في
البلاد التي تحتكم لنظام ديمقراطي، وتمتلك مؤسسات دولة مستقلة، تعمل جنباً إلى جنب
لخدمة المجتمع والمواطن وتحقيق مصلحة الوطن على حد سواء، تكون الكلمة العليا
للقانون والأنظمة والتشريعات، التي تنظم العلاقة بين مؤسسات الدولة بعضها ببعض وبين
تنظيمات المجتمع المختلفة وتخضع لها مؤسسات الدولة ومسؤوليها وأفرادها، فتنعدم بالتالي
سُبُل خرق هذه القوانين والأنظمة لأيٍ كان، بما في ذلك "أكبر
راس في البلد".
تمثّل لنا هذا النموذج قبل يومين في "البرازيل"
حيث تم إقالة رئيسة البلاد "ديلما روسيف"
من منصبها بطريقة قانونية وعن طريق تفعيل دَوْر مؤسسات الدولة، دون تشنّجات ولا ردّات
فعل غاضبة، رغم إنقسام البلاد بين مؤيد ومعارض، علماً بأن الجُرْم الذي اقترفته لا
يتعدى إخفاء معلومات عن قروض دولية وعدم الإفصاح عن موازنة الدولة الحقيقية (عدم
الشفافيّة فيما يتعلق بالمصاريف والمديونيّة). وكانت روسيف قد تعرّضت لإنتقادات
شديدة بالرغم من إعادة انتخابها عام 2014 وذلك بسبب فشلها في إنهاء الأزمة
الإقتصادية في البلاد مع أنها حقّقت نجاحات قياسية في هذا المجال خلال فترة حكمها.
التيار
المؤيد لروسيف يقول أن ثمّة مؤامرة سياسيّة تقف خلفها المُعارضة وتؤيدها بعض
الدوائر الفاسدة في مؤسسات الدولة نجحت في "الإنقلاب السلمي"
على رئيسة البلاد، ولكن الشاهد في الموضوع أن ثمّ نظام سياسي قانوني يخضع له
الجميع ويلتزم بقوانينه، وأن هذا القانون يعلو ولا يُعلى عليه.
في هذه الدول، يأتي رئيس البلاد لخدمة البلد
والمواطن لفترة مُحدّدة ومعلومة يلتزم خلالها بالقانون دون أن يحصل على استثناءات
أو معاملة خاصة، ويكون عُرضةً للمُساءلة والمُحاججة بل والمُثول أمام القضاء إذا
إقتضت الحاجة، ثم يغادر منصبه بعد أن تنتهي ولايته ليعود إلى صفوف المواطنين
العاديين، متساوياً في الحقوق والواجبات مع باقي فئات الشعب، في حين يتم تسخير كل
مؤسسات الدولة في عالمنا العربي لخدمة السلطة وحاشيتها وتنفيذ مشاريعها الخاصة على
حساب مُقدّرات البلاد، وتصبح الدولة بما فيها مُلكاً لشخص ما أو جماعة تتحكم في
مصائر البشر عملاً بالقول المأثور "أنت ومالِكَ لأبيك"
ويتم تفصيل القوانين والدساتير بشكلٍ مرن وقابل لاستيعاب كل الخروقات والتجاوزات
"الشرعيّة"
وهو ما يُعرف اصطلاحاً في شارعنا العربي بالقوانين "المطّاطة".
المُضحك المُبكي أن الطبقة الحاكمة هذه تتمتع بحصانة ضد النقد والإختلاف في الرأي
وكأنها معصومة عن الخطأ !.
المُفارقة
فيما جرى في البرازيل مؤخراً، أن هذه التهم التي تسببت بإقالة رئيسة البلاد بعد أن
تم عزلها ومنعها من ممارسة صلاحياتها في أيار الماضي، لا تصلح لمجرد النقاش في
المؤسسات القضائية واللجان المُختصّة في دولنا العربية، ولو حاولنا تخيّل هذا
المشهد البرازيلي في أحد بلداننا العربية لكان أشبه بالكوميديا السوداء، فالذين
وصلوا الى سدّة الحكم على ظهور الدبابات يعيشون في بلادنا آمنين سالمين وتلهج ألسنة
الإعلام لهم بالتلبية والفداء ليلاً نهاراً، ناهيك عمّن يذبح أبناء شعبه قرباناً
لكرسي الحكم، ومن نهب خيرات البلاد بحُجّة الخصخصة وجلب الإستثمارات..... الخ
القائمة الطويلة من خطايا حكامنا ومسؤولينا، فيما تبدو هذه التهم من أنواع الترف
السياسي المُبالغ فيه والذي لا يليق بنا !
البرازيل
تلك الدولة القابعة في أمريكا الجنوبية التي تعاني الفقر وما زالت تُصنّف من ضمن
الدول النامية رغم انها من البلاد الصناعيّة الصاعدة، استطاعت رغم كل الظروف
الإقتصادية والسياسية الصعبة، المحافظة على التعددية الفكرية والحزبيّة، وارساء
قواعد للعيش المشترك رغم تعدّد العقائد والأعراق لأكثر من 200 مليون نسمة يقطنون
البلاد ويعيشون ضمن 27 ولاية مختلفة، فيما ضاقت بنا بلادنا، وعجزنا عن استيعاب
إختلافاتنا البسيطة وتناسينا القواسم المشتركة العُظمى التي تجمعنا، فهنيئاً للشعب
البرازيلي.
عندما
نقول أننا نحلمُ بوطنٍ يقوم على التعدّدية الفكرية ويحقق الحرية لمواطنيه ويضمن
المساواة والعدالة لكافة فئات الشعب؛ عندما نقول أننا نحلمُ بدولة مؤسّساتيّة تُعنى
بتعزيز النظام الديمقراطي وضمان عدم تجاوز أي مؤسسة لصلاحياتها المنصوص عليها في الدستور،
حتى لو كانت هذه المؤسسة هي أعلى هرم في السلطة، وضمان عدم تجاوز أي فرد للقانون حتى
لو كان هذا الفرد هو الحاكم ذاته، فنحن لا نطمح في الحقيقة بأكثر مما حققته شعوب دول
العالم الثالث خارج منطقتنا الإقليمية، وليس أكثر مما ورد في الأديان السماوية وما
وصّى به الأنبياء وبشّر به الفلاسفة وعظماء التاريخ. هذا الحُلم ليس خارجاً عن
المألوف وما هو ببدعة، ولا يتطلب منا سوى الإيمان به وبأنفسنا وقدرتنا على تحقيقه.
مارتن
لوثر كينج قال ذات يوم ( لدي حُلْم( I have a dream ! ،
أحلم
أن أرى أبناء هذا البلد من سودٍ وبيض يتشاركون العيش بحرية ومساواة وتجانس. إغتيل مارتن لوثر
كينج ولكن حُلْمه لم يُغتال، بل عاش وتحقّق وأصبح واقعاً ملموساً.
شعوبنا
العربية قالت ذات يوم أن لديها حُلْماً، ( حرية عدالة ومساواة )
شكّك البعض في الحُلْم وشكّك البعض الآخر في الشعوب نفسها ولم تؤمن سوى فئة قليلة
بنفسها وبالحُلْم، وشعارها (إذا أردت أن تأخذ شيئاً فعليك أن تأخذه بذراعيك وكفّيك
وأصابعك).
هذا الحلم سيعيش وسيتحقق، رُغم تشكيك المُشكّكين
ورغم تآمر المتآمرين، ورُغم أنف الفاسدين، ولو بعد حين، كونوا واثقين.
أيمن يوسف أبولبن
4-9-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق