بعد أن وضعت الحرب
أوزارها، و تم التوصل الى هدنة بعد مضي اسبوع واحد من العدوان الاسرائيلي على غزة، يتبادر الى الأذهان سؤال بديهي عن
نتائج الحرب وما آلت اليها، وانا لا أقصد هنا عدد الضحايا او الحصيلة المادية
للخسائر، بل أتحدث عن المكاسب السياسة والمعنوية وتاثيراتها المستقبلية على
الجانبين وعلى المنطقة بشكل عام .
عندما بدأ العدو الاسرائيلي اعتداءاته على غزة أو حملة " عمود الغمام" كما أطلقت عليها اسرائيل، حددت القيادة
العسكرية اهدافها بتقويض القدرة الصاروخية لدى المقاومة الفلسطينية، وردعها من أي
عمل " عدواني" في المستقبل، ومع
نهاية الحرب يبدو من الواضح أن اسرائيل فشلت تماما في تحقيق أهدافها، بينما حققت
المقاومة مكاسب كثيرة.
من
أبرز المكاسب التي حققتها المقاومة بنظري هي اعادة الأمل بالمقاومة والانتصار من
جديد، فبعد سنوات عجاف طغى فيها طابع الحل السلمي والمفاوضات على القضية
الفلسطينية مع سلسلة من التنازلات المتلاحقة بدءا بمفاوضات مدريد ومرورا باوسلو و
انتهاءً بتصريحات عباس الأخيرة، تعود المقاومة المسلحة الى الواجهة من جديد، كخيار
استراتيجي لا بديل عنه .
المقاومة هذه المرة فاجأت العدو الاسرائيلي بقدرتها الصاروخية، ووصول مداها
الى تل أبيب والقدس لأول مرة، ليس هذا فحسب بل ان الأهداف المنتقاة كانت نوعية،
وتنم عن عمل كبير من قبل حماس لجمع المعلومات الأمنية الكافية عن الأهداف العسكرية
داخل اراضي فلسطين 48 والقدرة على اصابتها. كانت الضربات الصاروخية نوعية ومؤثرة،
وأحدثت خسائر مادية كبيرة وخسائر في الأرواح أيضا، لم تعلن اسرائيل رسميا عن
خسائرها في هذه الحرب حتى الآن، ولكن وسائل الاعلام الاسرائيلية اعلنت عن مقتل 17
اسرائيليا على الأقل، واصابة أكثر من مائة جريح، هذا بالاضافة الى أنباء غير مؤكدة
عن اسقاط طائرة عسكرية وأسر قائدها.
حرب
غزة القصيرة أعادت الى الأذهان صورة اسرائيل الضعيفة والهزيلة، وصورة المواطن
الاسرائيلي الجبان، شاهدنا جميعنا الاسرائيليين وهم يهرعون الى الملاجىء وعلامات
الهلع بادية عليهم، وفي المقابل كانت صور الصمود من غزة تتصدر الأحداث، فابتسامة
الطفل الفلسطيني تسرق الاضواء من الدماء التي تغطي وجهه، وصوة الطفل الجريح وهو
يشير بعلامة النصر، تتصدر قائمة أكثر الصور تأثيرا .
كان
واضحا من البداية أن الصمود هو من سيحسم المعركة في النهاية، وهذا ما راهنت عليه
القيادة السياسية في حماس، التي ادارت
المعركة بمستوى عال جدا من الحنكة والارادة والتصميم، وصدق رهانها في النهاية حيث
اثبت المواطن الفلسطيني بأنه صاحب الحق في هذه الأرض، بينما بدا واضحا ان
الاسرائيلي القادم من وراء البحار يفضل النجاة بحياته لأنها أثمن واغلى من ان يفرط
بها من اجل قيام دولة مزعومة ليس لها أي أمل في الاستمرار .
بعد عدة اعوام من غياب القضية الفلسطينية عن المشهد العام في المسرح
السياسي العربي، عادت فلسطين لتأخذ مكانها
الطبيعي في الصدارة، وتشغل أروقة السياسيين في العالم أجمع، فها هي مصر تنفض الغبار
عن كاهلها وتتناسى أوجاعها الداخلية وتضع حرب غزة في مقدمة أولوياتها. استرجعت مصر
بُعدها القومي باتخاذها لموقف سياسي جريء تكلل في النهاية بالتوصل الى هدنة سريعة،
ولعل الموقف المصري كان من أكثر المواقف السياسية تأثيرا على حكومة اسرائيل وعلى
مناخ المنطقة بشكل عام، فسرعة ردة فعل الرئيس مرسي ولهجته الحازمة والواضحة كانت
صفعة قوية للادارة السياسية في اسرائيل التي عولت على انشغال مصر بأمورها ومشاكلها
الداخلية .
