الأربعاء، 8 أبريل 2015

دور المثقف في الكشف عن وجه الحقيقة


أيمن أبولبن
7-4-2015

يعتبر توفيق الحكيم الأديب المصري الراحل بمثابة الأب الروحي لثورة يوليو عام 52 ، وكان مُقرّباً من الرئيس عبدالناصر ومؤيداً كبيراً له، ورأى فيه القائد "الحُلم" الذي سيقود الأمة العربيّة إلى برّ الأمان وصناعة الأمجاد، ورغم أن الحكيم انتقد السياسات غير الديمقراطية للثورة والمجلس العسكري ودوّن هذه الإنتقادات في مؤلفاته، الّا أنه بقي وفيّاً لمبادىء الثورة وللزعيم الراحل عبدالناصر، الذي أحبّه حبّاً جمّا، وتعلّق به، وعلى الجهة المقابلة منع عبدالناصر مقص الرقيب من الإقتراب من مؤلفات حكيم حيث لم تُحجب أو يتم مصادرتها كما كان يحصل لباقي الأدباء.

يُذكر أن الحكيم حزن حزناً شديداً لوفاة عبد الناصر حتى أنه فقد وعيه وأنهار في حفل تأبينه، ولكن هذا كلّه لم يمنع هذا المثقف والروائي المسرحي الكبير من أن يدلي بشهادته للتاريخ ولإحقاق الحق، ولم يخش في ذلك لومة لائم فقام بتدوين مذكراته عن الثورة بمناسبة مرور عشرين عاماً على إنطلاقتها في محاولة لمراجعة ومحاسبة النفس، ونشرها في كتاب "عودة الوعي" عام 1972 موضحاً موقفه من ثورة 52 وواصفاً إياها بحالة "اللا وعي" التي عاشها، مثله مثل عامة الشعب المصري، بل ومعظم الشعوب العربية من المحيط الى الخليج، حيث لم تسمح حالة الهيجان العاطفي المفعمة بالشعارات والآمال العريضة، بأي إختلاف مع الزعيم "معبود الجماهير" في رؤيته السياسيّة الشموليّة في الحكم، وارتجاليته في اتخاذ مواقف استراتيجية حرجة تؤثر على مصير الأمة، ولم تسمح أيضاً بأي محاولة لتصحيح الأوضاع أو تفادي الأخطاء وتداركها قبل وقوعها، فقطار الثورة كان يسير مسرعاً إلى حتفه وعلى متنه أحلام وآمال الشعوب العربية.

   اعتذر توفيق الحكيم عن تأييده الأعمى للثورة رغم علمه بالممارسات الديكتاتورية، وقال بما نصّه :

((وليس بعجيب أن يتلقّى الشعب في حماس العاطفة هذه الخطب بالتهليل والتكبير ولكن العجيب أن شخصا مثلي محسوب علي البلد هو من أهل الفكر، قد أدركته الثورة وهو في كهولته يمكن أن ينساق أيضا خلف الحماس العاطفي، ولا يخطر لي أن أفكر في حقيقة هذه الصورة التي كانت تُصنع لنا !، كانت الثقة فيما يبدو قد شلّت التفكير....... سحرونا ببريق آمال كنا نتطلع إليها من زمن بعيد، وأسكرونا بخمرة مكاسب وأمجاد، فسكرنا حتي غاب عنا الوعي !!))

