم التي بنوا عليها مواقفهم قد أثبتت خطأها.
فالولايات المتحدة والعالم الغربي لم يكونا يوماً من مناصري الديمقراطيات "الحقيقية" في عالمنا العربي، كما أنهم لم يساندوا يوماً حركات الإسلام السياسي للسيطرة على العالم العربي، بل على العكس من ذلك كانت الولايات المتحدة دوماً ما تساند الحركات الإسلامية المتطرفة وتتعاون معها من القاعدة إلى داعش.

وفي الحديث عن داعش، بات الجميع يعلم اليوم أن الربيع العربي بريء من هذه الجماعات الإرهابية، وأن المخابرات الامريكية والموساد ضليعان في انشاء وتكوين هذا التنظيم، لزرع الفوضى وإفساد الثورات المدنية في العالم العربي.
بل إن مسرحية مقتل قائد التنظيم "البغدادي" لم تمر على أحد، ومعظم من كان يلوم الربيع العربي على الفوضى والإرهاب، وانشاء داعش، بات اليوم يعلنها بكل صراحة ان الولايات المتحدة والموساد هما من خلقا داعش، وهما من يدّعيان اليوم القضاء على قائد التنظيم.

وفي مصر، أقر الكثيرون بخطئهم في الاستعجال في دعم الحركة الانقلابية، وعدم تغيير الحكم عن طريق صناديق الاقتراع، مما جعلهم اليوم يرزحون تحت رحمة العسكر لثلاثين عاماً قادمة، قابلة للتجديد!

أما في سوريا، فكل الأصوات الوطنية التي وقفت خلف بشار الأسد وعصابته الاجرامية، تحت شعار الوقوف ضد المخطط الإمبريالي الصهيوني، قد باتوا اليوم أكثر اقتناعاً بأن الدولة المدنية القائمة على التعددية السياسية وحرية الفكر، هي الضمان الوحيد للوقوف ضد ذلك المشروع، وأن شبه الدولة السورية اليوم، لا تمثل شيئاً للسوريين سوى مقامرة فاشلة قادها حزب فاشي لا يؤمن بالتغيير!

وفيما يخص حزب الله، فمن لم يفق من أحلامه الوردية حين دخل حزب الله على خط المواجهة مع آمال الشعب السوري ومطالبه الشرعية، فإنه اليوم قد أفاق من تلك الأحلام حين عاين بنفسه كيف يقف حزب الله وأنصاره في مواجهة الشعب اللبناني بالتهديد والتنكيل، خوفاً على مكانة الحزب، ومكتسباته السياسية، وخوفاً من مواجهة الخيار الديمقراطي الحقيقي للشعب اللبناني.
وباتت شعارات مواجهة العدو الصهيوني والتخويف من الفوضى، مجرد شعارات استهلاكية لا تسمن ولا تغني من جوع.

حزب الله مجرد سلطة فاسدة مثل أي سلطة أخرى في عالمنا العربي، الفارق الوحيد أنه يعمل في الخفاء ولا يتصدر المشهد، رغم أنه الحاكم "العسكري" في لبنان.
والأدهى من ذلك، أن الفكر الذي يقوم عليه حزب الله في الأساس هو نظام كهنوتي يؤمن بولاية الفقيه، وهو بذلك يعارض أي حكم مدني أو ديمقراطي من حيث المبدأ، فهو يرى أنه يمثل حكم الله في الأرض، وأن قداسة الحكم تتمثل في الأشخاص، وأن الأتباع لا يملكون سوى تنفيذ أوامر ذلك "القدّيس" لنيل رضا الرب، فكيف يتّسق ذلك كله مع من ينادي بالحرية ويطالب بدولة مدنية قائمة على أساس المؤسسات المدنية في المجتمع وأن الشعب هو مصدر السلطات؟!

في الختام نقول إن القادم أجمل وإن القادم أفضل، فالربيع العربي هو حركة ثورية رائدة وبديعة، تحمل أفكاراً راسخة لا تموت بخسارة معركة، والربيع العربي كذلك ليس حكراً على جماعة أو طائفة، بل هو ملك لكل مواطن عربي حر يحلم بدولة ديمقراطية تحترم حقوق الانسان وتقوم على أساس التعددية.

الربيع العربي حركة شبابية عفوية لا يقودها قائد أو زعيم أو قدّيس، ولكن هذا لا يجعل منها مؤامرة أو تنظيماً مشبوهاً، لأن الزمن قد عفا على الزعامات الأسطورية والمعجزات التي تنزل من السماء.

 الربيع العربي لم تسبقه ثورة فكرية أو نهضة لأن الفكر عندنا مُتخلّف، والنهضة قد تأخرت، وهذا لا يجعل من شباب الثورة مجموعة من المأجورين أو المغرر بهم والمضحوك عليهم، بل يجعل منهم أبطالاً شامخين أمام أقزام المثقفين والمفكرين والمتخلّفين عن الركب!

لا يوجد لدينا جان دارك ولا جان جاك روسو، ولا مارتن لوثر كينج أو نيلسون مانديلا، ولكن لدينا ذات الحلم، وذات الفكرة، مع اختلاف العصر وأدوات التطبيق ووسائل التعبير، فدعوكم من دروس التلقين والنقل، وانزلوا إلى الميدان لتكتبوا التاريخ بأفكاركم وحدكم وبشخوصكم، لا بالتقليد والمحاكاة.

لا تقبلوا بأنصاف الحلول، ولتبقى شعارات الحرية والعدالة، ومطالبات إسقاط أنظمة الفساد والحكم الكهنوتي والعسكر شعارات أبدية وميثاق حرية لكل مواطن عربي، وكلّن يعني كلّن!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
6-11-2019

الثلاثاء، 8 أكتوبر 2019

حلُّ الدولتين فرصة سلام أم خدعة استراتيجية؟




أن مرجعيّة " حل الدولتين " هو المبدأ الأساس الذي تعتمد عليه جميع مبادرات السلام الدولية والعربية، وهو ما يعني قيام دولة فلسطينية مستقلة على حدود عام 1967 (حدود ما قبل حرب النكسة)، فيما يحتفظ الصهاينة بالأراضي التي احتلوها قبل ذلك.
وتُعتبر قرارات مجلس الأمن الدولي في هذا الخصوص المرجعية القانونية لمشروع السلام في المنطقة، إذ أنها تشير إلى الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967 على أنها أراضٍ محتلة، وتطالب إسرائيل بالانسحاب منها.

ولكن دولة الاحتلال لم تعترف ولغاية اليوم بحق الفلسطينيين في قيام دولتهم على حدود عام 1967 رغم ماراثونات المفاوضات المستمر منذ مدريد إلى اليوم، ولم تعط أية ضمانات أو وعود أو عهود بذلك، حتى مع توقيعها اتفاقية أوسلو التي اعترفت من خلالها بسلطة حكم محلي فقط، أو ذاتي للفلسطينيين وفي أجزاء من الضفة الغربية وغزة، مع تأجيل النظر في ملفّي القدس واللاجئين.

فهل يمتلك حل الدولتين مؤهلات النجاح من وجهة نظر واقعية؟
مع ملاحظة أني هنا لا أتحدث عن الحق التاريخي في فلسطين، ولا عن بطلان المشروع الصهيوني، وجرائمه الاستعمارية، ولكني أحاول استعراض فرص مشروع  السلام انطلاقاً من ثوابته ومسلّماته.

الجغرافيا والتاريخ

تشكل مساحة فلسطين المحتلة بعد عام 1967 نحو 22% فقط من مساحة فلسطين التاريخية، مما يُفقد الدولة الفلسطينية "المفترضة" الشرعية والقبول لدى غالبية الشعب الفلسطيني، وهذا يجعل من قبول أي قيادة فلسطينية لهذا الحل في أي زمان ومكان مثار اعتراض وشكوك، وتساؤل عن أدنى شروط العدالة والانصاف التاريخي.

ليس هذا فحسب بل إن جغرافية المنطقة لا تسمح بقيام دولة مستقلة ذات سيادة بالمعنى الحقيقي لعدم وجود عمق جغرافي، مما يجعل من الصعب بمكان قيام دولة قادرة على العيش والاستمرار والاعتماد على نفسها في هذه المساحة الضيقة، فالضفة الغربية لا تملك مقومات قيام دولة مستقلة، لا من ناحية المساحة ولا الموارد، ناهيك عن البعد الجغرافي عن قطاع غزة، والذي سيؤدي في حال قيام الدولة إلى انفصالها الى دولتين.

الكثافة السكانية

يصل عدد سكان الضفة الغربية وغزة نحو 4.5 مليون نسمة يتواجدون على أراضٍ مساحتها نحو 6220 كلم مربع، بكثافة سكانية تصل إلى 723 نسمة في كل كم، بينما الكثافة السكانية في دولة الاحتلال لا تتجاوز نصف ذلك، وهذا يجعل من مسألة الكثافة السكانية عائقاً آخراً أمام قيام الدولة الفلسطينية، دون الخوض في مسألة عودة اللاجئين الفلسطينيين.

البُعد الديني

يؤمن الصهاينة أن لهم حقاً تاريخياً في فلسطين، وهذا الحق هو حق ديني مكتسب من الوعد الإلهي لأبناء إبراهيم، ومن هنا فإن القدس التي تحتوي على مقامات لأنبياء بني اسرائيل، وحائط المبكى وهيكل سليمان "المزعوم" تعتبر مدينة مقدسة يكتسب من خلالها المشروع الصهيوني أحقيته الدينية في قيام الدولة اليهودية.
وهذا يجعل من مسألة التخلّي عن مدينة القدس، أمراً مرفوضاً إذ أنه يتنافى مع البروباغندا الصهيونية التي تدعو إلى إقامة دولة يهودية أو وطن قومي لليهود على الأرض الموعودة.

الطاقة والمصادر الطبيعية

بالنظر إلى مصادر المياه المتاحة في فلسطين فإن نصيب أراضي الضفة الغربية لا يكاد يقارن بباقي مناطق فلسطين المحتلة عدا عن إطلالة فلسطين التاريخية على البحرين الأبيض المتوسط والأحمر. وهذا يجعل من مشكلة ندرة المياه والجفاف عائقاً أساسياً في وجه قيام الدولة الفلسطينية المفترضة.

أما منفذ غزة على البحر الأبيض المتوسط، فتلك قصة أخرى، إذ إن اكتشاف دولة الاحتلال لحقول الغاز الطبيعي قبالة شواطئ غزة، وتمكّنها من انتاج وتسويق هذا الغاز "المسروق" والذي يقول الخبراء أنه يؤمّن حاجة دولة الاحتلال للطاقة لمدة لا تقل عن خمسين عاماً قادمة، سيجعل من اعتراف دولة الاحتلال بالسيطرة الفلسطينية على المنفذ البحري لقطاع غزة، أمراً مستحيلاً!

وبالإضافة إلى آبار الغاز تلك، فإن أرض فلسطين غنيّة بالطبيعة المتنوعة والمناخ المتعدد، الأمر الذي ساعد دولة الاحتلال على تنفيذ عدة مشاريع استراتيجية، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، ومجموعة أخرى من المشاريع الزراعية والصناعية الضخمة في غور الأردن وعلى ضفاف البحر الميت وعلى موانئ البحر الأحمر، والذي تستغله أيضاً في إرساء مشاريع اقتصادية وزراعية وسياحية مع دول الجنوب الأفريقي.

هذا التنوّع في مصادر الطاقة والجغرافيا والمناخ، يجعل من مقارنة نصيب دولة الاحتلال، في مقابل ما يُفترض أن يكون دولة فلسطينية مستقلة، أشبه ما يكون بالقسمة الضيزى!

المستوطنات

قامت دولة الاحتلال الصهيوني على فكرة (أرض بلا شعب (فلسطين) لشعب بلا أرض (اليهود))، ومن هنا فقد عمد المشروع الصهيوني منذ عهد الانتداب البريطاني إلى استيعاب المهاجرين اليهود من كافة إنحاء العالم في مستوطنات متاخمة للسكان الفلسطينيين الأصليين، مما جعل شبكة المستوطنات اليوم في فلسطين أشبه ما تكون بالشبكة العنقودية التي لا تخلو منها مدينة او بقعة على أرض فلسطين.

وبالنظر إلى هذا الوضع القائم على الأرض، فلا توجد أبداً أية خطة عملية يمكن من خلالها استئصال هذا الورم السرطاني من الدولة الفلسطينية. وللاستدلال على ذلك نقول إن هناك نحو 750 ألف مستوطن يعيشون في مستوطنات الضفة الغربية وغزة، وإن الكيان الاستيطاني يعزل سكان القدس عن مدينتهم الأثرية، ويفصلهم عن التراث الثقافي والتاريخي الديني للمدينة المقدّسة، كما إنه من المُرجّح وبشكل كبير أن ينتهي به المطاف إلى فصل الضفة الغربية بأكملها إلى منطقتين منفصلتين، مما يجعل الدولة الفلسطينية المفترضة أشبه ما تكون بالكانتونات المُغلقة!

قضية اللاجئين والعودة

تعتبر هذه القضية أكثر القضايا الشائكة لحل الدولتين، حيث ترفض دولة الاحتلال الاعتراف بحق الفلسطينيين الذين هُجّروا وشرّدوا من أراضيهم في العودة إلى بلادهم، ناهيك عن تعويضهم، وفي المقابل فإنها تطالب دول الجوار بتوطين هؤلاء المهجرين واستيعابهم في مكان إقامتهم.

وعلى النقيض من ذلك، وبناء على مبدأ يهودية الدولة، تمنح دولة الاحتلال حق المواطنة لكل يهود العالم، وتعمل كل جهدها لإقناع اليهود في العالم للجوء إليها والعيش على أراضي فلسطين التاريخية، وهي من أجل ذلك لم تضع لها حدوداً رسمية تعترف بها، فهي دولة هلامية خبيثة تتمدد وتتضخم استجابة لمتطلباتها الديمغرافية والسياسية أو حتى الدينية.
   
إن الباحث في الصراع العربي الإسرائيلي ومبادرات السلام المختلفة، يدرك وبشكل قاطع أن دولة الاحتلال لم تؤمن يوماً بحل الدولتين او بأي حل سلمي للصراع، ويدرك أيضاً أن الهدف من وراء هذه المبادرات وماراثونات المفاوضات، كان واحداً من إثنين: إما دفع الفلسطينيين للاستسلام الكامل والخضوع، ومن ثم الانصهار في الدولة الصهيونية ليعاملوا معاملة مواطني الدرجة الرابعة، ويعيشوا داخل (غيتوهات) مشابهة للتي عاش فيها اليهود في أوروبا القديمة، أو إعلان الرفض التام للتفاوض وحينها سيتخذ الصهاينة من هذا الرفض ذريعةً لاستمرار الاحتلال وإبقاء الوضع كما هو عليه، وفي كلتا الحالتين فإن هدف المشروع الصهيوني في العبور إلى العالم العربي والتواصل الطبيعي معه، سيتحقق ولو من باب التعامل مع الأمر الواقع!

إن مسألة السلام والمفاوضات برمتها، خدعة استراتيجية عظمى، ولعل من سخريتها الشديدة أن تكون أمريكا هي الراعية لمبادرات السلام والضامن لها، بينما في الحقيقة تقف أمريكا وإسرائيل في ضفة واحدة في مواجهة العرب والفلسطينيين (إن لم يكن العالم أجمع)، والمفترض أن يكون هناك طرف ثالث محايد لإدارة المفاوضات لا أن يكون القاضي هو أحد أطراف النزاع!

وبرغم كل ما ذكرناه من تحديات وعوائق تجعل من حل الدولتين مستحيلاً من الناحية العملية، إلا انه لسبب أو لآخر يستمر الساسة في كل عصر في محاولة إقناع أنفسهم (وأنفسنا بالضرورة) بإمكانية إيجاد حل سلمي وإقامة دولة فلسطينية بالتراضي مع العدو الصهيوني، والمصيبة الكبرى أن الكثير من عموم الشعب العربي بات يؤمن بهذه الفرضية وبشدّة، ولعلّه في المستقبل القريب يلوم الفلسطينيين على تشدّدهم وصلفهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
7-10-2019

الثلاثاء، 1 أكتوبر 2019

من يحكمُ العالم؟

انشغل السياسيون والكُتّاب والمثقفون في كل عصر في دراسة الأوضاع السياسية والاقتصادية في العالم، سعياً وراء فهم التحالفات الدولية والإقليمية، وموازين القوى المختلفة، في محاولة لاستشراف مستقبل العالم والتنبؤ بالقوى الصاعدة وقدرتها على تغيير قواعد اللعبة، بما يُفضي إلى بزوغ نجم زعامات جديدة.
في المقابل ينشغل العالم الثالث (البعيد عن مراكز التأثير في العالم) في الحديث والبحث عن مراكز القوى الخفيّة (اللوبيات والحركات السرية التي تقود العالم في الخفاء) والتي تؤثر في نهج السياسة الدولية، وكل ذلك ينضوي ضمن ما يُعرف ب "نظرية المؤامرة" التي يُفضّل أصحابها توجيه أصابع الاتهام إلى المؤامرات والقوى الخفية بدلا من الاعتراف بالفجوة الحضارية القائمة، ومعالجة أسبابها الحقيقية.

في عصرنا الحاضر، أشار الكثير من المُفكّرين والباحثين إلى تصاعد قوى جديدة في العالم مثل الصين واليابان والهند وتركيا والبرازيل، واقتصاديات شرق آسيا، مقابل أزمات حقيقية تعيشها أوروبا الغربية وأمريكا، إضافة إلى أزمات روسيا القديمة المتجددة. فيما يتصاعد الجدل حول دور وواجبات المؤسسات الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد ومجلس الأمن ومحكمة العدل العليا، ومدى إسهام هذه المؤسسات في ضمان هيمنة الدول المتقدمة، بل واستمرار استغلالها لباقي دول العالم ومصادرة ثروات تلك الدول وقراراتها السيادية.

ولكن ثمّة قطعة ناقصة في هذه الأحجية، لا تكتمل الصورة بدونها ألا وهي ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وبالأخص البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي، وتأثير ذلك على تغيير قواعد اللعبة وقلب موازين القوى في المستقبل القريب.

إن الاستحواذ على البيانات والمعلومات وتحليلها ثم ربط الخيوط بعضها ببعض للوصول إلى فهم أفضل لسياسات الدول ورغبات وتوجهات مجتمعاتها، مع النجاح في اختراق وعي تلك المجتمعات والتأثير على رؤيتها وقراراتها ورغباتها وأهدافها، يُعتبرُ اليوم القوة الأكثر تأثيراً في السياسة العالمية، بل تكاد تكون القوة المستقبلية التي ستحكم العالم بلا منازع.
ففي الوقت الذي انحسرت فيه الحروب الكلاسيكية بالنظر الى فاتورتها الباهظة (لك أن تتخيل أن تكلفة الحروب التي خاضتها الولايات المتحدة منذ عهد بوش الابن الى نهاية عهد أوباما قد وصلت إلى 4.4 تريليون دولار) ناهيك عن الخسائر البشرية، فقد وجدت الدول الكبرى أن أفضل بديل هو الاستثمار في التكنولوجيا ووسائل التواصل إضافة إلى الاعلام التقليدي، من أجل التأثير في الوعي المجتمعي، واستخدام البروباغندا الموجهة لفض النزاعات السياسية أو فرض توجهات سياسية معينة، وقد أثبت هذا التوجه نجاحاً باهراً في العقد الحالي. 
فعلى سبيل المثال لعبت شركة كامبريدج أناليتيكا دوراً رئيسياً في التأثير على تصويت الناخبين في الانتخابات الأمريكية عام 2016 من خلال شراكتها مع حملة ترامب، حيث قامت بدراسة بيانات الناخبين "المسروقة" وتخصيص رسائل موجهة وأخبار كاذبة عبر شبكات التواصل الاجتماعي ووسائل الاعلام، من أجل تحفيز الدوافع اللاشعورية لدى هؤلاء الناخبين ودفعهم للتصويت لترامب وإسقاط منافسته كلينتون، مستفيدة من تجربتها السابقة مع "أشقياء بريكست" الذين فعلوا الشيء نفسه لدفع البريطانيين إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي، من خلال تغذية شعور المواطنة "المزيّف" والتخويف من المهاجرين، إضافة إلى انتقاد قوانين الاتحاد الأوروبي، وهو ما يُثبت بما لا يدع مجالاً للشك، أن امتلاك القدرة على الوصول إلى البيانات ومعالجتها ثم التخطيط الاستراتيجي بناء على تحليل تلك البيانات، هو القوة الخفية التي تدير شؤون العالم اليوم.

في السابق كانت دول العالم تنفق ملايين الدولارات وتستثمر في مخططات استخباراتية تجسّسيه تتطلب العمل المُضني لعدة سنوات، من أجل الحصول على معلومات حيوية عن الدول أو المجتمعات المستهدفة، وكان ذلك كله محفوفاً بالمخاطر.
ولكن اليوم، وبفضل الثورة الرقمية تتوافر جُلّ البيانات والمعلومات في العالم الرقمي (بما في ذلك السرية منها)، وما على الدول الراغبة، سوى الولوج إلى هذه المعلومات (أو قرصنتها) واستخراجها وتحليلها والاستفادة منها في بناء الخطط الاستراتيجية.

في ظل هذا الاختراق الكبير لوعي المجتمعات، يتساءل الناشطون والحقوقيون، عن مستقبل الديمقراطية والتصويت الحر، في ظل هذا الكم الهائل من المعلومات المغلوطة والأخبار الموجهة عبر شبكات التواصل الاجتماعي، والبروباغندا السياسية المبنية على عوامل الخوف والأمن والاعتزاز بالعرق واللون والانتماءات الطائفية!
لم يكن أحد يتصوّر أن تقوم أجهزة الاستخبارات، باستغلال التكنولوجيا وأجهزة الحواسب الشخصية والهواتف النقالة للتجسس على خصوصيات الأفراد حول العالم، بل والتجسس على مواطنيها في بعض الأحيان. كنا نتصور أن يحدث هذا في أفلام الجاسوسية فقط، ولكن بعد تسريبات سنودن ووثائق ويكيليكس، تبيّن ان الواقع أكثر إيلاماً من أفلام السينما، وأن حياتنا تحاكي تلفزيون الواقع مع اختلاف بسيط اننا لا نعلم بأننا أبطال المشهد!
ونحن في العالم العربي لسنا ببعيدين عن تأثير هذه الحروب الالكترونية الجديدة، ويكفي أن نشير إلى التراجع الحاد الذي شهدته ثورات الربيع العربي بفعل التخويف من الإرهاب والجماعات المتطرفة (نظرية الأمن والأمان واستقرار البلد) والذي أدى في النهاية إلى ترجيح كفة الزعامات السلطوية والديكتاتورية في مواجهة المطالبات الشعبية للإصلاح.
أضف إلى ذلك استغلال نظرية المؤامرة الصهيونية والتي تم توجيهها من قبل ذات الأنظمة لدعم مواقفها "الوطنية" وضمان استمرارها في الحكم، أو في بعض الحالات العودة للقبض على السلطة مجدداً.
ناهيك عن نشوء مؤسسات "الذباب الالكتروني" التي تقوم ببث رسائل موجهة، وأخبار زائفة وملفقة للتأثير في الرأي العام، ورسم سياسات عامة للمجتمع.

في النهاية يمكن القول إن ما قامت به شركة كامبريدج اناليتيكا من الناحية التكنولوجية البحتة هو عمل إبداعي بكل معنى الكلمة (بعيداً عن جريمة خرق الخصوصية التي اقترفتها ودفعت ثمنها غالياً بإعلان إفلاسها)، إذ أن تسخير التكنولوجيا لتحليل بيانات مستخدمي الشبكات الاجتماعية وفهم سلوكهم، ثم بناء أنماط سيكولوجية لهم والتنبؤ بنوازعهم وتوجهاتهم، ومن ثم تحديد الشرائح القابلة للتغيير منهم، واستهدافها من خلال بروباغاندا موجهة، ثم النجاح في دفعهم لاتخاذ القرار المراد لهم اختياره (في بعض الدول كان الهدف هو إقناع الناخبين بمقاطعة الانتخابات) لهو قفزة هائلة في علوم التكنولوجيا والسيكولوجيا وعلوم الاجتماع، وكل ما نأمله أن تخدم هذه القفزة التكنولوجية خير البشرية وحقوق الانسان لا أن تكون سلاحا جديداً في يد الطغاة.
كما نأمل أيضاً ان تقوم مؤسساتنا التعليمية والفكرية وشركات التكنولوجيا في عالمنا العربي بالاستفادة من هذه الثورة التكنولوجية الرقمية، وتسخيرها لخير البلاد والعباد، لعلّنا نرتقي إلى سلّم الحضارة مجددا، ونصبح من المؤثرين في هذا العالم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
29-9-2019