عولت اسرائيل على الانشقاق الفلسطيني، وحاولت استدراج حماس الى خارج الاطار
الفلسطيني العام، ولكن المفاجأة كانت بعودة قنوات الاتصال بين حماس و فتح مجددا،
وعودة كافة الفصائل للانصهار في بوتقة واحدة اسمها فلسطين، بل ان مناطق 48 شهدت
مظاهرات حاشدة تأييدا لغزة، تأكيدا لمقولة أن الوطن في النهاية فوق الجميع بغض
النظر عن الزمان والمكان والانتماءات السياسية. وعلى النقيض من ذلك بدا واضحا
ارتباك القيادة الاسرائيلية وتعرضها لضغوط واسعة داخليا وخارجيا، وبدا هذا واضحا
في تصريحات السياسيين هناك وانتقاداتهم لأداء الحكومة، وانكار المسؤولين للحقائق على الارض، وهذا ما يؤكد أن الخاسر
دائما ما يلجأ للكذب ليواري فشله، وأن هذا ليس مقترنا بطرف دون الآخر .
أعجبتني صورة معدلة على الفوتوشوب شاهدتها على مواقع التواصل ولم أحتفظ بها،
مأخوذة لصورة قديمة جمعت بين نتنياهو واوباما وتمت اضافة حوار يتوجه به نتنياهو
لاوباما طالبا مساعدته وهو يقول " يا زلمه هادول مجانين يمكن يطلع عندهم نووي !! " بالفعل هؤلاء
مجانين " في فن السياسة " لا يعقلون " الخطوط الحمراء" ولا يحسبون حسابا
" لموازين القوى" ولا " للمجتمع الدولي"، بالفعل هؤلاء
مجانين لانهم تجرأوا وقصفوا تل ابيب والقدس، وتجاوزوا كل الخطوط الحمراء من أول
يوم للعدوان، هؤلاء لا يعرفون فن " التكتيك" و " المراوغة" وحرب " المفاوضات" .
قد
قالها درويش قديما :
أنا لا أكره الناس
ولا أسطو على أحد
ولكني اذا ما جعت
آكل لحم مغتصبي
حذار حذار من جوعي
ومن غضبي
هزيمة اسرائيل بدت واضحة في قبولها للهدنة، حيث
انها اعترفت بحماس ضمنيا وبسيطرتها على غزة، بعد ان كانت تعتبرها منظمة ارهابية،
وبدت الهزيمة جلية واضحة في شروط الهدنة، حيث فشلت اسرائيل في فرض شرط " منع التسلح وتهريب الأسلحة " كما انها رضخت لشرط رفع الحصار
تدريجيا عن غزة، وهي اكبر مكاسب المقاومة على ارض الواقع بانتظار تحقيقها قريبا،
وتوالت الهزائم السياسية بانخفاض شعبية نتنياهو حيث أكدت الاستفتاءات ان ثلثي
الاسرائيليين غير راضين عن أداء قيادتهم في ادارة الحرب .
هل
خرجت اسرائيل خالية الوفاض ؟ بالطبع لا، فاسرائيل استطاعت أن تحقق بعض النجاحات
الجانبية هنا وهناك، ومنها أنها اختبرت قدرتها الدفاعية باستخدام القبة الحديدية،
والتي أثبتت فشلها في تحقيق الأمن الذي تصبو اليه اسرائيل، بالرغم من التصريحات
الاعلامية الايجابية، فنسبة النجاح في التصدي للصواريخ لم تصل بعد الى النسبة
المقبولة للحفاظ على أمن اسرائيل الداخلي، وهذه النقطة سوف تستغلها اسرائيل جيدا
في ابتزاز امريكا من أجل دعمها عسكريا في المستقبل القريب وتطوير هذه المنظومة
الدفاعية، كما انها اكتشفت فشل سياستها في منع المقاومة من التسلح وتهريب الأسلحة
عدا عن تطوير الأسلحة داخليا، وتأكدت ايضا من أن مصر اليوم غير مصر مبارك، وبناء
عليه ستسعى اسرائيل لسد الثغرات الأمنية لديها والعمل على مخطط لتحجيم قدرات
التسلح للمقاومة، كما انها ستعيد النظر في سياساتها في المنطقة بعد الربيع العربي
.
أبطال المقاومة أعادونا الى بدايات الثورة وأعادوا احياء أواعادة اكتشاف
أهداف الثورة الفلسطينية، المقاومة الفلسطينية وضعتنا على الطريق الصحيح من جديد،
وأثبتت لنا أن المناضل لا يضع بندقيته جانبا، حتى وان رفع غصن الزيتون .
أيمن أبولبن
1-12-2012