  واستمر الحكيم بإنتقاد السلطة العسكريّة المتمثلة بنظام السادات، ووقع في مواجهات عديدة مع النظام، وفي أحداث الإحتجاجت الطلابيّة كتب بيان المثقفين المؤيدين للحركة الطلابيّة.
  عاد الوعي للحكيم، ولكن للأسف ما زالت هناك طائفة كبيرة من المثقفين في زماننا هذا الذين استساغوا حالة اللا وعي التي يعيشونها وهم يلهثون وراء شعارات جميلة لا تعدو كونها ماكياجاً جميلاً لوجوه قبيحة، ولا يتحرّجون من مناقضة مبادئهم وتمجيد حكم الطغاة والوقوف ضد آمال الشعوب العريضة.
  من المؤسف أن بعض المثقفين لا زالوا حتى اليوم يتغنّون بالفكر الناصري دون أي محاولة لتطوير مفاهيم تلك الحقبة السياسية بل ودون الإعتراف بالفشل أو الوقوع في أخطاء جسيمة، وباتت شعارات الوطنيّة والقوميّة كلمات تلوكها الألسن دون أن تحمل أي معنى أو يكون لها أي وقع على سمع المواطن العربي.
لا أحد ينكر أن القوميّة العربية وحلم الوحدة العربية متأصل في قلب كل واحد فينا، وأن جمال عبد الناصر امتلك كاريزما خاصة كان لها الأثر الكبير في عودة الروح للجماهير العربيّة وإعادة الكرامة المسلوبة لهم، ولا أظن أن أحداً يشكك في إخلاص الرجل  وصدق نواياه، ولكن في المقابل علينا أن نعترف بالأخطاء الجسيمة التي وقع فيها وعدم الكفاءة في إدارة البلاد والتي أودت إلى نكسة عسكرية لا مثيل لها في التاريخ الحديث، بالإضافة إلى تكريسه لمبدأ الزعيم الأوحد الشمولي ، وللدولة البوليسية التي لا يوجد فيها أي مؤسسات مدنية أو أي تمثيل حقيقي للشعب.
  من المستغرب أن لا يتواجه المثقف مع جمهوره ويعترف بأخطائه الماضية، وبأنه كان سبباً في إيهام الناس بتحقيق أحلام عريضة ثبت عدم واقعيتها، وأن لا يعلن عن ندمه لإتخاذه موقف ما في الماضي ثبت له عدم صحته لاحقاً، ومن المُخجل الإصرار على تبنّي أفكار بالية انتهت صلاحيتها وثبت فشلها، في محاولة للإستمرار في محاولة "الإستهبال" على الشعب وكأنه يقول "عنزة ولو طارت" !!

وأنا هنا لا أتحدث بالطبع عن الوصوليين أو أولئك الذين يجيدون أسلوب "حُسن التعليل"، فهؤلاء يتنقلون ويغيرون مواقفهم كالضفدع الذي يتنقل على أطراف البحيرة، ودائماً ما تكون ردودهم جاهزة، حتى انهم يدّعون أنهم تعرّضوا للإكراه على إعلان مواقف تتنافى مع حقيقة أفكارهم، ويستطيعون بعد فترة من الزمن أن يعودوا عن عودتهم ويقنعوك بتلك الأفكار مرة أخرى، وشعارهم في الحياة "إكذب ثم إكذب حتى يصدقك الناس" !!

   موقف توفيق الحكيم وإن كان قد قوبل بإستهجان كبير حينها، لأنه جاء مُخالفاً لرغبات الجماهير ولقصر نظر بعض المثقفين الآخرين الذين عارضوه، إلا أنه إعترافٌ بالحق، وعدول عن خطأ تاريخي، والأهم من ذلك كله أنه شهادة للتاريخ، تُسجّل له، ويستحق عليها كل الإشادة والثناء. يقول الحكيم في مقدمة كتابه المذكور (( إن المهمة الكبرى لحامل القلم والفكر هي الكشف عن وجه الحقيقة )) وما أحوجنا في يومنا هذا لتكرار هذا الموقف من قبل سياسيين ومثقفين ومسؤولين، ساندوا الظلم، وأيّدوا بعض المتنفذّين، وساهموا في بيع الأوهام للشعوب والتجارة بأحلامهم، أما آن لكم أن تتعظوا وأن تتركوا للتاريخ فرصة للإبقاء على ماء وجهكم على صفحاته ؟! 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق