الجمعة، 26 فبراير 2021

الفرص الضائعة من أعمارنا!



في دراسة مثيرة نشرتها الممرضة الأسترالية "بروني وير" عبر تدوينات متلاحقة، ناقلة بدقة وأمانة لا يخلوان من المشاعر الإنسانية، والأدب الراقي، ما يمكن وصفه بالوصية الأخيرة لعدة مرضى أتاح لها عملها رعايتهم في أسابيعهم الأخيرة، قبل أن يترجلوا عن صهوة جوادهم.


ثم قررت "بروني" بناءً على المتابعة الكثيفة لمدوّنتها، والتفاعل معها، إلى نشر هذه اليوميات والانطباعات في كتاب أطلقت عليه عنوان "أهم خمسة أشياء يندم عليها المرء عند الموت". 

وكأن هذه الممرضة الأسترالية أرادت أن تنقل لنا من قلب غرفة العناية المركزة، خلاصة التجارب الحياتية، والوصايا المقدسة التي يمكن للمرء أن يورثها للجيل الذي يتبعه، لعله يستفيد من أخطائه وعثراته، ولا يرتكب ذات الأخطاء، ويكرر مرارة التجربة. أعني تجربة الندم، حين يدرك الفرد فينا، دنو أجله، وقصر عمره، وتوقف نشاطه، ومحدودية الأهداف والإنجازات التي يمكن أن يحققها أو يطمح لها.


على طول الخط الزمني الذي ينتقل بنا من مرحلة إلى أخرى، أو نتنقل نحن على متنه في رحلتنا الغرائبية، نتعرض وبشكل دوري إلى محطات تدعونا للتوقف قليلا، واستعراض شريط حياتنا بعين التجرّد والتأمل.

ومع هذه المراجعة النقدية، لأسلوب حياتنا وقراراتنا نستشرف المستقبل متطلعين إلى حياة أفضل ومتأملين أن يغدو الواحد فينا، إنساناً أفضل! نعم هذا هو الهدف الأوحد والأكثر نبلاً على سلم الأولويات الانسانية، رغم اختلافنا على تحديد ماهية هذا "الأفضل"!


الدرس الأول الذي تذكره بروني في كتابها، هو "امتلاك الشجاعة كي يعيش المرء حياته كما يريد وليس كما يتوقع منه الآخرون".

 

من اكثر الأشياء التي تجلب الندم للمرء، أن يعيش حياته كما يحددها له الأخرون، والآخر هنا قد يكون المجتمع أو العائلة، او المسؤول في العمل. إن الفرد فينا قادر على التكيف مع الواقع والتخلي عن احلامه بشكل مخيف، بل إننا نميل في معظم الأحيان إلى تطويع خياراتنا الشخصية لتتوافق وتتلاءم مع الآخرين، متجاوزين رغباتنا الحقيقية، وأحلامنا الفتيّة في الحياة، وغالباً ما نفشل في إدراك تلك الحقيقة إلا في وقت متأخر، بل ومتأخر جدا!


أما الندم الثاني فكان "قضاء وقت أكثر مما ينبغي في العمل"، على حساب لحظات حياتية كان من الممكن أن تكون لحظات فارقة في حياتهم لو استغلوها بشكل مختلف. 

ومن اللافت أن هؤلاء الأشخاص الذين كانوا على وشك مفارقة الحياة، أقروا بأن بساطة الحياة والابتعاد عن ضغوطات العمل الزائدة عن الحد، كفيل بتحقيق السعادة حتى ولو كان ذلك على حساب الدخل المادي. 


أما الندم الثالث فكان الندم على "عدم التحلي بالشجاعة الكافية للتعبير عن المشاعر"، حيث أن كبت المشاعر أدى بهم في كثير من الأحيان إلى علاقات سلبية، واستياء داخلي متراكم. 

حيث كانت أمنية هؤلاء أن يعود بهم الزمن إلى الوراء للتعبير عن مشاعرهم بكل أريحية وأن ذلك كان سيؤدي بهم إلى علاقات أكثر صدقاً ووضوحاً، ولكان أيضاً ساعدهم على التخلص من علاقات سلبية أثّرت على مسار حياتهم أو بناء علاقات أكثر حميمية وجلباً للسعادة.


وفي المرتبة الرابعة، جاء الندم على "عدم المحافظة على الأصدقاء الحقيقيين". لقد أقرّ هؤلاء بأنهم لم يبذلوا الجهد الكافي لبناء صداقات جيدة أو المحافظة على صداقات حقيقية قائمة، بسبب أولويات أخرى.

اللافت للانتباه أن الوصيّة التي خلفها هؤلاء من ورائهم، ركّزت على أن حب الأصدقاء ودوام العلاقة الطيبة معهم، هي أهم بنظرهم من النجاح في جمع المال أو النجاح المهني الذين سعوا إلى تحقيقهما .


أما الندم الخامس والأخير في القائمة، فهو أمر يستدعي الدهشة والاستغراب، "أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة" وهو ما يشير إلى حالة تناقض الذات التي نعيشها!

أستطيع القول أننا وفي خضم سعينا نحو السعادة، نسمح لأنفسنا أن نقولب ذواتنا في قوالب تجعل منا أكثر نجاحاً في أعين الآخرين، ولكننا وإذ نفعل ذلك، نكون أبعد ما يكون عن السعادة الداخلية، والراحة النفسية، وإرضاء الذات! بل إننا نسمح لأنفسنا وفي معظم الأحيان، أن نلعب دور البلسم الشافي، ومصدر السعادة والدلال لمن حولنا، على حساب سعادتنا (أتمنى لو أنني سمحت لنفسي بمزيد من السعادة!).


مما نستفيده من هذه النصائح، ومشاعر الندم في الختامات، أن الندم هنا يتمحور حول مساقين منفصلين نظرياً، ولكنهما يتقاطعان في النهاية. الأول هو الندم على أشياء لم نفعلها، أما الثاني فهو الندم على أشياء فعلناها بالفعل، حيث يكون الندم أكثر بكثير في الحالة الأولى، لسبب بسيط، أننا لم نعش تلك التجربة، لذلك يستمر معنا الشعور بالحرمان طوال الحياة، دون أن نستطيع التخلص منه. 

في حين لو أننا أخطأنا في فعل ما، فإن الندم والتكفير عنه كفيل "في أحيان كثيرة" على منحنا الإحساس بالرضى عن ذواتنا ولو بشكل نسبي.


إن تفويتنا لمناسبة عائلية أو إهمالنا للحظة خاصة تجمعنا بالأصدقاء، أو ترددنا في اتخاذ قرار أخلاقي كان واجباً علينا، أو عدم امتلاكنا الشجاعة الكافية للبوح بمشاعرنا والتعبير عنها، وتغليفها بالحزم والرسميات والجمود غالباً ما يورثنا الندم الذي لا ينفع معه الزمن!


والحديث هنا يدفعني لإلقاء الضوء على نظرية لها علاقة مباشرة بالندم الذي نتحدث عنه، وهي "نظرية الفرصة الضائعة"، وقد طرحت في الأساس في مجال الاقتصاد والإدارة وتقول، إن كل شخص يُقدم على اتخاذ قرار ما، فإنه مُطالب بأن يدرس قراره بشكل منطقي، وهذه الدراسة تستدعي تحليل كافة المتغيرات والعوامل المحيطة بشكل علمي وبناءً على معلومات موثوقة ودقيقة. ولكي يكون هذا القرار رشيداً، عليه أن يضع في الحسبان كل الخيارات المطروحة، وليس خياراً واحداً فقط، ثم القيام بالمفاضلة بينهم بعد الدراسة والتحليل.

وبناءً على ما سبق، فإن مقابل كل خيار نتخذه، هناك فرصة ضائعة أسقطناها من حساباتنا، وهذا ما يُسمّى بالفرصة الضائعة؛ ففي حال قيامك باتخاذ خطوة استثمارية خاطئة لا تكون قد خسرت في استثمارك ذاك فقط، بل تكون قد أضعت فرصة أخرى ناجحة من يدك، ولم تعد الآن في متناولك!


ومن هنا يمكن القول -ولو من باب الفلسفة النقدية- إن مقابل كل ساعة تقضيها في عملك فائضةً عن الحاجة، هناك ساعة مفيدة كان بالإمكان أن تقضيها في القراءة أو الاستجمام، او الترفيه عن النفس. في مقابل كل ساعة فراغ تمر من عمرك بلا طائل، هناك ساعة كان يمكن فيها أن تتقرب إلى الله، أو أن تزور رحمك، أو ان تُحسن إلى جارك.

في مقابل المال الذي تقرر أن تدفعه على نزواتك، هناك فرصة ضائعة في أن تصطحب عائلتك إلى مطعم هادىء وأن تستمتعوا جميعاً بوجبة مسائية وسهرة عائلية. في مقابل كل تردد في محادثة أحد الأصدقاء أو المماطلة في ود أحدهم هناك فرصة صداقة ضائعة، وسلام نفسي كان يمكن أن تكتسبه.


تُرى، كم هي الفرص الضائعة التي نقفز عنها في حياتنا، ولا نلقي لها بالاً؟!  


خلاصة القول، إن أسلوبنا في العيش يجب أن يراعي التوازن بين أهدافنا في الحياة، وأن خلف كل خيار، فرصةٌ ضائعة!


أيمن يوسف أبولبن 

كاتب ومُدوّن من الأردن

26-2-2021

السبت، 16 يناير 2021

أهمية اسم المنتج في ذهن المستهلك

 

 


في إطار حملة توعوية لتغيير تصورات المستهلك عن علامتها التجارية ، قامت شركة Payless بحيلة دعائية أدت ببعض الشخصيات العامة والمشاهير والمؤثرين في عالم الموضة إلى دفع نحو 600 دولارًا مقابل أحذية لا يتجاوز سعرها أكثر من 40 دولارًا !!

وفي التفاصيل فقد قام المسؤولون عن الحملة بإنشاء علامة تجارية مزيفة " Palessi " ورصدوا لها إعلانات ضخمة على انها ماركة تجارية راقية جديدة في السوق، ووضعوا لافتة على أحد المتاجر الراقية، وقاموا بتكديس المتجر بأحذية تُباع في Payless بأسعار لا تتجاوز 40 دولارا، ثم أقاموا حفل افتتاح ضخم دعوا  له كبار الشخصيات للاحتفاء بالعلامة التجارية الجديدة.

المفاجأة كانت أن هذه الشخصيات المعروفة في عالم الموضة والأزياء أشادوا بتصميم وتصنيع أحذية الماركة "الراقية" ودفعوا ما يصل إلى 600 دولارًا مقابل الحذاء الواحد!!

بعد الحفل قام الفريق القائم على الحملة بكشف تفاصيل "الخدعة" وتصوير ردة فعل هؤلاء الأشخاص ثم قاموا بنشر هذه المقاطع ضمن الحملة الخاصة بشركة Payless.

 

تعليق:

الهدف من الحملة كان للتأكيد على أن منتجات Payless تحقق التوازن الصحيح بين الجودة والسعر للمستهلك، ولكنها من ناحية أخرى تؤكد بوضوح التوجه الاستهلاكي للبشر الذي يرفع من قيمة المنتج بناء على "العلامة التجارية BRAND NAME" وليس بناء على جودة المنتج ، بل إنه في بعض الأحيان يتوجه بعض المستهلكين إلى البضاعة الأعلى سعراً لظنهم أن ارتفاع السعر هو مؤشر على ارتفاع نسبة الجودة.

  

أيمن يوسف أبولبن

17-11-2020


ماذا تعني لك كلمة "الدقة" أو "الالتزام بالمواعيد" في الخدمات العامة؟

 

معايير الجودة والدقة أو الالتزام تختلف باختلاف الثقافات والحضارة. في اليابان مثلاً، أصدرت الشركة المسؤولة عن تشغيل أحد القطارات التي تخدم ضواحي طوكيو اعتذارًا بعد مغادرة أحد قطاراتها قبل 20 ثانية فقط من الموعد المحدد!!

هذا الخبر انتشر في عناوين الصحف في جميع أنحاء العالم لسبب بسيط يتمثل في أنه لا يوجد أي بلد في العالم يعتبر ان هذا التأخير هو خطأ، حتى لو تم اعتباره كذلك، فإنه بالتأكيد لا يستدعي إعتذاراً ! بل على العكس تماماً، قد يكون هذا مدعاة للفخر في بعض البلدان كونه قريب جدا من الوقت المخطط له!!

جاء في البيان الرسمي "نعتذر بشدة عن الإزعاج الشديد الذي فُرض على عملائنا، إن المسؤول لم يتحقق بشكل صحيح من الجدول الزمني للقطار". وقالوا إن الطاقم قد تلقوا تعليمات في المستقبل "باتباع الإجراءات بدقة لمنع تكرارها". وبناء على ذلك فقد تم ارسال قطار آخر بعد 4 دقائق فقط لخدمة المسافرين الذين فاتهم القطار السابق!!

دفعت القصة العديد من الباحثين إلى التركيز على كيفية أداء خدمات السكك الحديدية في مختلف البلدان من حيث الموثوقية (الالتزام بالمواعيد) وجاءت الدراسات عللى النحو التلي:

تعد اليابان واحدة من أفضل الدول أداءً في الوقت المحدد. يصل القطار السريع الياباني بفارق 54 ثانية عن موعده في المتوسط. إذا تأخر القطار الياباني خمس دقائق أو أكثر ، يتم منح الركاب شهادة يمكنهم تقديمها لرئيسهم في العمل كذريعة للتأخر.

تشمل شبكات السكك الحديدية الوطنية الأخرى التي تتمتع بسجلات موثوقية جيدة السويد والدنمارك وألمانيا وفرنسا.

ولكن يبقى التعقيد في تعريف وتحديد معنى "في الوقت المحدد".

في سويسرا مثلاً يتأخر قطار سويسري إذا وصل بعد أكثر من ثلاث دقائق عن الوقت المعلن عنه. ولكن ، في بريطانيا، يمكن أن يتأخر القطار إلى خمس دقائق ومع ذلك يتم تسجيله "في الوقت المحدد". في أيرلندا ، يكون القطار "في الموعد" إذا تأخر أقل من 10 دقائق وكذلك الوضع في الولايات المتحدة (ما يصل إلى 30 دقيقة للرحلات التي تزيد عن 550 ميلاً)

 

اما في العالم العربي الذي لم تشمله الدراسة، فلا يوجد معايير أساسية لتحديد التأخير ولا اعتقد ان هناك معاييراً في الأصل للحفاظ على الوقت والالتزام به!!

لهذا فعندما يقرا المواطن العربي خبراً مثل هذا، يشعر بأن اليابان بالفعل هو كوكب آخر، "كوكب اليابان" او ان عالمنا العربي هو كوكب متفرد بذاته!!

