إختار
سُكّان مدينة لندن، البريطاني المُسلم ذا الأصول الباكستانيّة " صادق خان " عُمْدةً لمدينتهم، بعد
سباقٍ محموم مع مُنافسه اليهودي " زاك غولدسميث " ليكون بذلك أول مُسلمٍ يفوز بهذا المنصب. وكان
خان قد تعرّض لحَمْلةٍ شرسة من حزب المُحافظين المُنافس بسبب ديانته، حيث حاول
أعضاء الحزب الحاكم ربطه بالإرهاب والجماعات المُتطرّفة، حتى أن رئيس الوزارء
البريطاني "ديفيد كاميرون" إتّهمه بدعم الفكر المُتطرّف.
يُعدّ فوز أحد المُهاجرين المُسلمين بهذا
المنصب الرفيع في أوروبا، دليلاً على حالة التعايش الثقافي والتعدّدية الفكريّة التي
تعيشها شعوب أوروبا عموماً - دون إهمال سياسات الدول الأوروبيّة المُجحفة في حق
شعوب المُنطقة - ولكن دعونا لا ننسى أن خان هو مواطنٌ بريطاني في البداية، وهو يُشارك
باقي سكان لندن موروثهم الثقافي وأهدافهم المُشتركة، وأنه بفوزه هذا إنما كان
يُمثّل رؤية حزبه السياسية (حزب العُمّال) ولم يكن ليفوز لولا أن برنامجه الإنتخابي يتوافق مع رغبات وآمال
سُكّان مدينته، ويُحاكي مشاكل حياتهم اليوميّة. إذاً ما هي العبرة أو الدرس المُستفاد
لنا نحن العرب والمسلمين من النجاحات التي يحققها المسلمون في الغرب على غرار صادق
خان، ونجاة بلقاسم وزيرة التعليم في فرنسا ؟
باعتقادي أن الدرس الذي
علينا ان نستوعبه جيداً، هو كيفية التعامل مع الآخر بناءً على أفكاره ومنظومة القِيَم
التي يُمثّلها، وليس بناءً على أي مرجعيّة أخرى مثل العشائرية والواسطة والمحسوبية
كما جرت العادة في بلادنا. يجب على كل مواطنٍ مسؤول عندما يتوجه إلى صناديق
الإقتراع، أن يختار الأجدر والأفضل بناءً على برنامجه الإنتخابي وعلى كفاءته، وليس
بناءً على عِرْقه أو دينه أو جنسه أو عشيرته، بمعنى تغليب المصلحة العامة والإبتعاد
عن " الشَخْصَنة ". عندما نصل في
عالمنا العربي إلى هذه الدرجة من التعايش والإنصهار في بوتقة الوطن الواحد، أعتقد
أننا سنكون حينها جاهزين للعبور إلى مرحلة البناء والإنجاز. يقول الله تعالى : (( يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوّامين لله شهداء بالقِسْط ولا يجرمنّكم شنآن قومٍ على ألاّ تعدلوا إعدلوا
هو أقربُ للتقوى وأتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون )).
دعونا ننظر الى أحوالنا في العالم العربي
ونقارن ذلك بما يحصل في دول أوروبا، عندما سقط حزب البعث في العراق، تم إصدار
قانون "إجتثاث"
رموز النظام السابق،
وانتقلت السلطة إلى أيدي الطائفة الشيعيّة حصراً، والمُفارقة العجيبة أن الأقليّة
الشيعيّة التي عانت إبّان حكم حزب البعث، هي ذاتها التي تعيد تكرار نفس تجربة
الإقصاء والإنفراد في السُلطة، بل إنها تمارسها بطريقة فجّة، وأكثر بشاعةّ
ودمويّة.
إنظروا إلى حال مصر، بمجرّد أن تم الإطاحة
بالرئيس السابق "محمد مرسي" تم إغلاق كافة المحطات الإعلامية التي لا تتوافق مع رؤية
السلطة الجديدة، وتم إقصاء الإخوان وكل من تعاون معهم وزجّ قياداتهم في السجون، رغم
أن السبب المُعلن لما يُطلق عليه "ثورة يونيو" هو إحباط محاولة الإخوان للإنفراد في السُلطة
!! وقِسْ على ذلك ما يحصل في باقي بلداننا العربيّة.
علينا أن نواجه أنفسنا ونكُفّ عن إلقاء تَبِعات
فشلنا في النهوض بحالِ أمتنا، وتدنّي فِكْرنا، وإضمحلال قُدرتنا على التعايش
والتعدّدية، على الظُروف المحيطة بنا، والخارجة عن إرادتنا. علينا الكفّ عن
استخدام نظرية المؤامرة، شمّاعةً لفشلنا الذريع في تحقيق أدنى فرص التكافؤ والعدل
والمساواة في مجتمعاتنا.
الحديث عن العيش المُشترك، بالتأكيد لا ينحصر
في عالم السياسة، بل إن جذوره تعود في الأصل إلى حياتنا الإجتماعية وتربيتنا
الأسريّة، وعلاقاتنا الشخصيّة، والدليل على ذلك، أننا لو دقّقنا في أحوالنا
الشخصيّة سنجد أن حالة الجفاء والتباعد بين فئات المجتمع على إختلافاتها العمودية
والأفقيّة هي ذاتها التي يتم إسقاطُها على عوالمنا الأخرى ومن ضمنها عالمنا
السياسي. والحقيقة أن هناك فرقاً واضحاً بين القناعات الشخصيّة لأفراد مجتمعاتنا
العربيّة، وبين تنفيذ هذه القناعات أو مجموعة القِيَمْ على أرض الواقع. والأمثلة
على ذلك غايةً في الوضوح، سواءً في التعامل مع الأقليّات في المجتمع، أو عدم
التكافؤ في فرص التعلّم والعمل، بل حتّى في علاقات النسب والمصاهرة المُعتمدة في
أغلبها على تكافؤ النسب، وصولاً إلى العنصريّة في ملاعبنا الرياضيّة.
جون رولز أحد أهم الفلاسفة الأخلاقيين يطرح
مثالاُ غايةً في الروعة للتأمل والتفكير في قضية المساواة والعدالة في المجتمع على
النحو التالي:
تخيّل أنك عضوٌ في جمعية عموميّة عُليا مسؤولة عن تشريع كافة القوانين التي تحكم
المجتمع، يكون فيها الأعضاء مُجبرين على التفكير بكل شيء لمرة واحدة فقط، وبعد
انتهاء مهمتهم سيغادرون موقعهم وينتقلون للعيش في ذلك المجتمع، بمعنى أنهم سيسقطون
موتى بمجرد مناقشتهم وإقرارهم لكل القوانين اللازمة للمجتمع ثم يعودون ليستيقظوا
في المجتمع ذاته الذي شرّعوا له القوانين والتي أقرّوها هم أنفسهم. علماً
بأنه لا توجد لديهم أدنى فكرة عن الموقع الذي سيشغلونه في المجتمع، هل سيستيقظ
الواحد منهم في جسد رجل أو إمرأة، متديّنٍ أو غير متديّن، عالمٍ أو جاهل، فقيرٍ أو
غني ... الخ. وبما أن كل الإحتمالات واردة فسيكون هناك مجالٌ كبير للإعتقاد بأن
هذه الجمعية العمومية ستكون عادلة في حق فئات المجتمع المختلفة، وستعمل جاهدةً على
تحقيق فرص العدالة الإجتماعية !
تُرى، لو طبّقنا هذه الرؤية الفلسفيّة في كل تشريعٍ أو قرارٍ نتخذه في حياتنا على
إختلاف مواقعنا ومناصبنا، هل سنبقى نعاني من الإجحاف والظلم والعنصرية والطائفيّة
والطبقيّة ؟!
عندما ننجح في التصويت
لرجلٍ يمثّل الأقليّة في مجتمعاتنا، أو إمرأة دون النظر الى دِينها، وعندما ننجح
في توفير فرص النجاح المُتكافئة لأبناء المجتمع بغض النظر عن أصولهم وعِرْقهم
وجنسهم أو دينهم، وعندما ينحصر تفكيرنا في تقييم الأشخاص بفِكْرِهم وما يمثلونه من
قيمة للمجتمع بعيداً عن حَسَبهم ونَسَبهم، نكون قد استفدنا من الدرس الذي لقّنه لنا
سُكّان مدينة الضبّاب.
أيمن يوسف أبولبن
10-5-2016
كاتب ومُدوّن من الأردن