من منّا من لم يمتعض من بعض
رسائل "الواتس أب" التي تصله يومياً وتملأ بريد هاتفه الجوّال بسبب
محتواها غير الدقيق أحياناً وغير العلمي أحياناً أخرى. من منّا من لم يتابع بعض
البوستات التي لا تمت للواقع بصلة بل وتتعارض مع المنطق والعقل، ومن منّا من لم
يندهش من بعض التغريدات المُضلّلة والمزعومة والتي لا تحتاج سوى بعض التحرّي
والتدقيق لاكتشاف زيفها وخداعها.
أستطيع أن أُشبّه منصّات التواصل
الاجتماعي هذه ب "هايد
بارك" هذا
العصر حيث باتت مَطيّةً لمن يعتليها كائناً من يكون، تلينُ له كي يستخدمها للتفوّه
بما يريد ويهوى دون مراقبة أو مراجعة، وكما يقول المثل الشعبي (الحكي ما عليه جُمرك!)!
المشكلة أننا بتنا نعيش في عالم
إفتراضي كبير لا يمكن التحكم بأدواته، ولا نملك الصلاحيّة أو الإمكانيّة كأفراد لمراقبته
وفرض القوانين والإجراءات عليه، صحيح ان بعض الدول أصبحت تراقب هذه الشبكات وتتابع
ما يُنشر عليها، ولكن من منظور الدولة او السلطة، بمعنى انها تنظر بعين المراقب
السياسي أو المُخابراتي للمشهد، ولكن ماذا عن الصحّة النفسيّة والسلوكيّة للمجتمع
التي تتأثر سلباً بكل ما يُروّج له عبر هذه المنصّات من حقائق مزيّفة وادعاءات
باطلة وصور مُفبركة، وإشاعات غير صحيحة ... الخ القائمة الطويلة. أعتقد أن
المسؤولية تقع على عاتق الأفراد أنفسهم، سواءً كانوا مشاركين او متابعين، كما أني أعتقد
أيضاً اننا بحاجة الى هيئات إجتماعيّة مستقلة تعمل على مراجعة وتصحيح المعلومات
المتداولة.
إن أول عمل ينبغي على أي ناشطٍ
على هذه المنصّات عمله هو التحقّق قبل ان يُصدّق ما يُنشر ويعيد نشره، والمشكلة
هنا أن من يُعيد النشر يعتقد أنه لا يقترف خطأ بل إنه يقوم بالنشر على ذمة الراوي،
وهو غيرُ مُطالبٍ بتدقيق ما ينقُل (علماً أن الراوي مجهول في معظم الأحوال!). يا
عزيزي، كيف لك أن تنقل خبراً أو معلومة دون أن تكون واثقاً من صحتها ودون التدقيق
فيها بل ودون التحقّق من المصدر، ثمّ تدّعي أن لا يد لك في انتشارها وتأثيرها
السلبي على المجتمع! عندما طلبت من أحد الزملاء مصدراً لمعلومة أوردها في أحد
رسائله، قال لي لستُ وكالة أنباء! وردّ آخر تجدها على النت!
إذا كنا نلوم على المستخدم
العادي والمواطن البسيط، فماذا نقول في حق بعض المثقفين والإعلاميين، وبعض النشطاء
السياسيين والاجتماعيين، الذين لا تخلو صفحاتهم الاجتماعية من معلومات مغلوطة وغير
دقيقة! أي تغيير إيجابي نرجوه لمجتمعاتنا في ظل هذه "الهوجة" من الخداع والمواربة؟!
من المُلاحظ أن معظم مستخدمي
منصّات التواصل الاجتماعي يفتقدون لواحدة من أهم أساسيات عمليات التواصل ونقل
المعلومة، وهي (التحقّق والتوثيق)، ناهيك عن عدم الاستشهاد بمصادر "موثوقة" للمعلومة، وعدم الحياديّة في الطرح، وعدم إعطاء
الفرصة للرأي الآخر، بالإضافة الى عدم الإشارة الى النص المنقول أو المُقتبس. حين
عاتبتُ أحدهم على نقل نص كامل لي مع وضع معلوماته الشخصية عليه، قال لي: اعتقدت
أنك نقلته أنت عن غيرك!