 

أيمن يوسف أبولبن

25-12-2020

أزمة نقص الدجاج عند KFC



 

ربما يكون من المفاجىء للبعض أن يعرف أن حجم إنفاق المملكة المتحدة يتجاوز 2 مليار جنيه إسترليني سنويًا على وجبات الدجاج السريعة مثل كنتاكي فرايد تشيكن. وهذا ما يفسر حجم المشكلة التي وقعت فيها إدارة مطاعم كنتاكي عام 2018 عندما اضطرت إلى إغلاق أكثر من نصف فروعها البالغ عددها 900 في المملكة المتحدة بسبب نفاد الدجاج!!.

هل تخيلت أن تصطف في طابور طويل لدى أحد مطاعم كنتاكي لتتفاجىء في النهاية أنه لا يوجد دجاج؟!

 

وفي العودة إلى الأسباب فقد قامت إدارة كنتاكي بتغيير متعهد التوصيل من شركة Bidvest ، إلى DHL ، وهي جزء من دويتشه بوست الألمانية قليلة الخبرة في مجال الخدمات اللوجستية والتشغيلية، وهذا مثال على قلة تقدير أهمية "القضايا التشغيلية". لقد أساءت شركة كنتاكي تقديرها لإدارة عملية التوصيل، إذ لا يمكن لأي إداري محنك أن يمنح عقدا مهماً لمقاول جديد بدون خبرة ذات صلة بالعمل. وما زاد الطين بلة أن الأمر يتعلق بمواد غذائية قابلة للفساد ناهيك عن القول أن سلسلة كنتاكي تعتمد على الدجاج الطازج في المملكة المتحدة وليس المجمد، مما يضاعف من تعقيد عملية التوريد والحفظ.

ولكن اللافت في الموضوع أن استجابة كنتاكي فرايد تشيكن لهذه الأزمة قد لاقت ترحاباً كبيراً، حيث استمرت إدارة المطعم بدفع رواتب الموظفين رغم إغلاق نحو نصف مطاعمها. إضافة إلى ذلك كانت سياسة الشركة في التماس العذر من عملائها مليئة بروح الدعابة. غردت كنتاكي فرايد تشيكن على منصة تويتر "ببساطة ، لدينا الدجاج ، لدينا المطاعم ، لكن واجهتنا بعض المشاكل في جمعهما معًا" !!

 

بعد فترة وجيزة غيرت كنتاكي فرايد تشيكن قرار تبديل شركات التوزيع حيث وقعت بيدفيست اتفاقية جديدة مع كنتاكي لتوريد الدجاج.

الشاهد في الموضوع: الاداري الناجح هو الذي يدرس قراراته بشكل جيد قبل أن يتخذها، أي أن أفعاله تكون ناجمة عن تخطيط مسبق وليس بناء على توجهات غير مدروسة.

ومن ناحية أخرى، فإن مشاكل العمل ستحدث مهما حاولت منعها، ولكن الأهم أن تعرف كيف تتعامل معها حين حدوثها أولاً، وأن تتعلم منها ثانياً!

 

أيمن يوسف أبولبن

15-1-2021

الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

أيها المُطبّعون العرب صحيتوا المواجع فينا!!

     قبل عدة أعوام تعرّفت على أحد الزملاء من "أهل البلاد" البسطاء الذين يتصرفون على سجيتهم وكما نقول "اللي في قلبه على لسانه"، لا يتحرّج من توجيه النقد اللاذع أو ابداء أية ملاحظة دون مواربة. هو باختصار تلقائي وبسيط، بعيدٌ عن التكلف.

في جلسة جمعتني به سألني: "أنت بتنزل على الضفة ؟" هذا السؤال أعادني في الذاكرة إلى عقود مضت، قلت له آخر زيارة لي كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات، قال مستغرباً "وليش ما بتنزل !؟" قلت له أرى أنك تشجعني على الزيارة، قال طبعاً عليك أن تزور "البلاد" وأن تأخذ أولادك وتعرفهم على بلادهم الأصلية.

قلت مُعقباً زيارة فلسطين في هذه الأيام أسهل من زيارة بعض الدول العربية، أخبرني بعض أصدقائي أن هناك مكاتب سياحية في عمّان توفر للراغبين جولة سياحية في الضفة وأراضي عام 48، بل إن المكتب يتكفل بجميع المعاملات دون أن تضطر للذهاب إلى السفارة، ليس هذا فحسب بل إن ختم الزيارة يكون على تأشيرة خارجية دون ختم الجواز، كي لا يؤثر ذلك على دخولك لأراضي بعض الدول العربية التي تمنع زيارة دولة الاحتلال.

قفز سؤاله في وجهي مستغرباً، وما الذي يمنعك إذاً !! أطبق علي السكون، ثم خطرت على بالي فكرة، تنهّدت وقلت له هل لك أن تسمع مني قصة قصيرة؟ قال تفضل، وأشعل سيجارة جديدة، في حماس واضح لسماع مجادلتي.

ذات يوم، قام مسؤول كبير ومدعوم بسرقة سيارتي في وضح النهار، وبما أنه متمكن وقادر وله معارف واتصالات في الدولة، ولديه مصالح مشتركة مع أصحاب القرار ، استطاع أن يحصل على أوراق تثبت ملكيته للسيارة ، وفي يوم وليلة أصبحت السيارة ملكا له!!
   
وبما أني مواطن "غلبان"، ولا يوجد من يدعمني أو أن يستمع لروايتي، إضافة إلى أن معظم علاقاتي مع أناس بسطاء مثلي "غير مؤثرين"، فقد فشلت في اثبات ملكيتي للسيارة، رغم كل الأوراق والاثباتات التي في حوزتي، لأنه على الطرف الآخر لديه من المستندات والاثباتات التي تدحض أوراقي !!
   
وبعد كرّ و فرّ، قررت أن أسترجع السيارة بالقوة ولكني للأسف فشلت من جديد، لأني في النهاية رجل ضعيف كما أسلفتً ولا أملك الامكانيات الكافية التي تؤهلني لمواجهة طغيانه. ثم قررت أن أجرب الحيلة والاحتيال واللف والدوران ولكني سرعان ما اكتشفت أني لا أصلح لهذا أيضاً وصدق من قال"اللي مش كارو يا نارو!".

ومع محاولاتي استرجاع السيارة بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى، انقلبت الصورة أمام الاعلام والقانون وأصبحت أنا المعتدي، والفاسد والحرامي !!

  وصل اليأس معي مداه، وفقدت الأمل، ولكن السيارة بقيت تراودني في أحلامي، دون أن أنساها ولو للحظة، وكلما رأيت ذلك المسؤول يقودها، يطير عقلي!.

ثم كانت المفاجأة بأن تلقيت دعوة للقاء المسؤول في مكتبه، وبعد حديث طويل قال لي لماذا تصرّ على تعقيد الأمور، لماذا لا تعتبر أني استأجرت السيارة منك، وفي اللحظة التي ترغب في استعمالها اطلبها مني وستصلك إلى منزلك في نفس اليوم، اقض حاجتك بها وأرجعها لي، ولكن دعنا من نحيبك ونشيجك ولقاءاتك التلفزيونية العاطفية، والقضايا الخاسرة التي ترفعها ضدي هنا وهناك. خذها نصيحة صادقة مني، آن لك ان تتصرف بعقلانية بعيداً عن العواطف مع الأخذ بالاعتبار مصالحك وظروفك بل والظروف المحيطة أيضا، أما آن لك أن تقبل بالأمر الواقع يا صديقي!

خرجتُ من عنده والأفكار تأخذني جيئة وذهابا وتتلاطم في ذهني كالأمواج الهائجة، هل يعقل ما يحدث ؟! أستأذن منه كي استخدم سيارتي التي أمتلكها؟ ثم يطلّ علي عقلي ليقول، لنواجه الحقيقة التي تقول انك قد خسرت السيارة وأنها لم تعد ملكك، بناء على هذه الحقيقة، فإن أي شيء يمكنك الحصول عليه هو انتصار حقيقي، حتى لو كان قضاء يوم واحد في نزهة بالسيارة!

في النهاية ونظراً لعنادي الشديد، ولصلابة رأسي كما يًشاع عني، رفضتً الفكرة، واخترت أن أعاني في المواصلات العامة، وأن تحرقني الشمس وانا أتنقل من هنا إلى هناك وأقف في طوابير المواصلات، وأن أصل بيتي كل يوم وقد استفذت كل طاقتي في العمل وفي أزمة المواصلات، وما أن أضع رأسي على وسادتي حتى تطل صورة السيارة أمام عيني، فتتملكني الحسرة وينكسر قلبي !!

وهنا، توقفت عن الحديث وقلت لصديقي الذي كان يصغي بعناية ودهشة في آن، لو كنت مكاني ماذا كنت ستختار!؟ لقد أخترتُ أن أعيش في عقدة النقص وأن تظل الحسرة تحاصرني كل يوم على وطن سُرق مني في وضح النهار وما زلت عاجزاً لغاية اليوم أن أزوره أو أعيش فيه ولو للحظة واحدة دون الاستئذان من "الحرامي الكبير" الذي سرق هذا الوطن مني!!

وما أن أنهيت سؤالي حتى احمرّ وجهه وسرعان ما اغرورقت عيناه بالدمع وبصعوبة بالغة تمالك نفسه. 
أحسست بالاحراج وشعرت بأني قد بالغت في كلامي وردّي عليه، حاولت استدراك الأمر والاعتذار بلباقة، ولكن ذلك لم يمنع الضبابية في عيونه، ثم قطع الصمت قائلاً: انت سمعت أغنية ام كلثوم ؟ قلت له أي أغنية ؟ قال وصوته يحشرج "صحيت المواجع فيّا".

هذه الواقعة حصلت معي قبل نحو سبع سنوات، ومنذ أن غادرت موقع العمل ذاك لم ألتق مع زميلي طيب الذكر، ولكن عقلي اللاواعي استدعى تلك الحادثة وانا أراقب بحسرة وألم من يطلقون على أنفسم أسماء من قبيل "نشطاء" و "مؤثرين" و "مثقفين" عرب يهرولون لزيارة بلادي المحتلة تحت مظلة الاحتلال ويتغنّون بطيبة الشعب الاسرائيلي والأطفال الاسرائيليين الذين يتلقونهم بالتحيّة "شالوم"!!

كيف لمواطن عربي تجمعني به أخوّة وصلة دمٌ، وثقافة واحدة أن يتغاضى عن مأساة وطن مسلوب، ومأساة شعب محتل وجيل كامل محروم من أرضه، وأن يتسابق لزيارة بيتي المنهوب وقريتي المدمرّة، وأطلال مدرستي ومسجدي المعطّل، وأن يتباهى بلقاء أبناء المغتصب على مرأى الجميع!! 

أيها المهرولون نحو التطبيع، هلاّ نظرتم إلى تحت أقدامكم قليلاً!

أيمن يوسف أبولبن 
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-12-2020

الخميس، 29 أكتوبر 2020

ماكرون وتهافت الثورة الفرنسية

لا بد للمرء فينا العودة إلى التاريخ لفكّ طلاسم التصادم الفكري الحاصل حالياً، وفك الاشتباك فيما يدّعي البعض أنه التزام بقيم حرية الفكر والمعتقد، وبين قيم التعايش الحقيقية وتقبّل الآخر.

بعدما نجحت الثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها السياسية وقلب نظام الحكم الملكي في البلاد، بدأت موجةٌ من الفوضى والعنف الخارج عن السيطرةـ والتي أحالت البلاد إلى آتون حرب أهلية طرفها الأول "الثوّار"، فيما لا تحد طرفه الآخر حدود مفهومة او واضحة، فمداها مفتوح حتى انه شمل بعض اعضاء الثورة نفسها، فاقتتلوا فيما بينهم ونُفّذ حكم الاعدام في بعض قادتهم!

هذه الحالة الفوضوية يمكن وصفها بإيجاز بأنها خروج عن مسار الثورة، وانحراف عن مبادئها، ولكن استمرار الثورة الفرنسية على هذا الحال الفوضوي الممزوج بين شعارات الحرية والقضاء على الآخر في آن واحد، أورث للعالم جيلاً لا يكاد يفرّق بين هذا أو ذاك، بل إنه يؤمن ولو بشكل غير واع، أن تحقيق أهداف الثورة السامية -أي ثورة- لا بد وأن يكون على رقاب الآخرين، والآخر هنا قابل لإعادة التعريف والقولبة حسب واقع الحال. ويمكن قياس ذلك على الحروب الخارجية التي خاضها الجيش الفرنسي، كما يمكن قياسها أيضاً على الحضارة الأمريكية، التي انبثقت بشكل غير مباشر من مهد الحضارة الفرنسية. (إعلان حقوق الانسان للثورة الفرنسية تم إعلانه في عام 1789 فيما تم اعلان وثيقة الحقوق الأمريكية بعده بعامين).

من جهة أخرى كان من الملاحظ أن الثورة الفرنسية قد اكتسبت رمزية أخرى لا تقل أهمية عن حقوق الانسان وتتمثل في ثورتها على الكنيسة، وعلى المفاهيم التقليدية التي تتعارض مع العقل والعلم، وهذا بدوره تحوّل إلى ما يشبه "العقيدة اللادينية" أو ما أطلق عليه فصل الكنيسة عن الدولة.
ولعل أول نتائج الثورة كانت القضاء على حكم الكنيسة وجعلها خاضعة للدولة المدنية، حيث أصبحت الدولة مسؤولة عن تعيين الرهبان ورعاية شؤون الكنيسة، بعدما كانت الكنيسة هي راعية الدولة وهي التي تنصّب الحُكّام باسم الله! بل إن الدولة الفرنسية الجديدة أخضعت الرهبان لقسمٍ جديد يلتزمون فيه بالولاء للدولة وهو ما أدى إلى تقسيم الكنيسة الى حزبين، حزبٌ موالٍ للدولة الجديدة وحزب اختار الابقاء على ولائه للكنيسة، والنتيجة الحتمية كانت القضاء على كل من لا يجهر بالولاء للدولة!

هذه الوقائع التاريخية، والنتائج التي آلت لها الثورة، الايجابية منها والسلبية ترسّخت في أذهان الكثيرين، على أنها حزمة إصلاحيّة واحدة يجب القبول بها بل وتقديسها، بدلاً من مراجعتها أو اخضاعها للفكر النقدي، وهو ما أدى في النهاية إلى ترسيخ أفكار الثورة الفرنسية في أذهان الكثيرين بشكل مغاير لمبادىء الثورة الأساسية التي قامت عليها مبادىء حقوق الانسان في العالم أجمع، وكانت المظلة التي انبثقت منها كل الديمقراطيات في العالم الحديث.

في مقال سابق لي نشر في جريدة القدس العربي في يناير من عام 2015، كتبت عن حادثة شارلي ايبدو معلقاً (ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحفيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحُريّة على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي والعُهْر الحضاري، وكل من يدعم حُريّة التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه "مُتطرّف فكرياً".........هذا يعني أننا نعيش في عصر "الجهل المقدّس" بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مُضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان".

إن ما يتشدّق به الرئيس الفرنسي ماكرون اليوم، عن المحافظة على ميثاق حقوق الانسان والتعهّد بالحرية الفكرية، لهو مؤشر حقيقي على الأزمة الفكرية التي يعيشها الغرب وفرنسا بشكل خاص فيما يخص احترام الآخر واحترام الأديان وصون حق حرية العبادة للأفراد.

إن هذه القيم الانسانية (حرية العبادة واحترام الآخر والتعايش المدني) قد جاء بها الاسلام قبل اثني عشر قرناً من الثورة الفرنسية، وإن أي شذوذ أو طغيان في تطبيق هذه القيم والمبادىء وحرفها عن مسارها الصحيح، سيؤدي إلى تعصب ديني يميني يسحق فيه المتطرفون الدينيون الآخر، كل الآخر، أو يسحق فيه اللادينيون الآخر، كل الآخر، ولا يوجد بديل عن هذا سوى الوسطية والاعتدال والاحترام المتبادل.

ولعلّ من سخرية القدر أن يتغذّى كل معسكر على الآخر، وألاّ يشعر بأهميته سوى بوجود الآخر، فمن على شاكلة ماكرون (المتهافت على أنقاض مبادئ الثورة الفرنسية) يروق له أن يدّعي أنه منارة الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الانسان ويشدّد على الاختلاف مع المتعصبين الدينيين، وفي ذات الوقت تزداد مساحة التعبير عن التعصّب الديني والتقوقع خلف شعارات العنف المضاد، كلما قوي المعسكر النقيض، وهكذا دواليك!
فمتى يستطيع البشر إدراك أنهم لن يشعروا بالأمان إلا إذا اقتربوا من المنطقة المعتدلة، وأنهم لن يشعروا بأهميتهم إلا من خلال احترام الآخر والتعايش معه.

ولعل هذا يقودنا إلى القول إن ردة فعلنا كمسلمين وحقوقيين ونشطاء ودعاة تحضّر يجب أن تلتزم باتباع القيم الانسانية التي جاء بها الاسلام ودعى لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما التعصّب والرد بالمثل أو استخدام العنف، فلن يؤدي سوى إلى إثبات وجهة نظرهم!

إن المقاطعة الاقتصادية، والثقافية، والرد بالحوار الفكري، ونشر تعاليم الاسلام الحقيقية والتعريف بها، والتحدث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بجوانبها الانسانية، وتطوير الخطاب الديني والاستمرار في نهج الإصلاح، هي خطوات لا تراجع عتها ولا بديل عنها سوى الصدام الحضاري أو ربما الانفجار العقائدي!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
28-10-2020

الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

طفلٌ صغيرٌ أحبَّ السينما!

في ظل أزمة كورونا وبروتوكولات التباعد الاجتماعي، غابت السينما عن المشهد، وتوقفت عجلة الانتاج السينمائي، بل إن العروض السينمائية للأفلام التي كان من المقرر أن تغزو شاشات العرض، تأجلت خوفاً من تقلص الأرباح وعدم تحقيق الدخل المرجو.
وهذا ما زاد من حجم الكآبة التي نعيش في عالمنا العربي، خصوصاً مع تزايد الأخبار المؤسفة والمخجلة التي تنهال على أسماعنا كل يوم، حيث بتنا بأمس الحاجة إلى نافذة ترفيهية نفرّج فيها عن همومنا ونتنفس من خلالها بعض الهواء المنعش!

وجدتني في خضم هذه الحالة، ودون أن أشعر، أغوص في أعماق ذكرياتي الطفولية عن السينما وعن عشقي لها، ودفعتني تلك الحالة للكتابة عنها.

ما زلت أذكر المرة الأولى التي دخلت فيها إلى عالم السينما والشاشة الكبيرة، وتلك مفارقة عجيبة ومضحكة، ما زلت أتندّر بها في جلساتنا العائلية، ذلك أن شقيقي غسان الذي يكبرني بنحو أربع سنوات، اصطحبني لمشاهدة فيلم "الرسالة" الشهير، وكنت وقتها طفلاً في الصفوف الابتدائية الأولى.
ورغم أني أذكر أن إدارة المدرسة قامت بتنظيم رحلة مدرسية لمشاهدة الفيلم في صالات السينما، إلا أن شقيقي وعدني بأن يصطحبني بنفسه لمشاهدة الفيلم، رغم أنه قد سبق له مشاهدته.

كنت حينها لا أعرف عن الفيلم سوى أنه يتحدث عن الإسلام وحياة الصحابة، وعبثاً حاول شقيقي شرح معنى كلمة "الرسالة" وارتباطها بالفيلم!

وبالفعل وصلنا إلى وسط البلد وكانت بوسترات الفيلم الكبيرة والضخمة تحيط بالمكان، ولكن حين ذهب شقيقي غسان لشراء التذاكر عاد إلي مسرعاً وهو يقول إن الفيلم قد انتهى عرضه، وبدأ عرض فيلم جديد ل "بروس لي" النجم المفضل له!

تملكتني المفاجأة والحسرة في آن، وجادلت شقيقي بأن بوسترات الفيلم ما زالت موجودة، وصور الفيلم على مداخل السينما، ولكنه بطريقة ما أقنعني بأن هذه هي الحقيقة، ولمّا كان له ذلك التأثير علي، ارتهنت بأمره، ولم يكن في اليد حيلة!.

دخلنا صالة السينما، وأُطفات الأضواء، كان المصدر الوحيد للنور هو الشاشة العملاقة التي سرعان ما استحوذت على حواس المشاهدين، بل إنها استحوذت على مخيّلة المشاهد، وسيطرت على انفعالاته ومشاعره، سعادته، ترقبه، خوفه، إثارته، تفاعله مع الأحداث، شعرت حينها بأني أشبه بالمنوّم مغناطيسياً!

في صالة السينما ينفصل المُشاهدُ عن واقعه، يرمي وراءه كل ما مرّ به في ذلك اليوم من تعب وإرهاق وإجهاد، ومشاكل، ينطلق في رحلة مثيرة ليس فقط مع أجواء الفيلم، بل في رحلة لا تقلّ إثارةً، إلى اعماق ذاته.

تلك الدهشة التي تملكتني وأنا طفل صغير يدخل قاعة السينما لأول مرة في حياته، ما زالت تصيبني في كل مرة أدخل فيها إلى قاعة السينما، وأجدني أتأثر وأتابع بشغف كل مشهد وكل جملة وكل كلمة، كل تعبير يصدر عن الممثلين، وأرهف السمع إلى الموسيقى التصويرية، وكل ما يحيط بتلك اللحظة.
في الحالة تلك أنفصل عن واقعي الحياتي، وكأني أسافر عبر الزمن، أتجاوز المكان فانتقل من مقعدي إلى داخل الشاشة الكبيرة وأعيش مع الشخوص هناك، أو أنكفأ على نفسي فأغوض في أعماقها، وأغرف من منهل تجاربي وانكساراتي وخيباتي، وأعاود صياغة الحبكة، فأضيف إليها من تجربتي الشخصية، او من أهوائي وأمنياتي، فتنطبع تلك المشاهد وتعلق في ذاكرتي، بعد أن أكون قد دمغتها بطابعي أنا، لذا تصبح جزءاً مني، أو أصبح أنا جزءاً من الحكاية!

ما زلت استمتع بمشاهدة السينما، وكأني ذلك الطفل الذي لم يكبر، أطلق ضحكة مدوية، أو أقبض بيدي على المقعد، أو تفلت الدموع من محبسها فلا أسيطر عليها!

بين الحين والآخر أذكّرُ شقيقي غسان بتلك الحادثة، ثم نتندّر عليها، ليس لأنها المرة الأولى التي يصطحبني بها إلى السينما، ولكن لأنه قد خدعني واصطحبني إلى فيلم "بروس لي" رغم أن فيلم "الرسالة" كان يُعرض في صالة أخرى، إذ أنه لم يستطع مقاومة مشاهدة نجمه المفضّل!
بل إن الأنكى من ذلك أن الفيلم الذي شاهدناه، لم يكن ل "بروس لي" الحقيقي، بل كان أحد الأفلام التجارية التي تستغل اسم النجم الشهير بعد وفاته للترويج للفيلم على انه آخر أفلام ذلك النجم، ولذلك كانت المفارقة المضحكة في تلك الحادثة مُضاعفة!

ما أحوجنا في الحقيقة لأن ننفصل عن واقعنا اليومي المعاش ولو لساعتين من الزمن نفرّغ بها طاقاتنا السلبية ونعيد شحن طاقتنا الايجابية، بحثاً عن جلب بعض المتعة لأنفسنا.

وما أحوجنا إلى ممارسة تلك الدهشة الطفولية في أحداثنا اليومية، والنظر إلى مجريات الأمور ربما بنظرة مغايرة، ما أحوجنا بالفعل للعودة إلى لحظاتنا الأولى، إلى تلك المتعة التي مارسناها في تجربة كل شيء لأول مرة، العودة إلى البدايات، إلى الاستمتاع بالشيء وتقديره، بدلاً من التعوّد عليه وعلى وجوده في حياتنا.


طفلٌ صغيرٌ أنا 
يُعاند شقاوة الحياة
يتلمسّ الطريق بخطوات مُتردّدة
يحومُ مثل فراشةٍ
تبحثُ عن ضوءٍ شارد
يسبحُ في فلك نجمةٍ عصيّة
------
أبحث عن بداياتي
عن طفلٍ صغيرٍ كان بداخلي
لعل مسّاً من الشِعْر يصيبني
 أو شيئاً من الجنون 
والفوضى
كي أستحق هذه الحياة
من جديد
كي أتلمّظُ طعم الحياة
 وألوكه
دون أن أفقدَ حلاوة المذاق
-----
طفلٌ صغيرٌ أنا
بخطواتٍ مُتردّدة ومتثاقلةٍ ........
أمشي
 
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
8-9-2020