في غمرة أحداث الانتفاضة، ثمّة
قصص إنسانية تعبر عن إرادة الشعب ورفضه الخضوع لذهنيّة الاحتلال، والقبول بترويض
أحلام التحرر والاستقلالية والعيش بكرامة وأنفة. كثيرٌ من هذه القصص والحكايات مضى
مع الزمن ولم يجد من الاهتمام الاعلامي والرسمي إلا القليل، رغم انه يستحق الاشادة
والتنويه.
من هذه القصص والحكايات التي لا
تخلو من التخطيط والتنفيذ على أعلى المستويات، ولا تخلو من الطرفة أيضاً، قصة أهل
بيت ساحور مع تربية الأبقار.
بدأت الحكاية في بيت ساحور، تلك
البلدة المتاخمة لبيت لحم، والتي حجزت لها مكاناً في الذاكرة التاريخية لأهالي
المنطقة، منذ كان للرعاة فيها موعدٌ مع بشارة مولد المسيح عليه السلام.
وفي التاريخ الحديث، قرر أهالي
البلدة إعلان العصيان المدني ورفض الخضوع لقانون الضرائب الاسرائيلي، كشكل من
أشكال المقاومة الشعبية، التي وصلت ذروتها بما بات يُعرف ب "الانتفاضة
الأولى" بين عامي 1987-1993.
واستمراراً لهذا النهج الذي اتخذه
اهالي بيت ساحور، كان لا بد من مقاطعة كافة المنتجات الاسرائيلية، والبحث عن بدائل
أخرى.
للوهلة الأولى، قد لا يظن أكثر المتفائلين أن هذا العصيان المدني ومقاطعة البضائع سيصمد اكثر من أيام معدودات، أو أسابيع قليلة، بالأخذ بعين الاعتبار الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال على المناطق الفلسطينية، ونقاط التفتيش، والحواجز، والضائقة المالية والاقتصادية التي تعاني منها جميع المدن الفلسطينية. ولكن المثير للدهشة، أن اهالي بيت ساحور رغم كل تلك الظروف، ورغم الاعتقالات والتعذيب، والتهديد، استطاعوا تنفيذ مخطط استراتيجي بعيد المدى لخلق بدائل عن المنتجات الاسرائيلية الأساسية وأولها الحليب، مما وضع جيش الاحتلال في ورطة اقتصادية-فكرية-ثقافية ناهيك عن الورطة العسكرية!
شكّل اهالي بيت ساحور لجاناً
شعبية مهمتها توفير البدائل المناسبة لاحتياجات البلدة، والتوقف عن استهلاك أي
بضاعة اسرائيلية. ومن أجل ذلك كان لا بد من البحث عن مصدر بديل للحليب وهي مادة
أساسية لا غنى عنها. ومن هنا فقد تم طرح فكرة تربية مجموعة من الأبقار في البلدة
مع إبقاء مكان وجودها سراً والعمل على رعايتها وتوزيع الحليب على أهالي البلدة من
منتجاتها عبر اللجان الشعبية وبالسر أيضاً.
كانت في البداية مجرد فكرة، تبدو
في الوهلة الأولى بعيدة المنال، ولكن عندما توجد الارادة تنتفي كل الحواجز
والمعوقات. قام أهل البلدة بشراء مجموعة من الأبقار من مستوطنة قريبة ونقلوها
بسرية كاملة إلى حظيرة تم تخصيصها لهذا الغرض، وبدأ مسلسل الاكتفاء الذاتي ورفض التبعية
الاقتصادية للمحتل، بوسائل تقليدية بسيطة رغم شح الموارد وقلة الخبرات ونقص
الرعاية.
وفي ليلة وضحاها، أصبحت بيت ساحور
تلك البلدة الصغيرة شوكة في حلق العدو وقصة كفاح وتحد، بل ومدعاة للسخرية من هيبة
دولة الاحتلال وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، حيث وقفت كل الوسائل الأمنية عاجزة عن
كسر إرادة اهالي هذه البلدة ومن خلفهم باقي المدن والبلدات الفلسطينية.
المثير للسخرية أن هاجس جيش
الاحتلال بات يتمثل في مطاردة تلك البقرات والقاء القبض عليها باعتبارها تهديداً للأمن
القومي الاسرائيلي، مما يجعل من هذه القصة أشبه ما يكون بروايات الفانتازيا. ولولا أننا عايشنا
الحدث وشهدناه لقلنا إنها قصة خيالية، وهذا ما يؤكد أن الواقع عندما يقترن
بالارادة والتصميم يصبح أغرب من الخيال!
بلدة بيت ساحور شهدت حصاراً
عسكرياً لكسر إرادة الأهالي، وقد تم استخدام كافة الوسائل بما فيها الطائرات
العسكرية للبحث عن حظيرة الأبقار تلك. فيما استمر الأهالي في نقل الأبقار وتغيير
مكانها مع الحفاظ على خط الانتاج والتوزيع في ذات الوقت!
التفكير خارج الصندوق والابداع في
التنفيذ، ثم التصميم على نجاح المشروع وتكاتف الأهالي هو ما جعل لهذه القصة بعدا إنسانياً وحضارياً، بل إنه يؤسس
لمنهجية عقائدية في مقاومة الاحتلال ورفض كل أشكال التطبيع والانصهار في دولة
الاحتلال.
ولعل المحزن والمؤسف أن كفاح
الشعب الفلسطيني الذي وصل ذروته في الانتفاضة الأولى، لم يصل إلى مبتغاه وتم
إجهاضه في سبيل الوصول إلى إتفاق مهين لا يراعي أدنى حقوق الفلسطينيين.
ولم تتوقف الآثار السلبية لهذا
الاتفاق على اجهاض الجهود الشعبية للفلسطينين في الداخل، بل إنه مهّد الطريق لعقد
اتفاقات سلام مماثلة مع باقي الدول العربية أسوة بما فعلته السلطة الفلسطينية.
واليوم ونحن نشهد اتساع رقعة
الاعتراف باسرائيل وتطاير الاتفاقيات االاقتصادية والمشاريع المشتركة مع دول
المنطقة، لا يسعنا إلا ان نستذكر تلك الملاحم البطولية التي خاضها أبناء الشعب الفلسطيني،
وتدوين احداثها وتفاعلاتها أملاً في أن توقظ ضمير الأمة ولو بعد حين!
كانت بقرات بيت ساحور حاضرة في
رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" للروائي الفلسطيني ابراهيم نصر الله
التي حازت على جائزة كتارا عام 2020، ومنها أقتبس ما يلي:
((- الرجال لا يبكون
هنا-
ومتى على الرجال أن يبكوا، هنا، يا خالتي؟ هل
عليهم أن يحبسوا دموعهم إلى الأبد، إنهم يفاجئوننا بالموت، كل مرة يفاجئوننا، حتى
قبل أن نبكي البكاء الذي كان علينا أن نبكيه، لا أريد أن أبكي في القبر أو في
الجنة أو في الجحيم، أريد أن أبكي هنا، جورج يريد أن يبكي هنا، ليقول لهم إنه حي،
وإنهم يؤلمونه، وإنه لن يغفر لهم، أريد أن يخافوا من بكائي، لأن عليهم أن يعرفوا
أن عليهم أن يدفعوا ثمن هذا البكاء يا خالتي))
كما تم إنتاج فيلم فلسطيني عام
2015 بعنوان "المطلوبون ال 18" -نسبة إلى البقرات- عمل فيه المخرج
الفلسطيني عامر الشوملي على المزج بين الرسوم المتحركة والمشاهد التمثيلية إضافة
إلى شهادات الشخوص التي عاصرت الحدث، لمحاكاة أحداث الإنتفاضة في بيت ساحور. وقد نال
الفيلم عدة جوائز وترشيحات دولية.
إن قصة بقرات بيت ساحور تختصر في
طياتها، القدرة التنظيمية للشعب الفلسطيني، والالتزام الجماعي والفردي في كل
المجالات (الزراعة، الانتاج الحيواني، توزيع المنتوجات، النظافة، العمل الخيري....إلخ)
كل هذا بموارد محدودة وتحت حصار عسكري متشدد، وهذا ما جعل من بيت ساحور تهديداً
حقيقياً للأمن الاسرائيلي، وفي النهاية استطاع أهل هذه البلدة كشف ضعف ووهن دولة
الاحتلال.
وهذا ما يدفعني للقول بأن كفاح
الشعب الفلسطيني غير محصور أبداً في المقاومة المسلحة، بل إن وراء هذه المقاومة
المسلحة أفراداً وجماعات وعائلات ومجتمعات صغيرة قادرة على احتضان العمل الوطني،
وتنشئة الأجيال التي تتسلح بسلاح المقاومة المدنية والحضارية والتاريخية والثقافية
والفكرية والسياسية إضافة إلى حمل السلاح، بل إننا نثبت يوماً بعد يوم، أننا
شعوباً قادرة على إنتاج قيادتها، دون وصية أحد. لا شكّ إذاً، اننا نشكّل تهديداً
للأمن القوميّ!
إن صراعنا مع المحتل هو صراع هوية
وحضارة في الأساس، ونتيجته الحتميّة أننا أمة ترفض أن تموت!
(( إحنا إللي رمينا الهوية
في بيت ساحور الأبية
مسلمين و مسيحية))
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
4-4-2021