يقول عالِمُ الاجتماع الشهير "غوستاف لوبون" في كتابه ذائع الصيت "سيكولوجيّة الجماهير"، إن العواطف والأفعال لدى الجمهور هما
مُعديان بطبيعتهما، وإن الفرد المُنضوي وسط جمهور إنفعالي، سُرعان ما يسقط في حالة
من الإنجذاب الشديد الذي يشبه الى حدٍ كبير حالة التنويم المغناطيسي، بحيث تصبح
إرادة الفهم والتمييز مُلغاةً تماماً!
وهذا يفسّر حالة الغوغائية التي
نجدها في كثير من الأحيان عبر صفحات التواصل الاجتماعي، بحيث لو أعاد نفس الشخص
النظر الى تعليقاته أو الموضوعات التي كتبها او شاركها بعد برهة من الزمن وبعد
استعادة شخصيته "الواعية" من جديد، لدُهش منها!
ويضيف لوبون أيضاً أنه بمجرد
تشكّل جمهورٍ ما، يتساوى أذكى الأذكياء مع أقل الأفراد وعياً، ويصبح الجاهلُ
والعالِمُ عاجِزَيْن عن الملاحظة والتدقيق، ذلك أن مَلَكَة الملاحظة والروح
النقدية التي يمتلكها كل فردٍ على حدة، تضمحلّ وتتبخّر!
وهذا يُفسّر لنا انتشار الأخبار
والشائعات على أوسع نطاق دون تحقٌق أو تدقيق، حيث يصبح الفرد مجرّد مُوزّع وناشرٍ
دون تحمّل أية مسؤوليّة أخلاقيّة او اجتماعيّة تجاه مصداقيّة ما ينقل، ناهيك عن
ظاهرة التقليد المتفشيّة في مجتمعاتنا والتي تُعدّ ظاهرة مُحيّرة قامت عليها عدّة
أبحاث إجتماعية ونفسيّة سلوكيّة ولم تجد لها سبباً رئيسياً بل وفشلت في ربطها بأي
عوامل إجتماعية أو فسيولوجيّة خاصة، ويكفي أن يقف أحد المارة في أحد الشوارع
ويركّز نظره الى أعلى لبضع دقائق ليجد بعض
الأفراد الذين تجمهروا حوله وفعلوا ما يفعل مع تبادلاتٍ للهمسات والنظرات
والإشارات، فما بالكم لو قام أحدنا بوضع بوست جذّاب مع صورة لافتة وأضاف له الكثير
من الحقائق المُزيّفة "المحبوكة"؛ أعتقد جازماً أن هذا
البوست سينتشر ويلاقي رواجاً جماهيرياً كبيراً لمجرد ان موضوعه يروق للكثيرين ويُحاكي
رغباتهم الدفينة ويتوافق مع عقلهم الباطني أو اللاواعي !
جاء رجلٌ الى الفيلسوف "سقراط" وقال له: هل تدري ما سمعتُ عن أحد طلابك؟ فردّ عليه
سقراط هل انت واثقٌ أن ما ستقوله لي صحيح؟ رد الرجل بل سمعته من أحدهم، فقال سقراط
حسناً هل ما ستخبرني به هو شيء طيّب؟ فقال له بل على العكس تماماً، فقال سقراط هل
ما ستخبرني به سيُفيدني؟ رد الرجل لا وإنما هي مجرّد أحاديث!؛ فقال سقراط حكمته
الشهيرة (إذا كنت ستخبرني بشيءٍ ليس صحيحاً ولا بطيّبٍ ولا ذي فائدة أو قيمة، فلماذا تُخبرني به من
الأصل ؟!)
تُرى لو طبّقنا إختبار الفلاتر
الثلاثة لسقراط، كم من الرسائل والبوستات والتغريدات التي سنختصرها من قاموس
عالمنا الإفتراضي؟! فما بالكم لو تمعّنا في قول الله تعالى واستحضرنا معانيه (وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ
بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ
عَنْهُ مَسْئُولًا)
أيمن يوسف أبولبن
18-11-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق