عَظَمة مُحمّد الإنسان التي أغفلتها موروثاتنا
ونحن نحتفل بذكرى المولد النبوي الشريف، أعتقد أن
علينا مراجعة تراثنا التاريخي، والمفاهيم التي توارثناها حول شخصية سيدنا مُحمّد(ص). أعتقد جازماً أن أمتنا الإسلامية قد
شاركت من حيث تدري أو لا تدري في هضم حق سيدنا مُحمّد (ص) تاريخياً، وذلك بعدم ايلائها
الأهميّة الكافية لجوانب العظمة الشخصيّة التي تمتّع بها، والتي أسهمت في نجاح
مهمته وإيصال تعاليم الإسلام ورسالة الله للعالمين، حيث كان جُلّ همّ كتبنا
التراثيّة منصبّاً على سرد السيرة النبويّة سرداً قصصياً مُشبعاً بالحديث عن
المعارك والمُعجزات، مع قلّة التركيز على التجربة الإنسانية.
لقد أهملنا صورة مُحمّد الإنسان،
واختزلنا عمره قبل عهد النبوة ببضع صفحات، دون أن نسبر أغوار هذه الشخصية ونتعمّق
فيها. لقد عاش مُحمّد عمره وهو يبحث عن الحقيقة، حقيقة هذا الكون، ساعياُ لها وباذلاً
جهده لكشف أسرارها وفهم أُسس علاقة الإنسان بخالقه ودوره في هذا الكون. هو أشبه ما
يكون بالفيلسوف المُترفّع عن ممارسات قومه الوثنيّة وعاداتهم الجاهليّة والملتزم
بتعاليم الأب إبراهيم التي حاد عنها العرب، لقد مارس الإعتكاف والفكر التأملي، متمعناً
في قيم هذه الحياة ودور البشريّة فيها وعلاقة الإنسان بالكون وما حوله، ولقد
أكسبته الصحراء ورحلاته المتعددة التي جاب فيها الجزيرة العربية وما حولها تلك
البصيرة التي جعلته يرى الكون أعظم من أن يتم اختزاله في علاقة البشر ببضعة
تماثيل، وقد انطبق عليه قول الله تعالى ( يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ ۚ وَمَن يُؤْتَ
الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا ).
من الأمور التي لم تأخذ حقها في
تأريخ سيرة سيدنا مُحمّد أيضاً، هي صفاته وأخلاقه قبل الإسلام، ولعل الصفة الوحيدة
التي ركّزت عليها كتب السيرة صفة ( الصادق
الأمين )
ولكن هذا ليس كل شيء، فمُحمّد النبي بصفاته وأخلاقه الحميدة كان قبل الإسلام وبعده
مثالاً للخُلُق والقيم الإنسانيّة الرفيعة، لم يَعْبُدِ الأصنام ولم يُعاقر الخمر
ولم يُصاحب النساء، ولم يأدِ البنات، وكان من أحسن الناس سيرةً ومجلساً وصحبةً
ورفقة، ولو كان عكس ذلك لما كان مؤهلاً لحمل الرسالة ولما آمن به أحدٌ من قومه،
وهذا يقودنا بالتالي الى إعادة النظر في الصورة النمطيّة التي تُصوّر الجيل الأول
وكانه تحوّل بأعجوبة بين ليلة وضحاها من وثنيٍّ مُدمنٍ للكحول و زيرِ نساء الى
ناسكٍ مُتعبّد بمجرد نطقه للشهادتين! باعتقادي الشخصي أن في هذا مبالغةٌ كبيرة
وتعميمٌ ليس في محلّه، ناهيك عن تعارضه مع بعض الأحاديث الصحيحة مثل (خِيارِكُم في الجاهلية خِيارِكُم في الإسلام) وأيضاً (إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق)، والحديث الأخير يؤكد أيضاً أن
رسالة الإسلام هي مُكمّلة للديانات السماوية السابقة، وأن مجموعة الأخلاق والقيم
الإنسانية بدأت منذ عهد سيدنا نوح وتراكمت الى أن وصلت صيغتها النهائية في عهد
سيدنا مُحمّد.
لقد خفيَ علينا أن مُحمّد النبي
قد استحقّ حمل هذه الراية بفضل اجتهاده وسعيه للوصول الى حقيقة الخلق والخالق،
وكما قال المتنبّي (على قدر أهل العزم تأتي
العزائمُ)،
وأنه كان موضع اختبارٍ عظيم في تحقيق المرحلة التأسيسية لهذا العهد الجديد، وهو الذي
بذل كل امكانياته وطاقاته وجهده، وسخّر لهذا الهدف كل ما استطاع من اجتهاداتٍ
شخصية واستقصاءات، وبحثٍ وعملٍ انساني لنشر تعاليم الرسالة وتهيئة الحاضنة القادرة
على استيعاب وتطبيق تعاليم هذا الدين ومن ثمّ العمل على نشرها الى العالم أجمع، فأصاب
وأخطأ وتعلّم من أخطائه ونجح في النهاية بتوريث مدرسة فكرية متكاملة قادرة على
الاستمرار والازدهار والتكيّف تحت أي ظرف كان.
حتى أن تعظيمنا لمُحمّد النبي
واقتدائنا به كما ورد في مُجمل كتب التراث كان بسبب عِصْمته والوحي الذي لازمه في
كلامه وتصرفاته، وفي هذا ظلمٌ للجانب البشري لهذا النبي، ولإجتهاداته الإنسانيّة
كقائد وحاكِم، والتي تُعتبر واحدة من أعظم المناهج التي اقتدى بها العظماء على
مستوى العالم ناهيك عن أصحابه المُقرّبين والجيل الأول من المسلمين، سواءً في
المجال العسكري والسياسي، أو الإجتماعي أو في مجال الإقتصاد وباقي مجالات الحياة
المختلفة.
من أفضل ما قرأتُ مؤخراً من كتب مُعاصرة تهدف
الى إعادة فهم السيرة المُحمّديّة وتصحيح المفاهيم الخاطئة، هو كتاب (السُنّة الرسوليّة والسُنّة النبويّة) للدكتور مُحمّد شحرور، وفيها
يذكرُ المؤلف أن مفهوم العِصْمة الكونيّة "المُطلقة" للأنبياء تتنافى مع فضل الإتيان بالصالحات واجتناب
السيئات، وأن العِصْمة محصورة فقط في تبليغ الرسالة والأحكام، مع فتح باب الإجتهاد
في مجالات الحياة المختلفة. كما يفرّق د. شحرور بين مقامات سيدنا مُحمّد (الرسول
والنبي ومُحمّد الإنسان) ويقول إن المطلوب من أتباع مُحمّد إتّباعَ رسالته "مقام الرسول"، والإقتداء بالمنهجيّة التي اختطها "النبي" مُحمّد وباجتهاداته في عصره وفتحه الباب على أوسع
نطاق للعمل والاجتهاد والسعي في الحياة بعيداً عن الجمود، وليس المطلوب منا تقليد مُحمّد
في طريقة لبسه ومأكله وعاداته الشخصية.
في النهاية، مُجمل القول أن كتبنا التاريخيّة قد
قفزت عن الدور الإنساني للنبي مُحمّد، المُجتهد والقائد العظيم في السِلْم والحرب،
وعن دوره في تأسيس الدولة المدنيّة التي تُراعي حقوق المواطنين على اختلاف عقيدتهم
وعِرْقهم وطبقاتهم الاجتماعية؛ بقيت صورة مُحمّد حبيسة إطار القائد المُلهَم
والمُوحى اليه، وهي أشبه ما تكون بالرجل الذي كان على موعدٍ مع القَدَر لتحقيق
المعجزة الإلهية باتباعه تعليمات الرب، دون الحاجة الى أي قدرات بشرية خاصة او أي
عناء واجتهاد أو بناء للمعرفة، وهذه الصورة النمطيّة هي ذاتها التي تجعل هذه الأمة
(على مر الأجيال) تترقّب ظهور "المَهْدي المُنتظَر" -ذلك القائد المُلهَم أيضاً والذي
سيأتي لتخليص هذه الأمة من أزماتها- بدلاً من التركيز على الجهود الفردية
والمؤسساتيّة للنهوض بحال هذه الأمة، وترك الغَيْب لِعالِمِ الغَيْب كما يُقال، بل
إن تفكيرنا الجمعي كأُمّة كان دائماً ما يصبو الى خلق وابتكار الرموز من قادة
وزعامات وتسليمهم أمرنا، إيماناً منّا بأن لهم رؤية خاصة وقدرات تفوقنا نحن المواطنين
العاديين وأن واجبنا هو اتباعهم فقط !
أيمن يوسف أبولبن
8-12-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن