*النساء والبنين*
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ
وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ
وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ۗ ذَٰلِكَ مَتَاعُ
الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ)
آل عمران 14
قام المفسرون الأوائل بنفسير هذه الآية على
النحو التالي: ( زُيِّن
للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عدّ) والمقصود هنا حب
المرأة وكثرة الأولاد.
وهو بلا شك تفسير يتعارض مع أصول اللغة ومع
فحوى الآية، فكيف يمكن القول إن الناس (بكافة أجناسهم وأعمارهم) يحبون النساء
(المرأة) والبنين (الأولاد)؟!
الله سبحانه وتعالى يتحدث في هذه الآية عن
ملذات الحياة الدنيا بكافة أشكالها وانواعها، وكيف أنها وجدت لإسعاد الناس وفي ذات
الوقت هي فتنة وامتحان لهم، ثم يقوم بتذكيرنا بأن السعادة النهائية والملذات
الحقيقية الدائمة في الحياة الآخرة وليست في الدنيا.
فهذه دعوة للاعتدال والتقنين في استهلاكنا
وحسن إدارتنا لهذه الموارد مع دعوتنا إلى العمل الجاد لنيل السعادة الدائمة
والحقيقية في الآخرة.
هذا الخطاب لا يخص الرجال دون النساء
وبالتالي لا يمكن أن تكون مفردة النساء هنا بمعنى جمع للمرأة
كما لا يمكن أن يكون البنون هنا بمعنى
الأبناء، إذ لا يجوز مساواة المرأة والأبناء بمتاع الدنيا الزائل مثل الذهب
والأنعام !
لقد استخدم الله سبحانه وتعالى مفردة النساء
للدلالة على جمع المرأة، وعلى جمع (النسيء)، بمعنى المستجد من الأشياء (الموضة) أي
حب الناس لمتابعة أحدث الصيحات والصناعات والتجديدات، فالبشر بطبعهم يميلون إلى
التجديد (تجديد الأثاث والملابس والسيارات والموبايل ....الخ) رغم أن ما يمتلكونه
لا عيب فيه ويمكن الاستفادة منه، ولكنها سنة الله في الكون كي تستمر الحياة وتدور
عجلة الصناعة.
والله هنا يدعونا إلى حسن التصرف وتقنين
نزعتنا الاستهلاكية وعدم الانجرار وراء شهواتنا بشكل غير مبرر.
و "البنين" هنا من البنيان وليس الأولاد،
فالانسان بطبعه يميل إلى تشييد البنايات وامتلاك العقارات والتباهي بها.
الدليل:
أولاً: لقد استخدم الله سبحانه وتعالى لفظ
"الرجال" في كتابه العزيز لجمع "رجل" ولجمع "راجل"
أي الذي يمشي على رجلين.
(وأذّن في الناس بالحج يأتوك رجالاً
وعلى كل ضامر) أي يأتوك راجلين وراكبين.
وعلى نفس المنوال تم استخدام النساء للدلالة
على جمع مرأة وعلى جمع نسيء
ثانياً:
(إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي
الْكُفْرِ)
والنسيء المقصود في الآية هو استبدال الأشهر الحرم والتعدي على
عدتها، والنسيء في اللغة هو الإطالة والتأخير (استحداث الشيء)
ن س أ: المِنْسأَةُ بكسر
الميم العصا تُهمز وتُليَّن و النَّسِيئَةُ كالفعيلة التَّأخير وكذا
النَّسَاءُ بالمد و النَّسِيءُ في الآية فَعِيل بمعنى مفعول من قولك
نَسَأَهُ من باب قطع أي أَخره فهو مَنْسُوءٌ فحُوِّل مَنْسوء إلى نَسِيءٌ كما
حُوِّل مقتول إلى قتيل والمُراد به تأخيرهم حُرمة المُحرم إلى صفر
معجم المعاني الجامع
ثالثاً:
البنون من البنيان
ابتنَى المنزلَ: بناه، أقام جدارَه
ونحوَه
اِبْتَنَاهُ لأِدَبِهِ : أَحْسَنَ إلَيْهِ
اِبْتَنَى الرَّجُلُ : صَارَ لَهُ
بَنُونٌ
معجم المعاني الجامع
ملاحظة أخيرة:
سبق القول بأن الله سبحانه وتعالى جعل كتابه
قابلاً لاحتواء التطور المعرفي للبشر بحيث يفهمه كل جيل بناء على معطيات عصره
ويعمل به، ثم يأتي جيلٌ آخر فيكتشف فيه معانٍ دفينة يسبر أغوارها بما وصلت له
معارف عصره ويسنير بهذه المفاهيم الجديدة.
وسر إعجاز القرآن هو قدرته على إحتواء
المعارف البشرية على مر العصور، ففهم الجيل الأول كان محصوراً بثقافة ذلك العصر
وهي ثقافة ذكورية بلا شك، ولكن مع تطور الحياة وتغيير المفاهيم استطاع الباحثون
استكشاف معانٍ أخرى تتوافق مع النص ومع الثقافة المعرفية للعصر وهذا لا يسيء إلى
الأجيال السابقة ولا إلى من يجتهد ويستخرج معان جديدة من آيات القرآن الكريم.
وهذا ينطبق على فهمنا المعاصر للرق والعبودية
وملك اليمين والقوامة ومكانة المرأة والكثير من المفاهيم المتوارثة، فالقرآن
الكريم وضع الأساسات لتغيير المفاهيم وإصلاح المجتمعات وترك للبشر الاجتهاد حسب
معارف عصرهم وارتقاء حضاراتهم، لأن التغيير لا يتم بالفرض بل يأتي مع التطور
والارتقاء في الحضارة والعلوم البشرية.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
7-5-2021
#آيات_استوقفتني_5
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق