يمتاز
أدب الكاتب الياباني "هاروكي موركامي"
بطابع الغرائبية والميتافيزيقيا (ما وراء الطبيعة)، الذي يعتمد على المزج بين الواقع
والخيال، بهدف نقل القارئ الى عالم أسطوري عجائبي يكون قادراً على إطلاق العنان
لخيال القُرّاء ومشاعرهم وأحاسيسهم على حد سواء، لكنه يحتفظ ببناء الشخصيات
الواقعية بكل ما تحمله هذه الشخصيات من تناقضات بشرية وأفكار وصراعات يختلط فيها
الأمل وحب الحياة مع الذكريات والأوجاع وانكسارات الزمن، وهكذا ينصهر الحلم في الحقيقة،
والخيال في الواقع، مما يدفع القُرّاء لإعادة التفكير في واقعهم وهم يتنقلون عبر
صفحات الرواية.
وحده
" هاروكي موركامي" قادر على دفع القارئ لسبر
أغوار حلم جميل سحري ولكن في ذات الوقت يجعله يغوص في أعماق ذاته ويتعرف على
أسرارها من خلال ارتباطه بشخصيات الرواية أكثر من ارتباطه بالقصة أو الحبكة
الدراميّة.
يضاف
الى ذلك الإسقاطات الفلسفية التي ينثرها الكاتب بإتقان وسلاسة ودون أدنى تكلّف على
فصول الرواية، والمعلومات التاريخية والفنية والأدبية الغنيّة التي تتضمنها سطور
الحكاية، مما يزيدها جمالاً وألقاً ويضفي عليها قيمة أدبية راقية. يقول الكاتب على
لسان إحدى شخصياته في الرواية “القدر أحياناً يكون كعاصفة رملية صغيرة لا تنفك تغير اتجاهاتها، تُغيّر
اتجاهاتك أنت، لكنها تلاحقك. تراوغها مرة بعد أخرى، لكنها تتكيّف وتتبعك...... حين
تخرج من العاصفة، لن تعود الشخص نفسه الذي دخلها، ولهذا السبب وحده، كانت العاصفة!"
لعل
اختيار اسم بطل الرواية بحد ذاته (كافكا)، دليل على الغموض الذي
يكتنف الرواية، والعالم الغريب الغامض الذي يغلّف أجواءها، حيث قصد المؤلف محاكاة
الأديب التشيكي "فرانس كافكا"
(توفي عام 1924) الذي يُعرف في الأوساط الأدبية بأنه مؤسس الغموض والعبثيّة في
الأدب، حيث صار اسم "كافكا" كافياً
للتدليل على الغموض، بل واصطلح أدبياً على استخدام تعبير (كافكاويّ) في
الإشارة الى أي شيء غامض.
تبدأ
الرواية بإسقاط سياسي مهم عن الحرب الذرية التي شهدها القرن الماضي، وتجسّدت بمأساة
هيروشيما وناغازاكي في الحرب العالمية الثانية، ومن هذه الحادثة يمسك الكاتب بالخط
الدرامي الأول لحكايته والذي يتمثل في شخصية عجوز يُدعى "ناكاتا"
كان
قد تأثر
في صغره بالإشعاعات الذرية وفقد حينها قدرته على القراءة بل وتوقفت قدراته العقلية
والجنسيّة عن النمو نتيجة خلل ذهني أصابه وجعله يفقد نصف ظله (في تعبير مجازي عن
فقدانه لجزء من مقوماته كإنسان) ولكنه في المقابل اكتسب قدرة خاصة على الحديث مع
القطط. وهكذا تمضي الرواية بالعجوز ناكاتا في رحلة البحث عن الذات، أو نصف ظله
المفقود لاستعادة بعض مما فاته من نصيب في هذه الحياة.
أما
الخط الدرامي الرئيسي، فهو شخصية الفتى
"كافكا" الذي يهرب من بيت العائلة في
ليلة عيد ميلاده الخامس عشر بحثاً عن معنى الحياة وعن دورٍ له فيها، وهنا يقوم
الكاتب بإسقاط "عقدة أوديب" على بطل روايته، حيث يعاني كافكا من شؤم
نبوءة أبيه فيقضي مشواره في الحياة محاولاً الهرب من هذه النبوءة من جهة، ومن جهة
أخرى محاولاً اكتشاف ذاته والتصالح معها، ولكن حماسه للبحث عن أمه التي هجرت أباه
رفقة أخته (بالتبني) وهو في الرابعة من عمره، يقوده الى بؤرة الصراع مع حتميّة
القدر، والتي يعلّق عليها الكاتب بالقول "لا يتورط الناس في المأساة بسبب عيوبهم وإنما بسبب
فضائلهم!".
الرواية مبنية على هذين الخطين الدراميين
المتوازيين اللذين يتقاطعان في النهاية بحيث تتداخل الأحداث والشخصيات فيما
بينهما.
هناك الكثير من العبارات الأدبية التي يمكن اعتبارها من المبادئ العامة
لفلسفة الحياة، والتي يرتكز عليها الكاتب في توضيح أفكاره للقارئ ودفعه للتأمل
والتفكير وإعادة النظر في صياغة أفكاره عن معنى الحياة وفلسفة الوجود، ومن هذه
العبارات ((السماء نفسها تبدو مُنذرةً بالشؤم في لحظة، ومُبتسمةً بترحاب في
لحظة أخرى؛ يعتمد الامر على الزاوية التي تنظر منها)).
إعتماداً على هذه الفلسفة
يتعمّد الكاتب أن يُشرك القارئ في كتابة الأحداث وفك طلاسم الحكاية الغرائبية بحيث
لا يقرر الكاتب الوقائع أو يؤكد الحقائق بل يتركها مفتوحة لكل الإحتمالات، فمن
زاوية يمكن للقارئ أن يرى أن القدر محتوم ولا سبيل للهرب منه وأن "كافكا"
في
النهاية سار على خطى أوديب وحقّق النبوءة التي كتبت له، ومن زاوية أخرى يمكن لقارئ
آخر أن يقول إن "كافكا" مضى
في طريقه وأخذ خياراته بملء إرادته وبكل حرية وشق لنفسه طريقاً خاصاً في هذه
الحياة بعيداً عن متلازمة حتميّة القدر.
في المقابل يمكن القول إن شخصاً مثل ناكاتا كان
قاصراً ذهنياّ وافتقد الإحساس بقيمة هذه الحياة ومعناها، ولكن من زاوية أخرى يمكن
القول إن ناكاتا امتلك نظرة مختلفة للحياة وأنه
كان قادراً على رؤية الأشياء بمنظور مختلف مما جعله يراها بوضوح أكبر وبقرب أكثر
للحقيقة. تقول إحدى القطط لناكاتا (أنا
أيضا لا أقرأ ولا أكتب.. ربما لا تحتاج إلى القراءة والكتابة إلا بمقدار ما تساعدك
على فهم ذاتك، وإدراك الحياة والعالم!)
اتفق جميعُ القُرّاء على القيمة الأدبية والجمالية
للرواية، ولكنهم اتفقوا أيضاً على أنها جاءت غامضة وغير مفهومة ووصلت
الى نهاية مفتوحة دون الكشف عن أسرارها، مما زاد من غموضها. ولكن بالنظر الى هذه
الرواية على أنها رواية تهدف في المقام الأول أن تجعلك تعيشها أكثر مما تقرأها،
وتتفاعل مع شخصياتها أكثر مما تتفاعل مع أحداثها، بل وتشركك في صياغتها وتقرير
مصائر شخصياتها، ينجلي الغموض ونستطيع حينها أن ندرك ونستوعب أنها رواية لم تُكتب
نهايتها بعد!
أختم مقالي باقتباس النص التالي من الرواية "إغماضُ
العينين لن يغيّر شيئاً، لا شيء سيختفي لمجرد أنك لا تريد أن تراه، بل ستجد أن
الأمر ازداد سوءاً في المرة التالية التي تنظر فيها .. أبق عينيك مفتوحتين على
وسعهما، فالجبان فقط هو من يغمض عينيه، إغماض عينيك وسد أذنيك لن يوقف الزمن!"
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
15-8-2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق