السبت، 31 مايو 2014

دَوْر السينما في تصحيح المفاهيم (العُبودية أُنموذجاً )



   أنتجت السينما الأمريكية خلال العام الماضي فيلمين مهمين يستعرضان قضية العبودية في امريكا، الفيلم الأول كان ( الخادم  The Butler) تلاه فيلم ( 12 عام من العبودية 12 Years a Slave  ) والذي نال شهرة واسعة نتيجة حصوله على أهم جائزة للأوسكار (جائزة أفضل فيلم). عدة قواسم مشتركة بين الفيلمين أهمها الاعتماد على قصة حقيقية وتحويل الرواية الأدبية الى فيلم سينمائي بنجاح فني باهر، بالاضافة الى القاء الضوء على حقبة سوداء في التاريخ الأمريكي، أستمرت ذيولها لقرن من الزمان.

   الاختلاف الرئيسي بينهما يكمن في أن فيلم "الخادم" يصحبنا في رحلة طويلة تمتد من بدايات العبودية في زمن الاقطاعيين وصولاً الى تتويج باراك اوباما كأول رئيس أسود مُنتخب في البلاد، مع القاء الضوء على المحطات الرئيسية لهذه القضية على امتداد التاريخ الأمريكي وخصوصاً مرحلة العنصرية ضد السود، في حين أن الفيلم المفضل لدى النقّاد هذا العام (12 عام من العبودية) يركز على مرحلة العبودية في منتصف القرن التاسع عشر من خلال عرض قصة كفاح بطل الفيلم (مؤلف الرواية الأصلية) والمعاناة التي عاشها السود في تلك المرحلة.

  بعيداً عن النجاح الفني والتألق الذي تمتع به الفيلمان فان اللافت هو جرأة السينما الأمريكية عموماً في طرح أزمات ومشكلات المجتمع ومناقشة قضاياه بكل موضوعية وشفافية وبحياد تام. صحيح أن الولايات المتحدة ما زالت تعاني الكثير من المشاكل سواءً على صعيد التفكك الأسري أوالتباعد بين خطوط العرقيات المختلفة داخل مجتمعاتها، أو حتى على الصعيد الفكري والأخلاقي، بالاضافة الى التحديات الكبيرة التي تواجهها على المستويين الاقتصادي والسياسي، مما يشير الى أنها ليست أنموذجاً للمدينة الفاضلة بالتأكيد، ولكن بالرغم من كل هذا علينا أن نعترف ونشيد بقدرتها على مواجهة مشكلاتها، في الوقت الذي ما زالت مجتمعاتنا الشرقية تعاني فيه من قصور شديد في هذه الناحية،

    من المعروف أن تحديد المشكلة والوقوف على أسبابها هو نصف الحل، ويبدو أننا ما زلنا نعاني من مشكلة أساسية وهي عدم قدرتنا على مواجهة مشكلاتنا والاعتراف بأخطائنا وقصورنا، سواءً على مستوى الأفراد أو المجتمعات أو حتى القيادات والنخب السياسية، ونعتقد أننا اذا تجاهلنا المشكلة فأنها ستندثر وتنتهي بالتقادم، وهذا خطأ أعظم من الوقوع في المشكلة بحد ذاته !! فبعد أن حبانا الله بالاسلام الذي عالج كل مشاكلنا الدنيوية والروحانية (ومن ضمنها العبودية) ودفع بالأمة الاسلامية لتتبوأ صدارة الأمم المتحضرة وتقود هذا العالم، من الواضح أننا فشلنا في التعامل مع المشكلات التي طفت على السطح بعد ذلك وانزلقنا في مستنقع الخلافات، لنقبع في مؤخرة قائمة الأمم، ونتصدر قائمة الأمم "المُتخلفة".

  في الوقت الذي تتعافى فيه المجتمعات الغربية من مشكلاتها المزمنة وتغسل وسخها رويداً رويداً، نقف نحن مكتوفي الأيدي مُكتفين بترديد شعارات عن المثالية، وحين يتطلب الأمر نغوص في أعماق تاريخنا العريق كي نتلذذ بريادتنا للأمم ونثبت أننا الأفضل والأحسن، والأهم من ذلك أننا على النهج السليم في حين أن الغرب باع آخرته وأشترى دنياه !!

   مجموعة كبيرة من التناقضات التي تعيشها مجتمعاتنا، وفجوة حضارية هائلة تفصل بيننا وبين العالم الغربي، وما زلنا غير قادرين على مواجهة أنفسنا وتحديد مشكلاتنا، بل حتى الحديث عنها والبوح بها. لقد ذُهلنا جميعاً خلال السنوات الأخيرة من مدى تورطنا في أزمات ومشكلات عويصة تكاد تكون عصيّة على الحل وتحتاج على ما يبدو الى عقود من الزمن للتخلص منها، وعلى رأس هذه المشاكل، الطائفية والتطرف الديني بل وحتى الفكري، فعالمنا العربي من أقصى الشرق الى أقصى الغرب يعج بالاقتتال الطائفي والاختلافات الفكرية والحزبية، وعلى سبيل المثال لا الحصر ما تشهده الساحة العربية من مناحرات وتجاذبات بين سُنّي و شيعي، مُسلم و قبطي، مواطن و أجنبي، عربي و أمازيغي، اخونجي وعلماني وقس على ذلك. ولو قامت السينما العربية بعرض شفّاف لأحدى هذه القضايا لقامت حروب ولشُرّدت طوائف.

     لا حل لمشكلاتنا بدون ان نعترف بها أولاً وبفشلنا في التعامل معها ومن ثم وضع الحلول لها، وهذا ليس مقتصر على الحكومات أو المُفكرين والمثقفين فقط بل هو واجبٌ على المجتمع ككل. مع الاعتراف بأن الرموز الفكرية وأصحاب القرار لهم اليد الطولى في حل مشاكل المجتمعات المُزمنة، فلم يكن بالامكان القضاء على مشكلة العبودية لولا جرأة الرئيس لينكولن وقيامه بتعديل الدستور والغاء كافة قوانين العبودية رغم المعارضة الكبيرة التي واجهها، ولولا قرار الرئيس كندي بالغاء كافة قوانين التمييز العنصري رغم اعتراض رموز المجتمع آنذاك، دون أن ننسى الدور الذي قام به المفكرون من أمثال مارتن لوثر كينج في النضال من أجل نيل الحرية والمساواة، ومن المؤسف أن جميع من ذكرت دفعوا حياتهم ثمناً لقيادتهم لثورة "التغيير" في مجتمعاتهم!!
 
أختم حديثي بحوار تضمّنه فيلم ( 12 عام من العبودية ) حيث ينتقد أحد الأشخاص (البيض) الظروف المعيشية للعمّال (العبيد) في احدى المزارع فيرد عليه صاحب المزرعة بأن هؤلاء ليسوا عُمّالا أو مُستأجرين، بل هم جزء من أملاكه بعد أن دفع ثمنهم حسب القانون، فيرد عليه: القوانين تتغير بينما الحقيقة والقيم المطلقة لا تتغير، ماذا لو استطاع السود أن يتحكموا في القوانين وجعلوا من البيض عبيداً لهم ؟! ما هو حق وصواب فهو حق وصواب للجميع وليس لفئة دون غيرها، والحق الذي أراه أن البيض والسود متساوون أمام الله.

صحيح أننا لم نعش في مجتمعاتنا الشرقية تفرقة بين أبيض وأسود، ولكننا نعيش تفرقة من نوع آخر، لقد بدّلنا الكلمات ولم نحل المشكلة، ولا أرى حلاً لمشكلاتنا دون أن نواجهها ونقود ثورة تغيير حقيقية في مفاهيمنا.

أيمن أبولبن
5-5-2014


الأحد، 11 مايو 2014

خربشات على صفحات التاريخ

خربشات على صفحات التاريخ

   خلال عام 2013 دخلت الثورة السورية نفقاً مُظلماً مع دخول الجماعات المُتطرفة ساحة الصراع هناك قابله أيضاً مُشاركة ميليشيات حزب الله في الصراع الى جانب القوات النظامية، ونتيجة لذلك تضاعفت مأساة الشعب السوري حيث أمسى بين فكّي كماشة، النظام السوري من جهة، وبطش الجماعات المّتطرفة من جهة أخرى. والرابح الوحيد من هذا المنحنى الخطير الذي اتخذته الأحداث، كان النظام السوري.  

   من يقرأ الأحداث بعمق ولا يكتفي بمتابعة ما يطفو على السطح، يسهل عليه تحليل الأحداث واستنتاج أن النظام السوري كان يهدف منذ البداية الى جر الثورة السورية "السلميّة" الى فخ "تسليح المُعارضة" ومن ثم فتح الباب على مصراعيه للاقتتال الطائفي، ولا يخفى على متابعي الأحداث عن كثب، العلاقة المشبوهة التي تربط النظام بأكبر تنظيم متطرف في المنطقة (داعش) والذي يعيث في الأرض الفساد، وأكبر دليل على هذه العلاقة هو التنسيق الأمني الحاصل بين الطرفين على الأرض، وعدم دخولهما في أي مواجهة مباشرة.

   عدا عن الصاق تهمة الارهاب بالمعارضة، فقد استطاع النظام السوري نقل المعركة من ساحة الصراع السياسي -التي يعلم جيداً أنه سيفشل فيها- الى ساحة اقتتال يجيد التعامل معها جيداً، بل وبامكانه التحكم في ادارة دفة الصراع فيها، وهذا ما مكّنه من ايهام البسطاء أن النظام السوري على كل علاّته أرحم بكثير من هؤلاء المتطرفين وأن صموده في المعركة هو أفضل ما يمكن أن يتمناه الشعب السوري في هذه المرحلة. بعد أن كان اسقاط النظام مطلباً شرعياً للشعب السوري بل مطلباً جماهيرياً لمعظم الشعوب العربية.

  يقول المفكر والفيلسوف الألماني "هيغل" أن العالم يسير الى الأفضل وأن عجلة التاريخ لن تعود أبداً الى الوراء، وهذا ما لا يدركه النظام السوري، الذي ما زال حتى الآن يراهن على قدرته على اعادة عقارب الساعة الى ما قبل الربيع العربي وأنه بالامكان منع احجار الدومينو  من السقوط المتوالي. النظام السوري يراهن على أن التاريخ سينبهر من وقع الأحداث اليومية المتلاحقة على الساحة السورية وسينهمك في تغطية التفاصيل الصغيرة ويعجز بالتالي عن ادراك الحقيقة الكامنة تحت السطح، تلك الحقيقة التي تُدين النظام السوري في كل ما يجري على الساحة السورية. وتثبت أن علاقته بالارهاب علاقة أزلية متجدّدة.

    التاريخ سيذكر –رغم أنف النظام- أن "خربشات" أطفال على جدران درعا هزّت عرش النظام السوري فارتجف ولم يجد أمامه سوى لغة البطش والقبضة الأمنية التي لا يُجيد غيرها، التاريخ سيذكر أن أول ضحايا المظاهرات السلمية كان طفلاُ لا يتجاوز عمره ثلاثة عشر ربيعاً "حمزة الخطيب" وأن الأمن السوري أراد أن يجعل منه عبرةً لمن يعتبر فقام بالتمثيل في جثته، حيث قطع عضوه التناسلي، كما سيذكر التاريخ أيضاً حادثة ذبح "إبراهيم قاشوش" (مُغني الثورة السورية) واقتلاع حنجرته ثم القاء جثته في نهر العاصي، وسيذكر أيضاً كسر أصابع علي فرزات (الرسّام المناهض للنظام)، واقتلاع عين مصور مظاهرات حمص. فمن هو الارهابي الأول في سوريا، ومن زرع بذور الارهاب في المنطقة، وسعى لحصد ثمارها ؟!

التاريخ سيحكم على النظام السوري ولن يجامله كما يفعل كثيرون، لن يلتفت التاريخ الى ارهاصات نظرية المؤامرة، ولن يتمكن الفيتو الروسي ولا الدعم الايراني ولا ميليشيات حزب الله من وقف عجلة التاريخ ولا تغيير نواميس الكون، وأقصى ما يمكن فعله هؤلاء هو تأخير عجلة الأحداث لبعض الوقت. يقول الله تعالى : (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين).

   العالم يحكمه العقل والمنطق والحق في النهاية، على الرغم من المظاهر الخادعة التي توحي أن الطغاة والاقطاعيين والفاسدين يتسيّدون هذا العالم، ومن يشك في هذا، فعليه مراجعة التاريخ جيداً والنظر بعين ثاقبة الى حركة التاريخ العميقة بعد ازالة القشور السطحيّة. عندها سيدرك أن هؤلاء لا يَعدون كونهم ممثلي كومبارس يؤدون أدواراً "قذرة" كي يسطع نجم الممثل الأول الذي يلعب دور البطولة ويتصدر صفحات التاريخ.

أيمن أبولبن
25-4-2014