الاثنين، 5 أبريل 2021

بقرات بيت ساحور

 



 

في غمرة أحداث الانتفاضة، ثمّة قصص إنسانية تعبر عن إرادة الشعب ورفضه الخضوع لذهنيّة الاحتلال، والقبول بترويض أحلام التحرر والاستقلالية والعيش بكرامة وأنفة. كثيرٌ من هذه القصص والحكايات مضى مع الزمن ولم يجد من الاهتمام الاعلامي والرسمي إلا القليل، رغم انه يستحق الاشادة والتنويه.

من هذه القصص والحكايات التي لا تخلو من التخطيط والتنفيذ على أعلى المستويات، ولا تخلو من الطرفة أيضاً، قصة أهل بيت ساحور مع تربية الأبقار.

 

بدأت الحكاية في بيت ساحور، تلك البلدة المتاخمة لبيت لحم، والتي حجزت لها مكاناً في الذاكرة التاريخية لأهالي المنطقة، منذ كان للرعاة فيها موعدٌ مع بشارة مولد المسيح عليه السلام.

وفي التاريخ الحديث، قرر أهالي البلدة إعلان العصيان المدني ورفض الخضوع لقانون الضرائب الاسرائيلي، كشكل من أشكال المقاومة الشعبية، التي وصلت ذروتها بما بات يُعرف ب "الانتفاضة الأولى" بين عامي 1987-1993.

 

واستمراراً لهذا النهج الذي اتخذه اهالي بيت ساحور، كان لا بد من مقاطعة كافة المنتجات الاسرائيلية، والبحث عن بدائل أخرى.

 

للوهلة الأولى، قد لا يظن أكثر المتفائلين أن هذا العصيان المدني ومقاطعة البضائع سيصمد اكثر من أيام معدودات، أو أسابيع قليلة، بالأخذ بعين الاعتبار الحصار الذي تفرضه قوات الاحتلال على المناطق الفلسطينية، ونقاط التفتيش، والحواجز، والضائقة المالية والاقتصادية التي تعاني منها جميع المدن الفلسطينية. ولكن المثير للدهشة، أن اهالي بيت ساحور رغم كل تلك الظروف، ورغم الاعتقالات والتعذيب، والتهديد، استطاعوا تنفيذ مخطط استراتيجي بعيد المدى لخلق بدائل عن المنتجات الاسرائيلية الأساسية وأولها الحليب، مما وضع جيش الاحتلال في ورطة اقتصادية-فكرية-ثقافية ناهيك عن الورطة العسكرية!

 

شكّل اهالي بيت ساحور لجاناً شعبية مهمتها توفير البدائل المناسبة لاحتياجات البلدة، والتوقف عن استهلاك أي بضاعة اسرائيلية. ومن أجل ذلك كان لا بد من البحث عن مصدر بديل للحليب وهي مادة أساسية لا غنى عنها. ومن هنا فقد تم طرح فكرة تربية مجموعة من الأبقار في البلدة مع إبقاء مكان وجودها سراً والعمل على رعايتها وتوزيع الحليب على أهالي البلدة من منتجاتها عبر اللجان الشعبية وبالسر أيضاً.

 

كانت في البداية مجرد فكرة، تبدو في الوهلة الأولى بعيدة المنال، ولكن عندما توجد الارادة تنتفي كل الحواجز والمعوقات. قام أهل البلدة بشراء مجموعة من الأبقار من مستوطنة قريبة ونقلوها بسرية كاملة إلى حظيرة تم تخصيصها لهذا الغرض، وبدأ مسلسل الاكتفاء الذاتي ورفض التبعية الاقتصادية للمحتل، بوسائل تقليدية بسيطة رغم شح الموارد وقلة الخبرات ونقص الرعاية.

 

وفي ليلة وضحاها، أصبحت بيت ساحور تلك البلدة الصغيرة شوكة في حلق العدو وقصة كفاح وتحد، بل ومدعاة للسخرية من هيبة دولة الاحتلال وأسطورة الجيش الذي لا يقهر، حيث وقفت كل الوسائل الأمنية عاجزة عن كسر إرادة اهالي هذه البلدة ومن خلفهم باقي المدن والبلدات الفلسطينية.

 

المثير للسخرية أن هاجس جيش الاحتلال بات يتمثل في مطاردة تلك البقرات والقاء القبض عليها باعتبارها تهديداً للأمن القومي الاسرائيلي، مما يجعل من هذه القصة أشبه ما يكون بروايات الفانتازيا. ولولا أننا عايشنا الحدث وشهدناه لقلنا إنها قصة خيالية، وهذا ما يؤكد أن الواقع عندما يقترن بالارادة والتصميم يصبح أغرب من الخيال!

 

بلدة بيت ساحور شهدت حصاراً عسكرياً لكسر إرادة الأهالي، وقد تم استخدام كافة الوسائل بما فيها الطائرات العسكرية للبحث عن حظيرة الأبقار تلك. فيما استمر الأهالي في نقل الأبقار وتغيير مكانها مع الحفاظ على خط الانتاج والتوزيع في ذات الوقت!

 

التفكير خارج الصندوق والابداع في التنفيذ، ثم التصميم على نجاح المشروع وتكاتف الأهالي هو ما جعل لهذه  القصة بعدا إنسانياً وحضارياً، بل إنه يؤسس لمنهجية عقائدية في مقاومة الاحتلال ورفض كل أشكال التطبيع والانصهار في دولة الاحتلال.

 

ولعل المحزن والمؤسف أن كفاح الشعب الفلسطيني الذي وصل ذروته في الانتفاضة الأولى، لم يصل إلى مبتغاه وتم إجهاضه في سبيل الوصول إلى إتفاق مهين لا يراعي أدنى حقوق الفلسطينيين.

 

ولم تتوقف الآثار السلبية لهذا الاتفاق على اجهاض الجهود الشعبية للفلسطينين في الداخل، بل إنه مهّد الطريق لعقد اتفاقات سلام مماثلة مع باقي الدول العربية أسوة بما فعلته السلطة الفلسطينية.

 

واليوم ونحن نشهد اتساع رقعة الاعتراف باسرائيل وتطاير الاتفاقيات االاقتصادية والمشاريع المشتركة مع دول المنطقة، لا يسعنا إلا ان نستذكر تلك الملاحم البطولية التي خاضها أبناء الشعب الفلسطيني، وتدوين احداثها وتفاعلاتها أملاً في أن توقظ ضمير الأمة ولو بعد حين!

 

كانت بقرات بيت ساحور حاضرة في رواية "دبابة تحت شجرة عيد الميلاد" للروائي الفلسطيني ابراهيم نصر الله التي حازت على جائزة كتارا عام 2020، ومنها أقتبس ما يلي:

 

((- الرجال لا يبكون هنا-

 ومتى على الرجال أن يبكوا، هنا، يا خالتي؟ هل عليهم أن يحبسوا دموعهم إلى الأبد، إنهم يفاجئوننا بالموت، كل مرة يفاجئوننا، حتى قبل أن نبكي البكاء الذي كان علينا أن نبكيه، لا أريد أن أبكي في القبر أو في الجنة أو في الجحيم، أريد أن أبكي هنا، جورج يريد أن يبكي هنا، ليقول لهم إنه حي، وإنهم يؤلمونه، وإنه لن يغفر لهم، أريد أن يخافوا من بكائي، لأن عليهم أن يعرفوا أن عليهم أن يدفعوا ثمن هذا البكاء يا خالتي))

 

كما تم إنتاج فيلم فلسطيني عام 2015 بعنوان "المطلوبون ال 18" -نسبة إلى البقرات- عمل فيه المخرج الفلسطيني عامر الشوملي على المزج بين الرسوم المتحركة والمشاهد التمثيلية إضافة إلى شهادات الشخوص التي عاصرت الحدث، لمحاكاة أحداث الإنتفاضة في بيت ساحور. وقد نال الفيلم عدة جوائز وترشيحات دولية.

 

إن قصة بقرات بيت ساحور تختصر في طياتها، القدرة التنظيمية للشعب الفلسطيني، والالتزام الجماعي والفردي في كل المجالات (الزراعة، الانتاج الحيواني، توزيع المنتوجات، النظافة، العمل الخيري....إلخ) كل هذا بموارد محدودة وتحت حصار عسكري متشدد، وهذا ما جعل من بيت ساحور تهديداً حقيقياً للأمن الاسرائيلي، وفي النهاية استطاع أهل هذه البلدة كشف ضعف ووهن دولة الاحتلال.

 

وهذا ما يدفعني للقول بأن كفاح الشعب الفلسطيني غير محصور أبداً في المقاومة المسلحة، بل إن وراء هذه المقاومة المسلحة أفراداً وجماعات وعائلات ومجتمعات صغيرة قادرة على احتضان العمل الوطني، وتنشئة الأجيال التي تتسلح بسلاح المقاومة المدنية والحضارية والتاريخية والثقافية والفكرية والسياسية إضافة إلى حمل السلاح، بل إننا نثبت يوماً بعد يوم، أننا شعوباً قادرة على إنتاج قيادتها، دون وصية أحد. لا شكّ إذاً، اننا نشكّل تهديداً للأمن القوميّ!

 

إن صراعنا مع المحتل هو صراع هوية وحضارة في الأساس، ونتيجته الحتميّة أننا أمة ترفض أن تموت!

(( إحنا إللي رمينا الهوية

في بيت ساحور الأبية

مسلمين و مسيحية))   

 

 

أيمن يوسف أبولبن 

كاتب ومُدوّن من الأردن

4-4-2021

 

الجمعة، 26 فبراير 2021

الفرص الضائعة من أعمارنا!



في دراسة مثيرة نشرتها الممرضة الأسترالية "بروني وير" عبر تدوينات متلاحقة، ناقلة بدقة وأمانة لا يخلوان من المشاعر الإنسانية، والأدب الراقي، ما يمكن وصفه بالوصية الأخيرة لعدة مرضى أتاح لها عملها رعايتهم في أسابيعهم الأخيرة، قبل أن يترجلوا عن صهوة جوادهم.


ثم قررت "بروني" بناءً على المتابعة الكثيفة لمدوّنتها، والتفاعل معها، إلى نشر هذه اليوميات والانطباعات في كتاب أطلقت عليه عنوان "أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت". 

وكأن هذه الممرضة الأسترالية أرادت أن تنقل لنا من قلب غرفة العناية المركزة، خلاصة التجارب الحياتية، والوصايا المقدسة التي يمكن للمرء أن يورثها للجيل الذي يتبعه، لعله يستفيد من أخطائه وعثراته، ولا يرتكب ذات الأخطاء، ويكرر مرارة التجربة. أعني تجربة الندم، حين يدرك الفرد فينا، دنو أجله، وقصر عمره، وتوقف نشاطه، ومحدودية الأهداف والإنجازات التي يمكن أن يحققها أو يطمح لها.


على طول الخط الزمني الذي ينتقل بنا من مرحلة إلى أخرى، أو نتنقل نحن على متنه في رحلتنا الغرائبية، نتعرض وبشكل دوري إلى محطات تدعونا للتوقف قليلا، واستعراض شريط حياتنا بعين التجرّد والتأمل.

ومع هذه المراجعة النقدية، لأسلوب حياتنا وقراراتنا نستشرف المستقبل متطلعين إلى حياة أفضل ومتأملين أن يغدو الواحد فينا، إنساناً أفضل! نعم هذا هو الهدف الأوحد والأكثر نبلاً على سلم الأولويات الانسانية، رغم اختلافنا على تحديد ماهية هذا "الأفضل"!


الدرس الأول الذي تذكره بروني في كتابها، هو "امتلاك الشجاعة كي يعيش المرء حياته كما يريد وليس كما يتوقع منه الآخرون".

 

من اكثر الأشياء التي تجلب الندم للمرء، أن يعيش حياته كما يحددها له الأخرون، والآخر هنا قد يكون المجتمع أو العائلة، او المسؤول في العمل. إن الفرد فينا قادر على التكيف مع الواقع والتخلي عن احلامه بشكل مخيف، بل إننا نميل في معظم الأحيان إلى تطويع خياراتنا الشخصية لتتوافق وتتلاءم مع الآخرين، متجاوزين رغباتنا الحقيقية، وأحلامنا الفتيّة في الحياة، وغالباً ما نفشل في إدراك تلك الحقيقة إلا في وقت متأخر، بل ومتأخر جدا!


أما الندم الثاني فكان "قضاء وقت أكثر مما ينبغي في العمل"، على حساب لحظات حياتية كان من الممكن أن تكون لحظات فارقة في حياتهم لو استغلوها بشكل مختلف. 

ومن اللافت أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا على وشك مفارقة الحياة، أقروا بأن بساطة الحياة والابتعاد عن ضغوطات العمل الزائدة عن الحد، كفيل بتحقيق السعادة حتى ولو كان ذلك على حساب الدخل المادي. 


أما الندم الثالث فكان الندم على "عدم التحلي بالشجاعة الكافية للتعبير عن المشاعر"، حيث أن كبت المشاعر أدى بهم في كثير من الأحيان إلى علاقات سلبية، واستياء داخلي متراكم. 

حيث كانت أمنية هؤلاء أن يعود بهم الزمن إلى الوراء للتعبير عن مشاعرهم بكل أريحية وأن ذلك كان سيؤدي بهم إلى علاقات أكثر صدقاً ووضوحاً، ولكان أيضاً ساعدهم على التخلص من علاقات سلبية أثّرت على مسار حياتهم أو بناء علاقات أكثر حميمية وجلباً للسعادة.


وفي المرتبة الرابعة، جاء الندم على "عدم المحافظة على الأصدقاء الحقيقيين". لقد أقرّ هؤلاء بأنهم لم يبذلوا الجهد الكافي لبناء صداقات جيدة أو المحافظة على صداقات حقيقية قائمة، بسبب أولويات أخرى.

اللافت للانتباه أن الوصيّة التي خلفها هؤلاء من ورائهم، ركّزت على أن حب الأصدقاء ودوام العلاقة الطيبة معهم، هي أهم بنظرهم من النجاح في جمع المال أو النجاح المهني الذين سعوا إلى تحقيقهما .


أما الندم الخامس والأخير في القائمة، فهو أمر يستدعي الدهشة والاستغراب، "أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة" وهو ما يشير إلى حالة تناقض الذات التي نعيشها!

أستطيع القول أننا وفي خضم سعينا نحو السعادة، نسمح لأنفسنا أن نقولب ذواتنا في قوالب تجعل منا أكثر نجاحاً في أعين الآخرين، ولكننا وإذ نفعل ذلك، نكون أبعد ما يكون عن السعادة الداخلية، والراحة النفسية، وإرضاء الذات! بل إننا نسمح لأنفسنا وفي معظم الأحيان، أن نلعب دور البلسم الشافي، ومصدر السعادة والدلال لمن حولنا، على حساب سعادتنا (أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة!).


مما نستفيده من هذه النصائح، ومشاعر الندم في الختامات، أن الندم هنا يتمحور حول مساقين منفصلين نظرياً، ولكنهما يتقاطعان في النهاية. الأول هو الندم على أشياء لم نفعلها، أما الثاني فهو الندم على أشياء فعلناها بالفعل، حيث يكون الندم أكثر بكثير في الحالة الأولى، لسبب بسيط، أننا لم نعش تلك التجربة، لذلك يستمر معنا الشعور بالحرمان طوال الحياة، دون أن نستطيع التخلص منه. 

في حين لو أننا أخطأنا في فعل ما، فإن الندم والتكفير عنه كفيل "في أحيان كثيرة" على منحنا الإحساس بالرضى عن ذواتنا ولو بشكل نسبي.


إن تفويتنا لمناسبة عائلية أو إهمالنا للحظة خاصة تجمعنا بالأصدقاء، أو ترددنا في اتخاذ قرار أخلاقي كان واجباً علينا، أو عدم امتلاكنا الشجاعة الكافية للبوح بمشاعرنا والتعبير عنها، وتغليفها بالحزم والرسميات والجمود غالباً ما يورثنا الندم الذي لا ينفع معه الزمن!


والحديث هنا يدفعني لإلقاء الضوء على نظرية لها علاقة مباشرة بالندم الذي نتحدث عنه، وهي "نظرية الفرصة الضائعة"، وقد طرحت في الأساس في مجال الاقتصاد والإدارة وتقول، إن كل شخص يُقدم على اتخاذ قرار ما، فإنه مُطالب بأن يدرس قراره بشكل منطقي، وهذه الدراسة تستدعي تحليل كافة المتغيرات والعوامل المحيطة بشكل علمي وبناءً على معلومات موثوقة ودقيقة. ولكي يكون هذا القرار رشيداً، عليه أن يضع في الحسبان كل الخيارات المطروحة، وليس خياراً واحداً فقط، ثم القيام بالمفاضلة بينهم بعد الدراسة والتحليل.

وبناءً على ما سبق، فإن مقابل كل خيار نتخذه، هناك فرصة ضائعة أسقطناها من حساباتنا، وهذا ما يُسمّى بالفرصة الضائعة؛ ففي حال قيامك باتخاذ خطوة استثمارية خاطئة لا تكون قد خسرت في استثمارك ذاك فقط، بل تكون قد أضعت فرصة أخرى ناجحة من يدك، ولم تعد الآن في متناولك!


ومن هنا يمكن القول -ولو من باب الفلسفة النقدية- إن مقابل كل ساعة تقضيها في عملك فائضةً عن الحاجة، هناك ساعة مفيدة كان بالإمكان أن تقضيها في القراءة أو الاستجمام، او الترفيه عن النفس. في مقابل كل ساعة فراغ تمر من عمرك بلا طائل، هناك ساعة كان يمكن فيها أن تتقرب إلى الله، أو أن تزور رحمك، أو ان تُحسن إلى جارك.

في مقابل المال الذي تقرر أن تدفعه على نزواتك، هناك فرصة ضائعة في أن تصطحب عائلتك إلى مطعم هادىء وأن تستمتعوا جميعاً بوجبة مسائية وسهرة عائلية. في مقابل كل تردد في محادثة أحد الأصدقاء أو المماطلة في ود أحدهم هناك فرصة صداقة ضائعة، وسلام نفسي كان يمكن أن تكتسبه.


تُرى، كم هي الفرص الضائعة التي نقفز عنها في حياتنا، ولا نلقي لها بالاً؟!  


خلاصة القول، إن أسلوبنا في العيش يجب أن يراعي التوازن بين أهدافنا في الحياة، وأن خلف كل خيار، فرصةٌ ضائعة!


أيمن يوسف أبولبن 

كاتب ومُدوّن من الأردن

26-2-2021

السبت، 16 يناير 2021

أهمية اسم المنتج في ذهن المستهلك

 

 


في إطار حملة توعوية لتغيير تصورات المستهلك عن علامتها التجارية ، قامت شركة Payless بحيلة دعائية أدت ببعض الشخصيات العامة والمشاهير والمؤثرين في عالم الموضة إلى دفع نحو 600 دولارًا مقابل أحذية لا يتجاوز سعرها أكثر من 40 دولارًا !!

وفي التفاصيل فقد قام المسؤولون عن الحملة بإنشاء علامة تجارية مزيفة " Palessi " ورصدوا لها إعلانات ضخمة على انها ماركة تجارية راقية جديدة في السوق، ووضعوا لافتة على أحد المتاجر الراقية، وقاموا بتكديس المتجر بأحذية تُباع في Payless بأسعار لا تتجاوز 40 دولارا، ثم أقاموا حفل افتتاح ضخم دعوا  له كبار الشخصيات للاحتفاء بالعلامة التجارية الجديدة.

المفاجأة كانت أن هذه الشخصيات المعروفة في عالم الموضة والأزياء أشادوا بتصميم وتصنيع أحذية الماركة "الراقية" ودفعوا ما يصل إلى 600 دولارًا مقابل الحذاء الواحد!!

بعد الحفل قام الفريق القائم على الحملة بكشف تفاصيل "الخدعة" وتصوير ردة فعل هؤلاء الأشخاص ثم قاموا بنشر هذه المقاطع ضمن الحملة الخاصة بشركة Payless.

 

تعليق:

الهدف من الحملة كان للتأكيد على أن منتجات Payless تحقق التوازن الصحيح بين الجودة والسعر للمستهلك، ولكنها من ناحية أخرى تؤكد بوضوح التوجه الاستهلاكي للبشر الذي يرفع من قيمة المنتج بناء على "العلامة التجارية BRAND NAME" وليس بناء على جودة المنتج ، بل إنه في بعض الأحيان يتوجه بعض المستهلكين إلى البضاعة الأعلى سعراً لظنهم أن ارتفاع السعر هو مؤشر على ارتفاع نسبة الجودة.

  

أيمن يوسف أبولبن

17-11-2020


ماذا تعني لك كلمة "الدقة" أو "الالتزام بالمواعيد" في الخدمات العامة؟

 

معايير الجودة والدقة أو الالتزام تختلف باختلاف الثقافات والحضارة. في اليابان مثلاً، أصدرت الشركة المسؤولة عن تشغيل أحد القطارات التي تخدم ضواحي طوكيو اعتذارًا بعد مغادرة أحد قطاراتها قبل 20 ثانية فقط من الموعد المحدد!!

هذا الخبر انتشر في عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم لسبب بسيط يتمثل في أنه لا يوجد أي بلد في العالم يعتبر ان هذا التأخير هو خطأ، حتى لو تم اعتباره كذلك، فإنه بالتأكيد لا يستدعي إعتذاراً ! بل على العكس تماماً، قد يكون هذا مدعاة للفخر في بعض البلدان كونه قريب جدا من الوقت المخطط له!!

جاء في البيان الرسمي "نعتذر بشدة عن الإزعاج الشديد الذي فُرض على عملائنا، إن المسؤول لم يتحقق بشكل صحيح من الجدول الزمني للقطار". وقالوا إن الطاقم قد تلقوا تعليمات في المستقبل "باتباع الإجراءات بدقة لمنع تكرارها". وبناء على ذلك فقد تم ارسال قطار آخر بعد 4 دقائق فقط لخدمة المسافرين الذين فاتهم القطار السابق!!

دفعت القصة العديد من الباحثين إلى التركيز على كيفية أداء خدمات السكك الحديدية في مختلف البلدان من حيث الموثوقية (الالتزام بالمواعيد) وجاءت الدراسات عللى النحو التلي:

تعد اليابان واحدة من أفضل الدول أداءً في الوقت المحدد. يصل القطار السريع الياباني بفارق 54 ثانية عن موعده في المتوسط. إذا تأخر القطار الياباني خمس دقائق أو أكثر ، يتم منح الركاب شهادة يمكنهم تقديمها لرئيسهم في العمل كذريعة للتأخر.

تشمل شبكات السكك الحديدية الوطنية الأخرى التي تتمتع بسجلات موثوقية جيدة السويد والدنمارك وألمانيا وفرنسا.

ولكن يبقى التعقيد في تعريف وتحديد معنى "في الوقت المحدد".

في سويسرا مثلاً يتأخر قطار سويسري إذا وصل بعد أكثر من ثلاث دقائق عن الوقت المعلن عنه. ولكن ، في بريطانيا، يمكن أن يتأخر القطار إلى خمس دقائق ومع ذلك يتم تسجيله "في الوقت المحدد". في أيرلندا ، يكون القطار "في الموعد" إذا تأخر أقل من 10 دقائق وكذلك الوضع في الولايات المتحدة (ما يصل إلى 30 دقيقة للرحلات التي تزيد عن 550 ميلاً)

 

اما في العالم العربي الذي لم تشمله الدراسة، فلا يوجد معايير أساسية لتحديد التأخير ولا اعتقد ان هناك معاييراً في الأصل للحفاظ على الوقت والالتزام به!!

لهذا فعندما يقرا المواطن العربي خبراً مثل هذا، يشعر بأن اليابان بالفعل هو كوكب آخر، "كوكب اليابان" او ان عالمنا العربي هو كوكب متفرد بذاته!!

 

أيمن يوسف أبولبن

25-12-2020

أزمة نقص الدجاج عند KFC



 

ربما يكون من المفاجىء للبعض أن يعرف أن حجم إنفاق المملكة المتحدة يتجاوز 2 مليار جنيه إسترليني سنويًا على وجبات الدجاج السريعة مثل كنتاكي فرايد تشيكن. وهذا ما يفسر حجم المشكلة التي وقعت فيها إدارة مطاعم كنتاكي عام 2018 عندما اضطرت إلى إغلاق أكثر من نصف فروعها البالغ عددها 900 في المملكة المتحدة بسبب نفاد الدجاج!!.

هل تخيلت أن تصطف في طابور طويل لدى أحد مطاعم كنتاكي لتتفاجىء في النهاية أنه لا يوجد دجاج؟!

 

وفي العودة إلى الأسباب فقد قامت إدارة كنتاكي بتغيير متعهد التوصيل من شركة Bidvest ، إلى DHL ، وهي جزء من دويتشه بوست الألمانية قليلة الخبرة في مجال الخدمات اللوجستية والتشغيلية، وهذا مثال على قلة تقدير أهمية "القضايا التشغيلية". لقد أساءت شركة كنتاكي تقديرها لإدارة عملية التوصيل، إذ لا يمكن لأي إداري محنك أن يمنح عقدا مهماً لمقاول جديد بدون خبرة ذات صلة بالعمل. وما زاد الطين بلة أن الأمر يتعلق بمواد غذائية قابلة للفساد ناهيك عن القول أن سلسلة كنتاكي تعتمد على الدجاج الطازج في المملكة المتحدة وليس المجمد، مما يضاعف من تعقيد عملية التوريد والحفظ.

ولكن اللافت في الموضوع أن استجابة كنتاكي فرايد تشيكن لهذه الأزمة قد لاقت ترحاباً كبيراً، حيث استمرت إدارة المطعم بدفع رواتب الموظفين رغم إغلاق نحو نصف مطاعمها. إضافة إلى ذلك كانت سياسة الشركة في التماس العذر من عملائها مليئة بروح الدعابة. غردت كنتاكي فرايد تشيكن على منصة تويتر "ببساطة ، لدينا الدجاج ، لدينا المطاعم ، لكن واجهتنا بعض المشاكل في جمعهما معًا" !!

 

بعد فترة وجيزة غيرت كنتاكي فرايد تشيكن قرار تبديل شركات التوزيع حيث وقعت بيدفيست اتفاقية جديدة مع كنتاكي لتوريد الدجاج.

الشاهد في الموضوع: الاداري الناجح هو الذي يدرس قراراته بشكل جيد قبل أن يتخذها، أي أن أفعاله تكون ناجمة عن تخطيط مسبق وليس بناء على توجهات غير مدروسة.

ومن ناحية أخرى، فإن مشاكل العمل ستحدث مهما حاولت منعها، ولكن الأهم أن تعرف كيف تتعامل معها حين حدوثها أولاً، وأن تتعلم منها ثانياً!

 

أيمن يوسف أبولبن

15-1-2021

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

أيها المُطبّعون العرب صحيتوا المواجع فينا!!

     قبل عدة أعوام تعرّفت على أحد الزملاء من "أهل البلاد" البسطاء الذين يتصرفون على سجيتهم وكما نقول "اللي في قلبه على لسانه"، لا يتحرّج من توجيه النقد اللاذع أو ابداء أية ملاحظة دون مواربة. هو باختصار تلقائي وبسيط، بعيدٌ عن التكلف.

في جلسة جمعتني به سألني: "أنت بتنزل على الضفة ؟" هذا السؤال أعادني في الذاكرة إلى عقود مضت، قلت له آخر زيارة لي كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات، قال مستغرباً "وليش ما بتنزل !؟" قلت له أرى أنك تشجعني على الزيارة، قال طبعاً عليك أن تزور "البلاد" وأن تأخذ أولادك وتعرفهم على بلادهم الأصلية.

قلت مُعقباً زيارة فلسطين في هذه الأيام أسهل من زيارة بعض الدول العربية، أخبرني بعض أصدقائي أن هناك مكاتب سياحية في عمّان توفر للراغبين جولة سياحية في الضفة وأراضي عام 48، بل إن المكتب يتكفل بجميع المعاملات دون أن تضطر للذهاب إلى السفارة، ليس هذا فحسب بل إن ختم الزيارة يكون على تأشيرة خارجية دون ختم الجواز، كي لا يؤثر ذلك على دخولك لأراضي بعض الدول العربية التي تمنع زيارة دولة الاحتلال.

قفز سؤاله في وجهي مستغرباً، وما الذي يمنعك إذاً !! أطبق علي السكون، ثم خطرت على بالي فكرة، تنهّدت وقلت له هل لك أن تسمع مني قصة قصيرة؟ قال تفضل، وأشعل سيجارة جديدة، في حماس واضح لسماع مجادلتي.

ذات يوم، قام مسؤول كبير ومدعوم بسرقة سيارتي في وضح النهار، وبما أنه متمكن وقادر وله معارف واتصالات في الدولة، ولديه مصالح مشتركة مع أصحاب القرار ، استطاع أن يحصل على أوراق تثبت ملكيته للسيارة ، وفي يوم وليلة أصبحت السيارة ملكا له!!
   
وبما أني مواطن "غلبان"، ولا يوجد من يدعمني أو أن يستمع لروايتي، إضافة إلى أن معظم علاقاتي مع أناس بسطاء مثلي "غير مؤثرين"، فقد فشلت في اثبات ملكيتي للسيارة، رغم كل الأوراق والاثباتات التي في حوزتي، لأنه على الطرف الآخر لديه من المستندات والاثباتات التي تدحض أوراقي !!
   
وبعد كرّ و فرّ، قررت أن أسترجع السيارة بالقوة ولكني للأسف فشلت من جديد، لأني في النهاية رجل ضعيف كما أسلفتً ولا أملك الامكانيات الكافية التي تؤهلني لمواجهة طغيانه. ثم قررت أن أجرب الحيلة والاحتيال واللف والدوران ولكني سرعان ما اكتشفت أني لا أصلح لهذا أيضاً وصدق من قال"اللي مش كارو يا نارو!".

ومع محاولاتي استرجاع السيارة بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى، انقلبت الصورة أمام الاعلام والقانون وأصبحت أنا المعتدي، والفاسد والحرامي !!

  وصل اليأس معي مداه، وفقدت الأمل، ولكن السيارة بقيت تراودني في أحلامي، دون أن أنساها ولو للحظة، وكلما رأيت ذلك المسؤول يقودها، يطير عقلي!.

ثم كانت المفاجأة بأن تلقيت دعوة للقاء المسؤول في مكتبه، وبعد حديث طويل قال لي لماذا تصرّ على تعقيد الأمور، لماذا لا تعتبر أني استأجرت السيارة منك، وفي اللحظة التي ترغب في استعمالها اطلبها مني وستصلك إلى منزلك في نفس اليوم، اقض حاجتك بها وأرجعها لي، ولكن دعنا من نحيبك ونشيجك ولقاءاتك التلفزيونية العاطفية، والقضايا الخاسرة التي ترفعها ضدي هنا وهناك. خذها نصيحة صادقة مني، آن لك ان تتصرف بعقلانية بعيداً عن العواطف مع الأخذ بالاعتبار مصالحك وظروفك بل والظروف المحيطة أيضا، أما آن لك أن تقبل بالأمر الواقع يا صديقي!

خرجتُ من عنده والأفكار تأخذني جيئة وذهابا وتتلاطم في ذهني كالأمواج الهائجة، هل يعقل ما يحدث ؟! أستأذن منه كي استخدم سيارتي التي أمتلكها؟ ثم يطلّ علي عقلي ليقول، لنواجه الحقيقة التي تقول انك قد خسرت السيارة وأنها لم تعد ملكك، بناء على هذه الحقيقة، فإن أي شيء يمكنك الحصول عليه هو انتصار حقيقي، حتى لو كان قضاء يوم واحد في نزهة بالسيارة!

في النهاية ونظراً لعنادي الشديد، ولصلابة رأسي كما يًشاع عني، رفضتً الفكرة، واخترت أن أعاني في المواصلات العامة، وأن تحرقني الشمس وانا أتنقل من هنا إلى هناك وأقف في طوابير المواصلات، وأن أصل بيتي كل يوم وقد استفذت كل طاقتي في العمل وفي أزمة المواصلات، وما أن أضع رأسي على وسادتي حتى تطل صورة السيارة أمام عيني، فتتملكني الحسرة وينكسر قلبي !!

وهنا، توقفت عن الحديث وقلت لصديقي الذي كان يصغي بعناية ودهشة في آن، لو كنت مكاني ماذا كنت ستختار!؟ لقد أخترتُ أن أعيش في عقدة النقص وأن تظل الحسرة تحاصرني كل يوم على وطن سُرق مني في وضح النهار وما زلت عاجزاً لغاية اليوم أن أزوره أو أعيش فيه ولو للحظة واحدة دون الاستئذان من "الحرامي الكبير" الذي سرق هذا الوطن مني!!

وما أن أنهيت سؤالي حتى احمرّ وجهه وسرعان ما اغرورقت عيناه بالدمع وبصعوبة بالغة تمالك نفسه. 
أحسست بالاحراج وشعرت بأني قد بالغت في كلامي وردّي عليه، حاولت استدراك الأمر والاعتذار بلباقة، ولكن ذلك لم يمنع الضبابية في عيونه، ثم قطع الصمت قائلاً: انت سمعت أغنية ام كلثوم ؟ قلت له أي أغنية ؟ قال وصوته يحشرج "صحيت المواجع فيّا".

هذه الواقعة حصلت معي قبل نحو سبع سنوات، ومنذ أن غادرت موقع العمل ذاك لم ألتق مع زميلي طيب الذكر، ولكن عقلي اللاواعي استدعى تلك الحادثة وانا أراقب بحسرة وألم من يطلقون على أنفسم أسماء من قبيل "نشطاء" و "مؤثرين" و "مثقفين" عرب يهرولون لزيارة بلادي المحتلة تحت مظلة الاحتلال ويتغنّون بطيبة الشعب الاسرائيلي والأطفال الاسرائيليين الذين يتلقونهم بالتحيّة "شالوم"!!

كيف لمواطن عربي تجمعني به أخوّة وصلة دمٌ، وثقافة واحدة أن يتغاضى عن مأساة وطن مسلوب، ومأساة شعب محتل وجيل كامل محروم من أرضه، وأن يتسابق لزيارة بيتي المنهوب وقريتي المدمرّة، وأطلال مدرستي ومسجدي المعطّل، وأن يتباهى بلقاء أبناء المغتصب على مرأى الجميع!! 

أيها المهرولون نحو التطبيع، هلاّ نظرتم إلى تحت أقدامكم قليلاً!

أيمن يوسف أبولبن 
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-12-2020

الخميس، 29 أكتوبر 2020

ماكرون وتهافت الثورة الفرنسية

لا بد للمرء فينا العودة إلى التاريخ لفكّ طلاسم التصادم الفكري الحاصل حالياً، وفك الاشتباك فيما يدّعي البعض أنه التزام بقيم حرية الفكر والمعتقد، وبين قيم التعايش الحقيقية وتقبّل الآخر.

بعدما نجحت الثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها السياسية وقلب نظام الحكم الملكي في البلاد، بدأت موجةٌ من الفوضى والعنف الخارج عن السيطرةـ والتي أحالت البلاد إلى آتون حرب أهلية طرفها الأول "الثوّار"، فيما لا تحد طرفه الآخر حدود مفهومة او واضحة، فمداها مفتوح حتى انه شمل بعض اعضاء الثورة نفسها، فاقتتلوا فيما بينهم ونُفّذ حكم الاعدام في بعض قادتهم!

هذه الحالة الفوضوية يمكن وصفها بإيجاز بأنها خروج عن مسار الثورة، وانحراف عن مبادئها، ولكن استمرار الثورة الفرنسية على هذا الحال الفوضوي الممزوج بين شعارات الحرية والقضاء على الآخر في آن واحد، أورث للعالم جيلاً لا يكاد يفرّق بين هذا أو ذاك، بل إنه يؤمن ولو بشكل غير واع، أن تحقيق أهداف الثورة السامية -أي ثورة- لا بد وأن يكون على رقاب الآخرين، والآخر هنا قابل لإعادة التعريف والقولبة حسب واقع الحال. ويمكن قياس ذلك على الحروب الخارجية التي خاضها الجيش الفرنسي، كما يمكن قياسها أيضاً على الحضارة الأمريكية، التي انبثقت بشكل غير مباشر من مهد الحضارة الفرنسية. (إعلان حقوق الانسان للثورة الفرنسية تم إعلانه في عام 1789 فيما تم اعلان وثيقة الحقوق الأمريكية بعده بعامين).

من جهة أخرى كان من الملاحظ أن الثورة الفرنسية قد اكتسبت رمزية أخرى لا تقل أهمية عن حقوق الانسان وتتمثل في ثورتها على الكنيسة، وعلى المفاهيم التقليدية التي تتعارض مع العقل والعلم، وهذا بدوره تحوّل إلى ما يشبه "العقيدة اللادينية" أو ما أطلق عليه فصل الكنيسة عن الدولة.
ولعل أول نتائج الثورة كانت القضاء على حكم الكنيسة وجعلها خاضعة للدولة المدنية، حيث أصبحت الدولة مسؤولة عن تعيين الرهبان ورعاية شؤون الكنيسة، بعدما كانت الكنيسة هي راعية الدولة وهي التي تنصّب الحُكّام باسم الله! بل إن الدولة الفرنسية الجديدة أخضعت الرهبان لقسمٍ جديد يلتزمون فيه بالولاء للدولة وهو ما أدى إلى تقسيم الكنيسة الى حزبين، حزبٌ موالٍ للدولة الجديدة وحزب اختار الابقاء على ولائه للكنيسة، والنتيجة الحتمية كانت القضاء على كل من لا يجهر بالولاء للدولة!

هذه الوقائع التاريخية، والنتائج التي آلت لها الثورة، الايجابية منها والسلبية ترسّخت في أذهان الكثيرين، على أنها حزمة إصلاحيّة واحدة يجب القبول بها بل وتقديسها، بدلاً من مراجعتها أو اخضاعها للفكر النقدي، وهو ما أدى في النهاية إلى ترسيخ أفكار الثورة الفرنسية في أذهان الكثيرين بشكل مغاير لمبادىء الثورة الأساسية التي قامت عليها مبادىء حقوق الانسان في العالم أجمع، وكانت المظلة التي انبثقت منها كل الديمقراطيات في العالم الحديث.

في مقال سابق لي نشر في جريدة القدس العربي في يناير من عام 2015، كتبت عن حادثة شارلي ايبدو معلقاً (ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحفيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحُريّة على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي والعُهْر الحضاري، وكل من يدعم حُريّة التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه "مُتطرّف فكرياً".........هذا يعني أننا نعيش في عصر "الجهل المقدّس" بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مُضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان".

إن ما يتشدّق به الرئيس الفرنسي ماكرون اليوم، عن المحافظة على ميثاق حقوق الانسان والتعهّد بالحرية الفكرية، لهو مؤشر حقيقي على الأزمة الفكرية التي يعيشها الغرب وفرنسا بشكل خاص فيما يخص احترام الآخر واحترام الأديان وصون حق حرية العبادة للأفراد.

إن هذه القيم الانسانية (حرية العبادة واحترام الآخر والتعايش المدني) قد جاء بها الاسلام قبل اثني عشر قرناً من الثورة الفرنسية، وإن أي شذوذ أو طغيان في تطبيق هذه القيم والمبادىء وحرفها عن مسارها الصحيح، سيؤدي إلى تعصب ديني يميني يسحق فيه المتطرفون الدينيون الآخر، كل الآخر، أو يسحق فيه اللادينيون الآخر، كل الآخر، ولا يوجد بديل عن هذا سوى الوسطية والاعتدال والاحترام المتبادل.

ولعلّ من سخرية القدر أن يتغذّى كل معسكر على الآخر، وألاّ يشعر بأهميته سوى بوجود الآخر، فمن على شاكلة ماكرون (المتهافت على أنقاض مبادئ الثورة الفرنسية) يروق له أن يدّعي أنه منارة الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الانسان ويشدّد على الاختلاف مع المتعصبين الدينيين، وفي ذات الوقت تزداد مساحة التعبير عن التعصّب الديني والتقوقع خلف شعارات العنف المضاد، كلما قوي المعسكر النقيض، وهكذا دواليك!
فمتى يستطيع البشر إدراك أنهم لن يشعروا بالأمان إلا إذا اقتربوا من المنطقة المعتدلة، وأنهم لن يشعروا بأهميتهم إلا من خلال احترام الآخر والتعايش معه.

ولعل هذا يقودنا إلى القول إن ردة فعلنا كمسلمين وحقوقيين ونشطاء ودعاة تحضّر يجب أن تلتزم باتباع القيم الانسانية التي جاء بها الاسلام ودعى لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما التعصّب والرد بالمثل أو استخدام العنف، فلن يؤدي سوى إلى إثبات وجهة نظرهم!

إن المقاطعة الاقتصادية، والثقافية، والرد بالحوار الفكري، ونشر تعاليم الاسلام الحقيقية والتعريف بها، والتحدث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بجوانبها الانسانية، وتطوير الخطاب الديني والاستمرار في نهج الإصلاح، هي خطوات لا تراجع عتها ولا بديل عنها سوى الصدام الحضاري أو ربما الانفجار العقائدي!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
28-10-2020