ففي سوريا مثلاً جاء الحديث عن وجود مؤامرة خارجية تُمهّد لإستعمار جديد للمنطقة، وكان مُتناغماً مع الحديث عن عمالة أنظمة الجوار وعن التضليل الإعلامي والتهويل من المظاهرات الشعبيّة أو حتى تلفيقها في بعض الأحيان، ووجدت هذه الأفكار تُربةً غنيّة لدى الكثيرين من المثقفين والسياسيين المولعين بنظرية المؤامرة والمتناقضين فكريّاً مع السياسة الأمريكيّة وسياسات دول الجوار، الخليجية منها على وجه الخصوص، والمتوجسين خيفةً من إنتعاش حركات الإسلام السياسي، خصوصاً مع تنامي الدور التركي في المنطقة، فتلقّفوا هذه الأفكار وبنوا عليها مواقفهم، بل إنهم طوّروها وأضافوا عليها الكثير ونشروها على طول وعرض المنطقة العربيّة.
أما في مصر، فبعد موجة ثورة يناير الكاسحة التي لم تُبقِ ولم تذر، إستطاعت الدولة العميقة من لمّ شملها من جديد ووضع استراتيجية بعيدة المدى لإستعادة الحُكم، واستخدمت ذات الوسائل (الإعلام ورموز المجتمع) لتمرير أفكارها عن إستبداد الإخوان في الحُكْم واستئثارهم به، وفشلهم في قيادة البلاد، بالإضافة الى الحديث عن الأمن القومي لمصر والإرهاب ودعم نظام الإخوان للجماعات المُسلّحة، وكما هو متوقّع نجحت هذه الأفكار في التغلغل الى أذهان الكثيرين من المثقفين والسياسيين الذين تبنوها وطوروها ثم نقلوها الى عامة الناس.
هناك فيلم أمريكي مهم يُعَد علامة فارقة في صناعة السينما الهوليووديّة تم إنتاجه عام 2010 ويحمل اسم (Inception ) -أفضّل شخصياً إستخدام "الإيحاء" لترجمة العنوان إلى العربيّة . ما يُميّز الفيلم إضافةً إلى الإبداع في استخدام المؤثرات البصريّة هو الفكرة الأساسيّة للقصّة، والمبنيّة على قدرة المُختصين على زرع فكرة ما في أحلام أحد الأشخاص ليتبنّاها عقله الباطن بعد ذلك، فتنمو وتزدهر وتنتقل إلى منطقة الوعي وتبدأ من فورها في التأثير على سلوك وتصرفات هذا الشخص وقراراته في الحياة، حتى أن هذا الشخص عندما يتواجه مع حقيقة عدم واقعيّة هذه الفكرة أو عدم صحتها وتعارضها مع المنطق بل ومن الممكن تعارضها مع مبادئه الشخصيّة، يقع في دائرة الشك ولا يعود قادراً على التمييز بين الحقيقة والوهم !
لا يتطلب الموضوع سوى الإيحاء بفكرة بسيطة فقط، والباقي يُترك للشخص نفسه، فعقله كفيل بأن ينسج أفكاراً أخرى أكثر تعقيداً حول هذه الفكرة لتصبح جزءاً من شبكة متكاملة من الأفكار المترابطة والمتسلسلة التي تدعم بعضها البعض، وسرعان ما تتقاطع مع عقله وخياله وذاكرته، فتصبح جزءاً لا يتجزّأ من فكره وعقيدته.
طيفُ كبير من السياسيين والمثقفين في عالمنا العربي اليوم، الذين لا أشك شخصياً في صدق نواياهم وفي مواقفهم النبيلة تجاه الوطن العربي ووقوفهم ضد أطماع إسرائيل في المنطقة، فقدوا البوصلة ولم يعد بإمكانهم العودة إلى الواقع من جديد، ولا التمييز بين الأسطورة والخيال من جهة والواقع من جهة أخرى، فهم عاجزون عن التركيز على القضية الأساسيّة لأحداث الربيع العربي، وهي حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعدم شرعيّة الأنظمة الحاكمة وفشلها في تحقيق أي إنجاز يُذكر منذ استقلال الدول العربية وحتى الآن.
الحديث عن سوريا اليوم في الصالونات السياسيّة والثقافيّة لا يتعلق بسوريا أو بالشعب السوري، لقد تم التغاضي عن أربعة عقود من الفشل الذريع لحزب البعث في النهضة بالبلاد، وتم تجاوز تاريخ مليء بالمآسي والمجازر في حق الشعب السوري، وتم تجاهل عدم شرعيّة بشار الأسد بالحكم وكل ذلك في سبيل مقاومة "الخريف العربي" أو مشروع "الفوضى الخلاّقة" الأمريكي !! لقد طغت هذه الفكرة التي تم زرعها في أذهان الناس على القضية الأساسية وهي الظلم الواقع على الشعب السوري وشرعيّة ثورته. لقد آمن هؤلاء يأن الشعب السوري يجب أن يُقدّم قرباناً في سبيل عدم إنهيار حلف المقاومة والممانعة !
أمّا على الساحة المصريّة فقد تم تجاهل شرعيّة نظام مرسي وحقيقة أنه أول رئيس مدني مُنتخب يمثل الثورة المصريّة، وتم تغييب فكرة المُعارضة بإستخدام الوسائل الديمقراطيّة، وتجاهل أنّ الإنقلاب العسكري لن يّنجب إلّا ديكتاتوراّ جديداً، ولن تكون نتيجته سوى تّعسّف جديد ومجازر ومذابح بحق المعارضة، وسيعيد البلاد إلى حقبة تكميم الأفواه، وإقصاء الآخر. لقد طغت جميع الأفكار السلبيّة التي زرعها الحرس القديم على أذهان الناس وباتوا الآن لا يأتون على ذكر الإنقلاب العسكري أو التآمر على رئيس شرعي مُنتخب، بل إن الطبقة الغالبة في مصر اليوم تمارس الإرهاب الفكري والحُكم البوليسي بإسم التفويض الشعبي وشرعيّة الشارع !!
لقد تحولت طموحات الشباب العربي في تحقيق ما يصبو اليه من حرية وعدالة ومساواة وتغيير، الى كوابيس مُخيفة، بسبب تشبّث الأنظمة الحاكمة بالكرسي وبسبب الأفكار التي تم زرعها في أذهان ثلّة من المثقفين والسياسيين. وبدلاً من تحريك المياه الراكدة أصبحنا نبحث عن الوهم لنعيش فيه هرباً من واقعنا، فننقاد بسهولة إلى خدعة المقاومة والممانعة و نبتلع كذبة "صباع الكفتة"!!.
يقول الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه (( إن الكذب والخيال ضروريان للحياة أكثر من الحقيقة، بل إن الحقيقة تصبح قاتلة إذا ما اقترب منها المرء أكثر مما ينبغي، أو قبل الأوان ))
أيمن أبولبن
21-3-2015
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق