*آيات استوقفتني (الجزء الرابع)*
نستمر بإذن الله تعالى في استكمال مشروع "آيات
استوقفتني" في عامه الرابع.
ولمن فاته الموضوع نقول باختصار إن فكرة هذا
العمل، هي إلقاء الضوء على مجموعة من الآيات القرآنية والتفكّر فيها، للخروج بفهم
جديد أو التركيز على دلالة خافية، من خلال التفكّر والبحث وإعادة القراءة خلال
الشهر الفضيل. برجاء التوفيق من الله.
علماً بأن ما يرد في هذه المواضيع، هو مجموعة من
الاجتهادات الشخصية النابعة من البحث والمتابعة للعديد من المؤلفات والكتب
المختصة، على مدار سنوات طويلة، وهي بالتأكيد محاولة تحتمل الصواب والخطأ.
أتمنى عليكم مشاركة أفكاركم والتفاعل مع
الموضوعات، مع حرية مشاركتها أيضاً مع أصدقائكم.
ومن أجل الفائدة هذا الرابط يحتوي جميع
مشاركات الأعوام الثلاثة الماضية.
وكل عام وأنتم وأحبابكم بألف خير
وقبل أن نشرع في استعراض الآيات، أود استرجاع
بعض الركائز الأساسية لمنهجية القراءة المعاصرة لكتاب الله عز وجل، والتي
تناولناها في الأعوام الماضية، وهي المنهجية التي نعتمد عليها في بحثنا هذا:
1.
*عدم استخدام
الترادف*، بمعنى أن الله عز وجل استخدم كل مفردة للدلالة على معنى خاص لا
يتم إلا باستخدام تلك المفردة، وإن أي تشابه في المعنى بين مفردات الكتاب يجب أن
يزول حتى يستبين المعنى السليم للآية ومراد الله منها.
على سبيل المثال *الوالد غير الأب، والرسول
غير النبي، والصلاة غير الصلوة، والعباد ليسوا العبيد، والقول غير النطق* والأمثلة
كثيرة، حيث يتم استخدام كل كلمة في مكانها المناسب لتدل على معنى خاص.
ملاحظة: لا يشترط ان يكون المعنى متقاطعاً أو
مختلفاً بين الكلمتين، بل عادةً ما يحمل دلالة مشتركةً فعلى سبيل المثال الصلاة هي
دوام الصلة بين العبد والله من حيث الذكر واستذكار الوصايا ..الخ، في حين جاءت
الصلوة للدلالة على شعيرة الصلاة الحركية، وهنا يتضح ان الصلاة ذات دلالة عامة،
بينما الصلوة لها دلالة خاصة.
- "ثبات
النص وحركة المحتوى"، بمعنى أن النص
القرآني (الثابت في نصّه) قادر على احتواء تراكم المعرفة البشرية وتطور
العلوم. ولهذا اهمية كبيرة في عدم تحديد النص القرآني بفهم عصر التنزيل وإقفال
باب الاجتهاد فيه.
3.
*عدم
وجود إطناب وحشو زائد*، على عكس الأدب والشعر الجاهلي، فلكل كلمة
فائدة وإضافة للمعنى بحيث لا يكتمل فهمنا او تفسيرنا للآية دون أخذنا بالاعتبار
لكل كلمة وليس للمعنى العام فقط، وهذا يعني بالضرورة أننا إذا حذفنا كلمة ولم
يتغير فهمنا او تفسيرنا للآية فذلك يعني قصوراً في فهم تلك الآية.
4.
*انسجام
كلام الله وعدم وجود اضطراب في المعنى*، فحيثما وجد اشتباه في
تعارض الآيات، يكون ذلك دليلاً على مشكلة في الفهم، وهذه المشكلة هي التي أدّت
بالقول إلى وجود نسخ في آيات القرآن.
5. *صلاحية الكتاب لكل زمان ومكان وأنه رسالة
عالمية أبدية*، لهذا علينا حين نفسر القرآن ان لا نضع إطاراً زمكانياً أو
موضوعياً يقيّد من فهمنا، وبناء
عليه فإن محاولة قصر فهمنا للآيات بناء على مناسبات النزول سيؤدي الى فهم ناقص
وعاجز عن استيعاب التغيرات المعرفية.
ملاحظة: استخدمت كتب التراث مصطلح أسباب النزول، وهو
مصطلح خاطئ والصحيح مناسبة النزول، حيث ترافق نزول بعض الآيات مناسبة معينة ولكنها
ليست سبباً للنزول.
6.
*فهم الآيات من خلال
سياق النص الكلي*، حيث أن سلخ آية أو جزء منها عن النص
ومحاولة تفسيرها أو استنباط المعنى المجزوء، سيؤدي الى فهم خاطئ، حيث أن ترتيب سور
وآيات القرآن الكريم جاء من عند الله تعالى، وهو وقف لا يجوز تجاهله او محاولة
تفسير الآيات جزئياً.
وهذا
يفيد أيضاً بأن أي محاولة لفهم الآيات بناء على ترتيب النزول التاريخي، هي محاولة
محكوم عليها بالفهم الخاطئ.
7.
*كتاب
الله يفسّر بعضه بعضاً*، إن فهم القرآن ينبع من
التبحّر في داخله والقراءة المتأنيّة بنيّة التدبّر وعرض بعض الآيات على البعض الآخر
لمقاربة الفهم وإزالة الشك، وإن فهم قواعد الخطاب القرآني ككل، والأسلوب اللغوي،
هو شرط لفهم آيات الكتاب.
وعطفاً
على هذا القول، فإننا نقول إن محاولة فهم مجموعة من الآيات أو موضوع معين في
الكتاب إعتماداً على البحث بالكلمات الدلالية في القرآن، دون أن يكون الشخص ملماً
بفهم القواعد الكليّة للقرآن الكريم، ودون أن يكون باحثاً ومطلعاً على كامل القرآن
هي محاولة ستؤول إلى فهم مشوّش وناقص بالتأكيد.
ودائماً
ما أعلق على هذه المحاولات بالقول، إذا كان الكاتب في مجالات الأدب والفن أو
العلوم أو التاريخ، يفقد مصداقيته حينما يكتب عن كتاب لم يقرأه شخصياً بالكامل
ويستوعب كل فصوله وأفكاره، او عندما يقوم بتحليل عمل فني لم يشاهده بنفسه، فما
بالكم بكتاب الله عز وجل!
ونبدأ
إن شاء الله تعالى بدءاً من يوم الغد، بأولى الوقفات التدبريّة مع التنزيل الحكيم.
أيمن
يوسف أبولبن
25-4-2020
*آيات استوقفتني (1) السبع المثاني*
*((وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ
(87))) * سورة الحجر
*((اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُّتَشَابِهًا
مَّثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ
تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاء وَمَن يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23))) *
سورة الزمر
اختلف المفسرون على تفسير معنى (مثاني)
وركّزوا على معنى التثنية أو التكرار. وحول المقصود بالسبع المثاني قال بعضهم إنها
سورة الفاتحة، وقال آخرون إنها السور الطوال من القرآن.
ويقول د. محمد شحرور إن السبع المثاني هي
فواتح السور مثل (الم،طه،كهيعص.. وغيرها) ومجموعها سبعة والتي تعتبر مجموعة من
الحروف أو مخارج الحروف، لها رمزية خاصة لم تكتشف لهذه اللحظة.
قد يكون ذلك صحيحاً، ولكن مع الأخذ بعين
الاعتبار ان الله قد وصف كتابه كله بوصف (كتابا متشابها مثانيَ) إذاً فهناك شيء
مشترك في آيات الكتاب الكريم، تكون السبع المثاني مفتاحاً له.
وبناءً على هذا الفهم، فإني أرجح أن تكون
الفاتحة بالفعل هي المقصودة بالسبع المثاني، وفيها مفاتيح مواضيع الكتاب، أو
القواعد الكليّة لمواضيع الكتاب، ولهذا كانت هي فاتحة الكتاب أو فهرس المواضيع
العامة إذا جاز التعبير.
ومع البحث عن مفتاح كلمة المثاني والتدبّر في
قراءة سورة الفاتحة، تبيّن لي أن الفاتحة تشتمل على مقاربات أو مقارنات موضوعية في
قالب واحد يحتوي نقيضين، أو موضوعين متكاملين، بحيث يصبح هناك بعدٌ آخر للمعنى،
عندما يتم وضعهما في مقاربة او مقارنة، وهو ما يمكن وصفه بالثنائيات أو (المثاني).
فلو بدأنا بالآية الثانية (الحمد لله رب
العالمين)، لرأينا اقتران معنى الألوهية والربوبية في هذه الآية، وهذا هو المقصود
بالمثاني (المواضيع الثنائية) أي اقتران المواضيع بعضها ببعض، منها النقيضان مثل
الجنة والنار الحق والباطل ...الخ، ومنها المواضيع المتقاربة المزدوجة مثل
الألوهية والربوبية، الايمان والإسلام. الخ.
ولا عجب أن تكون هذه هي الآية الافتتاحية
لكتاب الله بعد البسملة، لأنها تضع القاعدة الايمانية الأولى، فحينما نقول الحمد
لله رب العالمين، نقرّ بألوهية الله، ونعترف وندين أيضاً بالربوبية له.
ونلاحظ أن الكتاب (القرآن) اشتمل على تفاصيل
كثيرة تخص معنى الألوهية ومعنى الربوبية، فالله سبحانه وتعالى هو إله المؤمنين
فقط، أي الذين يؤمنون به، لأن الألوهيّة هي الاستسلام والخضوع والانقياد والعبادة،
وهذه الأشياء تأتي بمحض اختيار الشخص، فالمؤمن ينقاد لله تعالى ويخضع لأوامره
ويعبده، بينما غير المؤمن يخضع لإله غير الله وينقاد له، يقول الله تعالى
((أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ))
فهناك من يتخذ أهواءه ورغباته ونزواته إلها
يعبد من دون الله.
أما الربوبيّة، فهي لله وحده، لا يشاركه فيها
أحد، ولا ينازعه فيها أحد، فهي تأتي من باب اللزوم، فلا خالق ولا مالك سواه، ولا
مدبّر للكون ومبدعا له سواه.
((قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبًّا
وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ))
فالله هو (رب العالمين) و (رب الناس) و (رب
كل شيء)
ومن هنا، كان باب الشرك والكفر في مقام
الألوهية فقط:
((وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ
بِهِ شَيْئًا))
أي أن الشرك يكون في مقام الألوهية وعبادة
غير الله
لهذا يقول الله تعالى مخاطباً سيدنا عيسى:
((وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ
مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ
اللّهِ))
فالذين اختلفوا وضلّوا في العقيدة النصرانية،
لم يقولوا إن عيسى هو الرب، بل قالوا إنه ابن الرب وأشركوه في مقام الألوهية.
لاحظوا معي أيضاً مدى دقة الوصف القرآني، حين
وصف الله تعالى لحظة أن حاول فرعون الاعتراف بصحة إيمان قوم موسى:
((حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ
آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ))
وكأنه يحاول القول: لا إله بحق الا (إله
موسى)، نظراً لأن الآلهة التي كانت تعبد هي آلهة متعددة وكثيرة، ولكنه أيقن
متأخراً أن إله موسى (الله) هو الله الحق سبحانه وتعالى.
لهذا جاء مقام الربوبية في كتاب الله،
محصوراً في الله وحده، فهو ليس مرتبطاً بإيمان شخص أو كفر شخص آخر، ولا يرتبط كذلك
بالعبودية.
(يا أيها الناس اعبدوا ربكم)
ولكن سواءّ أعبدوه أم لم يعبدوه فهو ربهم (رب
الناس) المؤمنين منهم والكافرين. ولا تغيير لقوانينه الحاكمة.
في الختام نقول، بدأت فاتحة الكتاب بإلقاء
الضوء على ثنائية الألوهية والربوبية، ودعت الناس جميعا للتوحيد والايمان بربهم
وضرورة الانصياع له وحده، ونحن بمجرد قراءتنا لهذه السورة ولهذه الآية نخضع لله
تعالى رب العالمين، ونقرّ له بالألوهية والربوبية، والحمد لله رب العالمين.
سنستكمل الحديث عن القواعد الكلية (المثاني
أو الثنائيات) الواردة في فاتحة الكتاب، والتي تعتبر مفاتيح لفهم كتاب الله في
المواضيع القادمة.
هذا والله أعلم.
أيمن يوسف أبولبن
8-5-2019
#آيات_استوقفتني
#السبع_المثاني
*آيات استوقفتني (2) الرحمن الرحيم*
نستمر مع فاتحة الكتاب ومع قوله تعالى بعد
الحمد لله رب العالمين، (الرحمن الرحيم).
جميع التفاسير اتفقت على أن الرحمن والرحيم
تدلان على الرحمة. ولكن دعونا ننظر في القرآن الكريم.
في البداية حدّد الله سبحانه وتعالى اسمين
فقط من أسمائه لندعوه بهما دون باقي أسمائه الحسنى وهما *الله* و *الرحمن*
((قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيًّا مَّا
تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ
تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً))
(110) الاسراء
ومن لطائف كلمة الله أن جميع تشكيلاتها من
الحروف تدل على الله تعالى وحده، فلو حذفنا الحرف الأول تصبح الكلمة (لله) (لله ما
في السماوات وما في الأرض) ولو حذفنا حرف اللام لأصبحت (لهُ)
(وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ
وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ)
ولو حذفنا اللام الثانية لبقي حرف الهاء (هو)
(هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً)
فكلمة الله بجميع تشكيلاتها خالصة لله تعالى،
وكذلك الرحمن، فلا تستخدم هاتان الكلمتان في غير مقام الله سبحانه وتعالى، وهو يُعرف
بهما. بينما يمكن لنا القول ان فلاناً من الناس رحيم أو صادق أو عليم أو شهيد أو
حافظ ....الخ.
والآن دعونا نتدبر في الآيات التي ورد فيها
اسم الرحمن
(يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ
عَذَابٌ مِّنَ الرَّحْمَن فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا) (45) مريم
(إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ
وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا) (93) مريم
(يَوْمَئِذٍ لَّا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ
إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا) طه (109)
(الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ
وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ
الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا) الفرقان
(59)
(قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن
مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) يس (52)
هذه الآيات وغيرها تدل على أن أوصاف الرحمن
هي منتهى القوة والمُلك والحسم والتدبير وهذه هي الصفات اللازمة لتوازن الكون
وانضباطه وكأني بالرحمن هو اسم الله الدال على مجموعة القوانين الضابطة للكون
والخلق التي تنمّ عن الضبط والحزم والحسم، أي صفات الحُكم والقيّوميّة. وفي علم
الإدارة يُشار الى هذه الوظيفة ب (The Governance).
فإذا أضفنا له صفة الرحيم، أصبح الكون محكوما
بالقوة والضبط والحسم والرحمة والعطف، لأنه بدون رحمة للبشر والمخلوقات سيكون
الانضباط فوق طاقتهم، فدائما ما يقترن الحكم الإلهي بالرحمة.
وهذه هي الثنائية الثانية الواردة في فاتحة
الكتاب والتي تشكّل الموضوع الثاني من مواضيع الكتاب الكريم والتي توزّعت عبر سور
كثيرة وآيات متعددة وجميعها تدور حول قوانين ونواميس الحكم الضابط الخالي من
العبث، والميزان الذي لا يختل، وهذا يجتمع في قالب واحد (ثنائية) مع العدل والرحمة
الواسعة لله تعالى والتي تشمل العفو والتوبة والمغفرة. لاحظوا معي صفات الرحيم:
(فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ
فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ
وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ
عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)
(قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)
وحال المؤمن فينا هو دائم الخوف من الرحمن
ودائم الرجاء من الرحيم، وبين الرحمن والرحيم يتعلّق مصيرنا، لهذا كان لزاماً
علينا في كل صلاة التوجه لله تعالى بالمناجاة والقول (بسم الله الرحمن الرحيم *
الحمد لله رب العالمين * الرحمن الرحيم)
جعلنا وإياكم ممن تاب عليه الرحيم وغفر له،
ورضي الرحمن عنه.
أيمن يوسف أبولبن
10-5-2019
*آيات استوقفتني (3) مالك يوم الدين*
بعد ثنائية الرحمن الرحيم، تنتقل الآيات بنا
للهدف النهائي لوجود هذا الكون
((وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ
وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ
أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ
الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ))
سورة هود (7)
ويشدّد الله سبحانه وتعالى على أنه*مالك يوم
الدين* وأن يوم القيامة والحساب كله مرهون بأمره:
((وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ
السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ
الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ
وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ))
الأنعام (73)
((يوم هم بارزون لا يخفى على الله
منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار)) 16
غافر
((وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ
قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ
مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ))
الزمر (67)
((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ
الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ
لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)))
الانفطار
إذاً هناك تشديد، على أن الله هو المالك
والمتحكم والمسيطر على كل شأن يخص يوم الدين، فهو مالك يوم الحساب والآخرة بكل
دقائق أموره، بدءاً من نهاية الكون والبعث والنشور وامور الحساب والثواب والعقاب.
((يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ
لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا
هَمْسًا)) طه (108)
والحديث عن يوم الجزاء والحساب من أعظم
المواضيع التي ذكرها القرآن، بل إن الايمان باليوم الآخر هو شرط من شروط الإسلام،
بعد الايمان بالله تعالى، فبدون الايمان بالآخرة لا يصح إيمان الفرد
((إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ
وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ
وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ
خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ)) (62)
البقرة
وهذه
هي الثنائية الأبرز (الايمان بالله واليوم الآخر) في قولنا *مالك يوم الدين* فنحن
نقرّ بإيماننا المطلق بوجود البعث والحساب ونقرّ لله سبحانه وتعالى بالحكم المطلق
في تقرير مصائرنا وحسابنا على أعمالنا.
((وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ
حَمَلَ ظُلْمًا)) طه (111)
والحديث عن يوم الدين، يستدعي الحديث عن
ثنائيات عديدة أخرى، أولاها ثنائية الموت والحياة:
((الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ
وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ
الْغَفُورُ)) الملك (2)
وفيه ثنائية البعث والنشور، وهي جوهر الايمان
باليوم الآخر:
((قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا
تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ)) (82)
المؤمنون
((قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي
السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ
يُبْعَثُونَ)) 65 النمل
((وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ
الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا
بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ)) (9) فاطر
والثنائية الأخرى، هي الثواب والعقاب والتي
تقترن أيضاً بيوم الحساب:
((الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ
بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ))
(17) غافر
((وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن
يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ)) (82)
الشعراء
والثنائية التي تليها بالضرورة، هي ثنائية الجنّة
والنار، وهو الموضوع الذي يمتلئ به القرآن الكريم باستخدام الترغيب والوعيد، وهو موضوع
رئيس في آيات القرآن.
((الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ
يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ
النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ
لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ (57))) سورة الحج
إذاً، نجمل القول: بعد بسم الله الرحمن
الرحيم، وبعد الاعتراف والاقرار بالألوهية والربوبية لله تعالى وحده، وبعد توضيح
صفة الله سبحانه وتعالى في الحُكْم (الرحمن) وارتباطه بالرحمة، تأتي الآية التي
تشهد لله بخلق هذا الكون كله لآجل هدف نهائي واحد هو الثواب والعقاب، ومن أجل هذا
الهدف خلق الله الموت والحياة، وقضى بالبعث والنشور وجعل الحساب يوم القيامة، وأقر
بميزان العدل المطلق في الحساب حيث يقول:
((وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ))
أي أن المقياس والمعيار يوم الحساب هو المقياس الحق الذي لا يخل ولا يعتل ولا يغبن
أحداً:
((مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ
الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9)))
الأعراف
رأينا كيف جاء الانتقال بين المواضيع مرتباً من
توحيد الألوهية والربوبية الى توضيح سنة الكون وحكم الله فيه بالرحمة، إلى الحديث
عن الهدف النهائي والمطلق لهذا الخلق، وما يتضمنه من سنة الحياة والموت، وحقيقة
البعث والنشور، وضرورة الايمان باليوم الآخر ويوم الحساب، والثواب والعقاب والجنة
والنار.
ثم
ينتقل الحديث إلى طريق الهداية ومنظومة العبادة والأخلاق والقيم الإنسانية، وهذا
ما سنتحدث عنه في الموضوع القادم إن شاء الله.
جعلنا وإياكم ممّن حسن عمله وثقل ميزانه.
أيمن يوسف أبولبن
12-5-2019
*آيات استوقفتني (4) إياك نعبد وإياك نستعين*اهدنا الصراط
المستقيم*
نستمر مع فاتحة الكتاب والسبع المثاني،
ونتحدث اليوم عن ثنائية (العبادة
والاستعانة بالله) وصراط الله المستقيم، وهذه
المواضيع من أهم المواضيع التي يركز عليها القرآن العظيم في مجمل آياته، والتي
تعتبر ركائز الدين القويم (الطاعة والاستعانة ومجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية).
*مفهوم العبادة*:
هناك تركيز كبير في الفقه الإسلامي على حصر مفهوم
العبادات في شعائر الصلاة والحج، وفروض الصوم والزكاة، ولكن مفهوم العبادات يتجاوز
ذلك بكثير.
((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ
اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ
حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ
عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)) النحل (36)
فكل الرسالات جاءت بشيء مشترك هو عبادة الله
وتجنب الطاغوت وسبل الشيطان، والعبادة هي الطاعة والخضوع والانقياد لله سبحانه
وتعالى في جميع شؤون الحياة، بالالتزام بأوامره واتباع تعاليمه وتجنب نواهيه
ومخالفة أمره.
((ويَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا
وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) الحج (77)
((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98)
وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99))) الحجر
هنا يتضح ان العبادة أشمل من الشعائر وحدها،
فلاحظوا كيف جاءت العبادة مستقلّة عن الركوع والسجود (أداء الفرائض)
((قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَّهُ
الدِّينَ))
وهذه الآية أيضاً، توضح المعنى المطلوب من العبادة
وهي بالإيمان بالله (التوحيد) واتباع أوامره ونواهيه
والإخلاص في الدين وليس فقط في الشعائر أو ما يعرف اصطلاحا بالعبادات.
وهذا يعني بالضرورة أن العبادة ليست محصورة
في مكة والمدينة والمساجد ودور العبادة، بل هي عبادة مفتوحة في كافة جوانب الدين،
وتشمل كافة أمور الحياة. ولعل هذا القصور بالفهم، هو ما جعل ميزان الدين مختلاً في
مجتمعاتنا، وجعل الاهتمام بالشعائر والفرائض مُقدماّ على جانب المعاملات وحقوق المجتمع
واحترام حقوق الآخرين.
والمؤسف أيضاً أن بعض رجال الدين والعلماء
يعززون هذا القصور في الفهم عند العامة، في تركيزهم الكبير على الفرائض في مقابل
التجاهل التام للمعاملات في المجتمع ومجموعة القيم الإنسانية (الصراط المستقيم)
ومن الملاحظ ان هناك غياب شبه كامل لدور
الخطباء ودروس الدين في الحث على حسن التعامل والتحلّي بالأخلاق الحسنة ومراعاة
الله في كل كبيرة وصغيرة، في مقابل التركيز على موضوع الفرائض والطهارة والتخويف
من يوم الحساب.
وأذكر أن أحد الخطباء والعلماء المعروفين قال
في إحدى خطبه إن الله لن يحاسبك إذا قطعت إشارة ضوئية أو عصيت بعض القوانين
المدنيّة ولكنه سيحاسبك إذا أفطرت في رمضان أو أخلّيت في الصلاة. وهذا مثال حي على
تعزيز القصور في فهم العبادة على وجهها الصحيح، كما طالبنا بها الله سبحانه وتعالى
في كتابه الكريم.
أما معنى الاستعانة والذي اقترن بالعبادة،
فهي تعني الأخذ بالأسباب والاجتهاد والصبر مع طلب العون من الله سبحانه بنيّة
التوفيق والرشاد.
((قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ)) الأعراف:
128
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) البقرة: 153
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) البقرة: 153
ما يعني أننا نستعين على أمور حياتنا بطلب
الرشد من الله سبحانه وتعالى والاهتداء بهديه واتباع منهجه وسبيله. فما أجمله من
معنى، حين نقول إياك نعبد، أنت وحدك، ومنك وحدك نطلب العون والرشد في أمور حياتنا،
بحيث ان امتثالنا بأوامرك والتزامنا بعبادتك سيكون أكبر عون لنا على العيش الكريم
والهنيء، فأرشدنا وأعنّا على الطاعة.
*ما هو الصراط المستقيم*
أما الصراط المستقيم فهو مجموعة الأخلاق
والقيم الإنسانية (إضافةً إلى المُحرّمات المذكورة نصّاً) والتي تعتبر فلسفة حياة
ومجموعة من المبادئ التي يتبناها المؤمن في طريقة حياته، والتي تجعل من حياته
وشخصيته وتعامله صراطاً مستقيماً لا يحيد عن الحق ولا ينحرف، وهذا هو معنى
الاستقامة.
((وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ
أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ
أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ
بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ))
لاحظوا الأمر بالعدل والصراط المستقيم
((وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ
إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ
وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا
قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ
وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
(152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ
تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ
لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)))
الأنعام
لاحظوا كيف جاءت الوصايا والقيم الإنسانية في
هذه الآية ثم تلاها (وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه)
إذاً هناك تكامل بين العبادات (بمفهومها
الشامل) والاستعانة وطلب الهداية من الله، ثم اتباع سبيله في الحياة (الصراط
المستقيم) كي يكتمل ايمان الفرد، ويكون أنموذجاً أو مثالاً للمؤمن الصادق، وكي
ينعكس هذا على طمأنينته وراحته النفسية.
والسؤال هنا، ما هو نقيض هذا الصراط؟
((قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ
يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ
المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا
أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16))) الأعراف
لاحظوا معي أن إبليس توعّدنا بأن يقعد لنا
صراط الله المستقيم ويحرفنا عنه، وهذا كفيل باختلال ميزان الحياة لنا كأفراد
ومجتمعات، وكفيل بهدم منظومة الدين كلها.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ
ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ)) (208) البقرة
إذاُ فالثنائية هنا، هي الصراط المستقيم وهو
سبيل الله وما يقابله من سبل الشيطان (شياطين الانس والجن) ومحاولات حرفنا عن هذا
الصراط.
أعجبني تشبيه أحد الدعاة للمنظومة الدينية
أنقله ببعض التصرف، يقول إن الدين بناء جميل، أساساته وإنشاءاته هي الايمان
والفرائض، وتشطيباته الداخلية مجموعة العبادات (الالتزام بالأوامر والنواهي)، أما
أثاثه وفرشه فهو مجموعة الأخلاق والقيم الإنسانية.
فإذا خلا إيمان المرء من القيم والأخلاق كان
فارغاً جلفاً، لا يحتوي سوى على مظاهر خارجية بلا معنى للحياة.
وإذا خلا من الايمان والفرائض، كان جميلاً
ولكن لا أساس له، وما أسرع أن ينهار.
اللهم
اجعلنا وإياكم ممّن عبد الله مخلصاً له الدين واستعان به وحده على أمور الحياة،
واتبع صراطه المستقيم.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
14-5-2019
*آيات استوقفتني (5) ما المقصود بالمغضوب عليهم والضالين،
والذين أنعم الله عليهم؟*
((صِرَاطَ الَّذِينَ أنعمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ
وَلاَ الضَّالِّينَ)) الفاتحة 7
هذه هي آخر آيات الفاتحة، وآخر الثنائيات
(الذين أنعمت عليهمó غير المغضوب عليهم ولا الضالين)
*من الذين أنعم الله
عليهم؟*
((وَمَن يُطِعِ اللّهَ
وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أنعم اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ
النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ
رَفِيقًا)) النساء (69)
إذاً كل من يطيع
الله والرسول بحق كان حقاً على الله أن يجعله مع فئة الذين أنعم عليهم، والتي تضم
قائمة الأنبياء والصديقين والشهداء والصالحين.
(وحسن أولئك رفيقا)،
أي رفقاء في الجنة بفضل الله. لذلك كان من الدعاء المأثور أن يدعو المؤمن (اللهم
أدخلنا الجنة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين)
ولاحظوا أن الله
سبحانه وتعالى عطف الصراط المستقيم على الذين أنعم عليهم (صراط الذين أنعمت
عليهم)، أي أن هذا الصراط المستقيم هو نهج الذين أنعم الله عليهم، وكل من اتبعه
والتزم به فهو من الذين أنعم الله عليهم، وهو رفيق الأنبياء والشهداء والصديقين
وكافة الصالحين في الجنة بإذن الله.
*غير المغضوب عليهم
ولا الضالين*
من المؤسف أن تذكر
كتب التفاسير أن المقصود هنا هم اليهود والنصارى، فحاشى لله أن يجعل الضلال والبعد
عن رضاه محصوراً في أمة واحدة أو ملة واحدة دون تفريق بين مؤمنهم وكافرهم، أو أن
يبارك في أمة أو ملة بأكملها دون التفريق بين المؤمن منها والكافر.
دعونا نحتكم الى
كتاب الله:
((وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ
خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا
عَظِيمًا)) (93) النساء
((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا
فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)) (106) النحل
((كُلُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ
فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى)) (81) طه
((وَيُعَذِّبَ
الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ
الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ
اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)) (6) الفتح
إذا كل من يخل بشروط
الايمان الصحيح ويكفر بالله أو يدخل في دائرة النفاق والشرك فهو من المغضوب عليهم،
سواء كان من أتباع سيدنا محمد أو غيره من الأنبياء.
*الضالون*
((لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ
أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ
فَاذْكُرُواْ اللّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ
وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ))
قبل الإسلام كانت
مناسك الحج على سنّة إبراهيم، ولكن العرب حرّفوها وادخلوا طقوسا وثنية فوصفهم الله
بالضالين
((قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ))
يقول موسى عن نفسه
انه كان من الضالين قبل النبوّة
((فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ
بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ))
ويقول سيدنا إبراهيم
ان لم يهدني ربه الى سبيله الصحيح لأكونن من الضالين
((وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)
فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ (93)))
ويقول الله سبحانه
وتعالى ان كل مكذّب بالدين واليوم الآخر هو من الضالين
إذاً، كل من ضلّ عن
الايمان بالله واليوم الاخر، وضلّ عن الصراط المستقيم الذي حدّده الله سبحانه
وتعالى هو من الضالين، وهذا الفهم ليس محصورا في قوم معين او ملة معينة.
ونوجز القول بأن كل
من أخلّ بشروط العبادة والصراط المستقيم، فهو من المغضوب عليهم
((مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ)) وبدليل قوله (*غير* المغضوب عليهم) أي باستثناء هذه
الفئة التي عرفت الصراط المستقيم ولم توفِ بشروطه
وكل من رفض نهج الله
واتبع سبل الشيطان وصد عن الصراط المستقيم فهو من الضآلين.
لهذا فنحن ندعو
ونقول في كل قراءة لسورة الفاتحة، رب اجعلنا من الذين يتبعون صراطك المستقيم فتنعم
عليه، ولا تجعلنا نزلّ فنكون من المغضوب عليهم، واهدنا سبيلك كي لا نضلّ عنه فنكون
من الضآلين.
ومع نهاية تناولنا
لسورة الفاتحة (السبع المثاني) أوجز معكم ما اجتهدته من الثنائيات الواردة في هذه
السورة (المثاني):
1. الألوهية والربوبية
2. الرحمن الرحيم
3. الايمان بالله واليوم الآخر (وتتضمن
مفاهيم الدنيا والآخرة، الحياة والموت، البعث والنشور، الثواب والعقاب، الجنة
والنار)
4. العبادة والاستعانة
5. الصراط المستقيم (صراط الذين أنعمت عليهم)،
ونقيضه سبل الشيطان
6. المغضوب عليهم والضآلين
وهذه هي مجمل المواضيع التي وردت تفاصيلها في باقي سور
القرآن.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
16-5-2019
*آيات استوقفتني (6) فإن تولّوا فقل حسبي الله*
((لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن
تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129))) التوبة
كان والدي رحمة الله عليه، يكثر من قراءة
خواتم سورة التوبة في الصلوات الجهرية التي يؤمّنا فيها، وكان لها وقع خاص بقراءته
تلك، وحفظت هذه الآيات عنه، ثم لاحقاً أصبحت أقرأها في الصلوات الجهرية أيضاً.
ولكني كنت دائم التفكير في الضمير المستخدم
في هذه الآيات، فبداية الآية 128 تبدأ بضمير المُخاطب (لقد جاءكم) ثم في الآية
التي تليها مباشرة يصبح الخطاب بضمير الغائب (فإن تولّوا) مما يولّد لدى القارئ اضطراب
في الفهم للوهلة الأولى.
وبالاعتماد على منهجية القراءة المعاصرة
للقرآن، نرى أن الآيات تقسم الى ثلاثة أجزاء:
(لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم)
وهو خطاب موجه إلى قوم سيدنا محمد (العرب)
وبالأخص أهل قريش: (لقد جاءكم رسول من قوميتكم يعز عليه ما يشق عليكم وشديد الحرص
عليكم وعلى هدايتكم)
(بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ)
وعطفاً على الجملة الأولى، يقول الله تعالى
إنه (أي محمد) كثير العطف والرحمة على أتباعه المؤمنين.
إذاً، يتضح هنا أن هناك خطاب عام لقريش
وللعرب، وهناك إخبار عن رأفة سيدنا محمد بالمؤمنين أتباعه.
ثم تبدأ الآية التي تليها مباشرة باستخدام
ضمير الغائب (فإن تولّوا) والذي يعود على ما سبقه من (المؤمنين أتباع محمد وقوم
قريش) والخطاب هنا تحوّل مباشرة إلى سيدنا محمد بالقول (إن حصل وأن تخلّى عنك قومك
وأتباعك وتركوك فرداً، فحسبك الله وحده، وتوكل عليه لا إله الا هو، رب العرش
العظيم)
لاحظوا معي، مدى دقة الوصف واستخدام المفردات
مع تنوّع وتنقّل الخطاب، حيث بدأ من العام (العرب) الى وصف الخاص (أتباع محمد) ثم
الى المفرد (شخص محمد)
ويعدّ تنقّل الخطاب (من خطاب قريش إلى خطاب
سيدنا محمد) وتنوّع الضمير (المُخاطب والغائب) من المميزات التي تفرّد فيها القرآن،
وخرج فيها عن المألوف من الأدب العربي، كما لا تجري عليه قواعد اللغة التي وضعت بعده
من قبل علماء اللغة.
وهذا ما يؤدي في كثير من الأحيان الى صعوبة
فهمنا وتفسيرنا لبعض الآيات، لأننا نحتكم الى المألوف، ونلتجأ إلى قواعد اللغة
لتيسير الفهم.
ولهذا أقول إن تدبّر القرآن بمجمله واستيعابه
وإدراك قواعده ومنهجيته الخاصة التي تنبع من ذاته هو شرط أساسي لفهمه وتدبره على
الشكل الصحيح، وبغير ذلك سنبقى في إشكاليات غير قادرين على تجاوزها.
ملاحظة أخيرة عن دقة استخدام (فإن) والتي
تفيد الاحتمالية، لاحظ معي قول الله تعالى (إن كان قميصه قدّ من قبل) أي أن هناك
احتمال أن يكون قدّ من دبر، على خلاف كلمة إذا التي تفيد الظرفية:
(فإذا أفضتم من عرفات) وهنا تفيد "عندما
أو حين" تفيضوا من عرفات افعلوا كذا.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
18-5-2019
*آيات استوقفتني (7) وقفات مع سورة يوسف*
سورة يوسف من أحب السور والقصص القرآنية الى
قلبي، وقراءتها ممتعة إلى درجة لا توصف، ومن أجمل الأوقات الروحانية في الشهر
الفضيل هي صلاة قيام خلف إمام ذو صوت شجي يرتل سورة يوسف.
ولكن سورة يوسف فيها من دقائق الأمور التي
نمر عليها مرور الكرام، فنعجز عن إدراك معانيها الصحيحة (أو الأقرب الى الفهم
الصحيح). وسأحاول هنا استعراض بعض الومضات من سورة يوسف معتمداً على منهجية
القراءة المعاصرة، راجياً من الله التوفيق.
كنت قد تحدثت في العام الماضي عن مكيدة إخوة
يوسف، واليوم سنتحدث عن مكيدة إمرأة العزيز.
((وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا
عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ
اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ))
(23)
كلمة ربّي هنا، تعود الى سيد المنزل
(العزيز)، من مقام رب العمل ورب النعمة وليس من مقام الربوبية كما يظن البعض، ولا
تنسوا أن يوسف هنا كان عبداً مملوكاً اشتراه العزيز بالمال.
ولتقريب المفهوم أكثر، عندما اشترى العزيزُ
يوسفَ وأحضره الى المنزل قال لزوجته:
((وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ
لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ))
لاحظوا معي أكرمي مثواه -------< أحسن مثواي
إذاً يوسف بدأ
بالرفض مستعيذاً بالله عن فعل المنكر (رافضاً الفاحشة من باب الإيمان أولاً) وفي
ذات الوقت حافظاً لجميل سيده، ومذكّراً في الوقت ذاته تلك المرأة بزوجها وحسن خلقه
(رافضاً الفاحشة من باب الأخلاق الحسنة ثانياً).
((وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ
بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ
وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ)) (24)
لاحظوا استخدام كلمة (ولقد) التي تفيد استمرار
الحال من الماضي أي أن زوجة العزيز تولّدت لديها الرغبة من قبل، ثم تحوّلت هذه
الرغبة إلى أفكار ثم إلى تصرفات وأفعال (كما ذكر الله تعالى في الآية السابقة) في
حين قال عن سيدنا يوسف (وهمّ بها) أي عطفاً على المُغريات والحدث الذي عاشه تولّدت
لديه رغبة آنية سريعة ولكنها لم تتحول إلى أفعال أو تصرفات ظاهرة.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (لولا) التي تفيد
النفي والتوقف عمّا يتبع تلك الرغبة.
(لولا أن رأى برهان ربّه)
مفتاح الفهم هنا هو كلمه ربّه، والتي تعود
أيضاً على سيده العزيز وليس الله سبحانه وتعالى، مع ملاحظة أن كلمة رب بمعنى رب
العمل والنعمة قد ذُكرت أيضاً مع صاحبي السجن حين قال:
(أما أحدكما فيسقي ربّه خمراً)
إذاً، رأى يوسف ما يُعتبر دليلاً على عودة
سيده الى المنزل، وقد يكون هناك مجال للرؤية الخارجية مكّنه من رؤية موكب العزيز
أو بعض من جنده وخدمه فعلم أنه عاد الى المنزل.
أو أنه رأى رؤيا بوحي من الله تعالى استشعر
من خلالها عودة العزيز المفاجئة إلى المنزل.
(كذلك لنصرف عنه السوء والفحشاء)
وتزامنت هذه الرؤيا مع وحي من الله سبحانه
وتعالى بخلاصه من هذه الورطة وعدم مساسه بسوء ونجاته من فعل الفحشاء، وأن سيده
العزيز سينصفه.
وللتذكير فإن الله سبحانه وتعالى قد أوحى
ليوسف من قبل في مكيدة إخوته لطمأنته:
((فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن
يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم
بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُون))َ (15)
لذلك كان التصرف اللاحق ليوسف هو البدء بفتح
الأبواب التي غلّقتها زوجة العزيز ومحاولة الوصول الى باب المنزل الخارجي للقاء
العزيز، في حين كانت هي تحاول شدّه وجذبه ومنعه من الخروج.
تخيّلوا معي هذا المشهد وتابعوا الوصف
القرآني:
((وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ
مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ
أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) (25)
لاحظوا معي كلمة الباب بأل التعريف والتي
تفيد الباب الرئيسي المعلوم، ولو كان باباً آخر لكان لزاماً عطفه على اسم آخر
للتعريف كأن نقول باب الغرفة أو باب الصالة وهكذا.
ولاحظوا أيضاً استخدام كلمة (سيدها)، لماذا
اختار الله سبحانه وتعالى وصف العزيز نسبة الى امرأته وليس الى يوسف؟ لأن علاقة
العزيز بيوسف هي علاقة ظرفية وطارئة، بينما هو سيد هذا البيت من قبل وجود يوسف،
فكان الأجدر وصفه بهذه الصفة ونسبها (صفة السيد) الى زوجته.
إذاً وصلا الى باب المنزل الرئيسي والتقيا
وجهاً بوجه مع العزيز وحصلت المفاجأة، ولكن زوجة العزيز كانت شديدة الذكاء والمكر
وكانت سريعة ردة الفعل أيضا فسارعت الى اتهام يوسف وطلب العقوبة له، فما كان من
يوسف إلا أن دافع عن نفسه، وهنا جاء دور الشاهد.
((قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي
وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ
فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ(26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27)))
تخيلوا معي المشهد أمام منزل العزيز، والشاهد
هو بالضرورة أحد مرافقي العزيز العائدين معه الى المنزل وهو من أهل زوجته، وقد سمع
الجدال القائم، ولكنه ما زال خارج المنزل ولم يتمكن من رؤية يوسف ولا زوجة العزيز،
لهذا قام بتقديم شهادة خبير وليس شهيد واقعة، فقال: إن كان ثوب يوسف قد تمزّق من
الأمام فهو الذي اعتدى وإن كان قد تمزّق من الخلف فقد كان يحاول الهرب منها.
((فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ
قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ
عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)))
وهنا بدأ العزيز بالتدقيق في أمر يوسف بعد أن
تحرّر من المفاجأة، وبدأ بالتحقق من شهادة الشاهد، فلاحظ أن ثوب يوسف قد تمزّق من
الخلف فأدرك حينها كيد زوجته وصدق يوسف.
ملاحظة: لاحظوا معي الانتقال في الخطاب
واختلاف الضمير بين الآيتين المتتاليتين (وشهد شاهد، ثم تلاها: فلمّا رأى) الفعل
هنا يعود إلى شخصين مختلفين ولكن القرآن لم يستخدم في الآية الثانية اسم الفاعل
مثل الآية الأولى، كما هو متوقع في قواعد اللغة العربية (فلما رأى العزيز) وهذا ما
تحدثت عنه في الموضوع السابق عن تنوع الضمير والانتقال المفاجئ للخطاب، وهو سر من
أسرار فهم القرآن.
هذا ما اجتهدت به فإن كان صواباً فهو من توفيق الله، وإن
كان خطأً فهو من تقصيري.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
20-5-2019
*آيات استوقفتني (8) هل يعقوب هو إسرائيل؟ ومن هم بنو
إسرائيل؟ *
في الأحاديث الشريفة ورد أن سيدنا محمد أشار
إلى أن اسرائيل هو سيدنا بعقوب، وهذا يتوافق أيضاً مع ما هو ثابت عند اهل الكتاب.
فهل هذا يتوافق مع القرآن؟
لا نجد في القرآن تأكيداً مباشراً على ذلك
ولكن هناك إشارات واضحة ودلالات، دعونا نستعرضها سويةً
أولاً، دعونا نتفق أن سيدنا يعقوب هو والد
يوسف وإخوته:
(وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ
أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي
نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ
أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ(68)) سورة يوسف
وأن يوسف ورث النبوّة عن أبيه يعقوب الذي
ورثها بدوره عن إسحق ومن قبل عن
إبراهيم
(وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ
وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ
مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ
يَشْكُرُونَ) (38) سورة يوسف
وأن يعقوب وأبناءه انتقلوا من منطقة سكنهم (البادية)
إلى مصر وبقيت ذريتهم هناك إلى حين بعثة سيدنا موسى.
((فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى
إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ
السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ
بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100))) سورة يوسف
إذاُ، بعد بعثة يوسف لم يرد هناك أي ذكر لأي
نبي، وبقي نسل يوسف وإخوته على نفس دينهم إلى بعثة سيدنا موسى، والدليل نجده في
قصة سيدنا موسى والربط بينه وبين سيدنا يوسف.
((وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا
هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ
اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ)) غافر (34)
ونجد أيضاً في القرآن أن إسرائيل هو نبي الله
وهو من ذرية سيدنا إبراهيم:
((أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ مِن ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ
نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا
وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَن خَرُّوا سُجَّدًا
وَبُكِيًّا)) مريم (58)
والدليل هو عطف ذرية إسرائيل على سيدنا
إبراهيم (أي أن ذرية إسرائيل هي بالضرورة من ذرية سيدنا إبراهيم)
ومن مجمل السور القرآنية نستنتج أن سيدنا
موسى قد بعث لقوم محددين من نسل واحد لنبي اسمه إسرائيل وهؤلاء القوم تواجدوا في
مصر وفي الحضارة الفرعونية، وهو ما يشير بالتحديد إلى سيدنا يعقوب وأبنائه، وهو
النبي الذي استمر تواجد ذريته على أرض مصر من عهد سيدنا يوسف الى عهد سيدنا موسى.
إشارات واضحة:
·
عدد
أبناء سيدنا يعقوب اثنا عشر، يوسف وأحد عشر من إخوته بدليل (أحد عشر كوكباً)
·
في قصة
سيدنا موسى، وهب الله قوم موسى اثنتا عشر عيناً لشرب الماء وقال الله تعالى (قد
علم كل أناس مشربهم) أي أن قوم موسى ينقسمون إلى اثنتا عشر عائلة أو عشيرة معلومة
الأصل (الأسباط)، وهذا يتوافق تماماً مع عدد أبناء سيدنا يعقوب.
·
الآية
الكريمة التي تقول: (كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِـلاًّ لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ
مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ
فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ) آل عمران 93
وهذا
يعني اختصار أن أبناء يعقوب (بني إسرائيل) قد استأنسوا بما كان يعقوب عليه السلام
قد حرّمه على نفسه من الطعام (بدون تشريع موجب) فحرّموه على أنفسهم ثم انتقل هذا
الأمر الى بقية الأجيال وكل ذلك قبل أن تنزل التوراة، فاختلط هذا التحريم مع
التحريم الموجب بتشريع إلهي.
من هذا كله نستنتج ان سيدنا يعقوب هو صاحب
اسم او صفة (إسرائيل) كما ذكر الله تعالى عن سيدنا يوسف لقب (الصدّيق) وعن سيدنا
عيسى (المسيح) وعن سيدنا محمد (اسمه أحمد)، وعن سيدنا يونس (ذا النون).
ونستنتج أيضاً ان المقصود ببني إسرائيل هم
ذريّة سيدنا يعقوب (من يوسف وإخوته ونسلهم) والتي عاشت في مصر وبقيت هناك إلى حين
أخرجها سيدنا موسى إلى أرض فلسطين، لكونهم شكّلوا قوميّة واحدة في بلد غير بلدهم
الأصلية، فحافظوا من خلال تلك القومية على دينهم ولغتهم وثقافتهم رغم اختلاطهم
بغيرهم من الثقافات والحضارات ولذلك عرفوا ب (أبناء يعقوب أو بني اسرائيل)، لدرجة
أنهم احتفظوا بنسب عائلاتهم وصولاً إلى أجدادهم أبناء يعقوب الأوائل.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
23-5-2019
*آيات استوقفتني (9) مفهوم الزمكان*
((تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ
إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ)) (4) سورة
المعارج
((وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن
يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا
تَعُدُّونَ)) (47) الحج
((يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى
الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ
مِّمَّا تَعُدُّونَ)) السجدة (5)
بعد اطلاعي على كتاب (تاريخ أكثر إيجازاً
للزمن) للعالم (ستيفن هوكنز) وما ذكره عن مفهوم "الزمكان" والذي يُعدّ تطويراً
مهماً على نظرية آينشتاين للنسبية بإضافة ما يسمى البعد الرابع للكون، تبادرت إلى
ذهني مباشرة هذه الآيات، بفهم جديد.
كنا نظن ونعتقد أن الزمن هو خط مستقيم تمر الثواني
والدقائق والساعات عليه بشكل منتظم مما يؤدي إلى انتقالنا من عام إلى عام وهكذا
دواليك.
ولكن الحقيقة أن الكون مُحدّب وأن خط الزمن كذلك مُحدّبٌ (ولو بشكل
تخيلي)، فهو يطول ويقصر تبعاً لموقعك في هذا الكون، فلو فرضنا أن العلماء
استطاعوا اختراع مركبة فضائية تنتقل في الفضاء بسرعة الضوء (أو قريب منها)، فإنها ستنتقل
من بُعد زمني إلى بُعد زمني آخر تختلف معه وحدات الزمن، وبناءً عليه، فإن الزمن
الذي سيمر على روّاد الفضاء داخل تلك المركبة سيكون أقل بكثير من نفس الزمن الذي
سيمر علينا نحن بحساباتنا الأرضية.
وهذه النتائج التي توصل لها العلماء، فتحت
الباب على إمكانية السفر عبر الزمن، أو السفر الى المستقبل، ولو نظرياً.
فلو تخيّلنا أن هذه المركبة أمضت في الفضاء مدة
أسبوع وهي تسافر بسرعة الضوء، ثم عادت إلى الأرض فإنها بالتأكيد لن تعود بعد
أسبوع، ولكنها ستصل بعد سنوات، وهو ما يعني أن روّاد هذه المركبة قد سافروا عبر
الزمن!
وفي هذه الآيات نجد
الحديث واضحاً عن اختلاف الوحدة الزمنية تبعاً لاختلاف المكان أو الأبعاد الكونية،
أي اختلاف البعد "الزمكاني"، لاحظوا كيف وردت كلمة "يوم" في
الآية الأولى، ولكن مقدار هذا اليوم "الأرضي" كان خمسين ألف سنة.
وفي الآية الثانية
كان الوصف دقيقاً بالقول إن اليوم الواحد في البُعد اللانهائي للعذاب، يعادل خمسين
ألف سنة مما تعدّون الآن.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
26-5-2019
*آيات استوقفتني (10) مفهوم الحكمة*
هناك خلط في مفهوم الحكمة في تراثنا
الإسلامي، فهناك من يعتقد أن ما يُعرف
اصطلاحاً بالسنة النبوية هي المقصود بالحكمة الواردة في القرآن والتي آتاها الله
سبحانه وتعالى لسيدنا محمد:
((كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً
مِّنكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ
وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) البقرة (151)
قال ابن كثير: ويعلمهم
الكتاب وهو القرآن والحكمة وهي السنة.
ومن خلال التدبر في القرآن الكريم، نجد أن
الحكمة لم تكن محصورة في سيدنا محمد، بل جاءت مع باقي الرسل والأنبياء، وورد ذلك
في القرآن تحديداً مع سيدنا إبراهيم وعيسى، وداود وسليمان، وللاختصار نذكر هذه
الآية التي جمعت بين الكتاب والحكمة لجميع الأنبياء:
((إِذْ أَخَذَ اللّهُ مِيثَاقَ
النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَة)) آل عمران 81
بل إن الله سبحانه وتعالى ذكر أن الحكمة تؤتى
لمن يشاء من عباده
((يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن
يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ
أُوْلُواْ الأَلْبَابِ)) البقرة (269)
وفي التمعّن في سورة الاسراء بالذات نلاحظ أن
الله سبحانه وتعالى قد أنزل على سيدنا محمد مجموعة من الوصايا الإلهية التي بدأت
بقوله تعالى
((وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ
إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ
أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا
وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا)) (23)
وانتهت بقوله تعالى
((وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ
لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ
رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38) )) ثم تلاها
مباشرةً قوله :
((ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ
مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي
جَهَنَّمَ مَلُومًا مَّدْحُورًا)) (39)
وهنا يتبين المعنى المراد من الحكمة، وهي
القدرة على الحكم على الأمور بعقلانية وصواب، والتصرف برشاد ورزانة، ونشر
الإيجابية والمعرفة في المجتمع، واستخدام المميزات والمواهب الشخصية (فن التواصل
والخطاب والقيادة) من أجل نشر القيم الإنسانية العليا ورسالة الإسلام. باختصار هي
مجموعة من الوصايا الأخلاقية والآداب العامة.
((ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ
وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ
هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين))
ويلاحظ أيضاً أن الوعظ والإرشاد ونشر قيم
التسامح والقيم الإنسانية هي جزء من الحكمة، فحينما وردت الحكمة في سورة لقمان، (لقمان
ليس بنبي ولكنه أوتي الحكمة وعُرف بلقمان الحكيم) تلاها مباشرة مجموعة من الوصايا من
لقمان الى ابنه:
((وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ
أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ
فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ))
وهكذا نستدل ان الله سبحانه وتعالى عندما
يؤتي الحكمة الى رسله وانبيائه فهو يجعل منهم نبراساً لنشر تلك الحكمة وتعليمها
لأتباعهم، وعندما يمنّ على أحد من عباده الصالحين بالحكمة ووضع الأمور في نصابها
الحقيقي، فهو يجعل منه قائداً ومُلهماً وناشراً للوعي والمعرفة لمن حوله.
بعيداً عن النصوص القرآنية، عندما نلتقي بشخص
متزن يضع الأمور في نصابها الصحيح فلا يستعجل إطلاق الأحكام، ولا ينجر وراء توافه
الأمور، ولديه من المقومات الشخصية ما يجعله مؤثراً فيمن حوله، ومصدراً لبث الطاقة
الإيجابية وابداء النصح والقول السديد، نقول عنه باختصار (رجلٌ حكيم). وهذه هي
الحكمة وليست أي شيء آخر.
وبناءً على هذا
الفهم للحكمة الواردة في القرآن، سنكمل لإعادة تعريف مفهوم السنة النبوية بعيداً
عن كتب التراث التي وضعتها في نفس الدرجة من القداسة مع التنزيل الحكيم واعتبرتها
وحياً من الله سبحانه وتعالى، وبعيداً أيضاً عن مُنكري السنّة بالكامل.
ولكن علينا أولاً
توضيح مفهوم (خاتم النبيين) في المنشور القادم، كي يكتمل فهمنا.
وفي النهاية أوجز القول بتعداد ما أورده الله
سبحانه وتعالى في سورة الاسراء ووصفه أنه من الحكمة:
·
وَقَضَى
رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً
·
رَّبُّكُمْ
أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ
·
وَآتِ
ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ
·
وَلاَ
تُبَذِّرْ تَبْذِيراً* إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ
·
فَقُل
لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً
·
وَلاَ
تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ
مَلُوماً مَّحْسُوراً
·
إِنَّ
رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ
·
وَلاَ
تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم
إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خطئا كَبِيراً
·
وَلاَ
تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً
·
وَلاَ
تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ
·
وَلاَ
تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ
أَشُدَّهُ
·
وَأَوْفُواْ
بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً
·
وَأَوْفُوا
الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ
·
وَلاَ
تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ
·
نَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً
·
وَلاَ
تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً
·
وَلاَ
تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً
جعلنا وإياكم ممن سعى وراء الحكمة فجازاه
الله خيراً أن آتاه إياها، ثم عمل كل ما يلزم لنشر تلك الحكمة والمعرفة من أجل خير
الآخرين.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
28-5-2019
*آيات استوقفتني (11) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن
رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا*
هذه الآيات من سورة الأحزاب تدور حول إباحة
زواج الآباء من مطلّقات أبنائهم بالتبني.
من المعروف أن العرب والمؤمنين من أتباع
سيدنا محمد كانوا يعاملون أبنائهم بالتبني معاملة أبنائهم من صلبهم، ولم يكونوا
يستسيغون الزواج من زوجات أبنائهم بالتبنّي بعد طلاقهم، حتى بعد أن أحلّ الله ذلك
فأراد الله سبحانه وتعالى أن يجعل من زواج
سيدنا محمد من طليقة ابنه بالتبني (زيد بن حارثة) دافعاً للمؤمنين بأن يرفع الحرج
عنهم ويبيح لهم ذلك.
فقام سيدنا جبريل وبوحي من الله سبحانه
وتعالى بإخبار النبي محمد بأن زيداً سيطلّق زوجته (زينب بنت جحش)، وأن الرسول عليه
أن يرتبط بها بعد ذلك.
ولكن سيدنا محمد شعر بالحرج الشديد، لكونها
أسبقيّة خارجة عن المألوف في المجتمع آنذاك، فقام أولاً بمحاولة الإصلاح بين زيد
وزوجته وكتم خبر الوحي، إلى أن أتم الله أمره وتزوج سيدنا محمد من زينب ونزلت هذه
الآيات:
((وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ
وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ
أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا
لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ
إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37) مَّا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ
وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا
(38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا
يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن
رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)))
وموضوعنا اليوم عن الآية الأخيرة.
ما المقصود ب: (ما كان محمدّ أبا أحد من
رجالكم)؟ وما علاقة ذلك بتتمّة الآية: (ولكن رسول الله وخاتم النبيين) وما معنى
خاتم النبيين؟
بداية وكما اتفقنا في منهجية القراءة
المعاصرة بأن لكل كلمة معنى مستقل، فكلمة أب ليست ككلمة والد في الاستخدام
والمعنى، وحين استخدم الله سبحانه وتعالى كلمة أب قصد منها معنىً يتعدى معنى
الوالدية البيولوجية.
فمن جهة لم يكن هناك داعٍ لنفي أن يكون محمد
والد زيد بن حارثة، فكل قريش تعلم أن زيداً كان عبداً لدى السيدة خديجة قبل أن
تهبه لسيدنا محمد (بعد زواجه منها)، ثم أعتقه سيدنا محمد واختار زيد أن يبقى في
كنف سيدنا محمد وحينها قال سيدنا محمد قولته الشهيرة (يا من حضر، اشهدوا أن زيدًا
ابني أرثه ويرثني) وصار يّدعى زيد بن محمد.
إذاً هذا النفي الوارد في القرآن يتعدى
المعنى السطحي للجملة، إلى نفي أن يكون محمدٌ هو الأب الروحي لأي من المؤمنين بحيث
تنتقل النبوّة أو الخلافة المقدّسة من سيدنا محمد إلى أي أحد من بيته أو من
أتباعه، كما يحصل الآن للأسف في الكهنوت الذي ابتدعته بعض الفرق الإسلامية، وتعتبر
أن الإمامة تنتقل من شخص إلى آخر، وأن هذه المكانة المقدّسة هي هبة من الله سبحانه
وتعالى وبركات منه.
فهذه الآية تنفي كل تلك الأساطير والقداسة
المزيفة.
والدليل هو تتمة الآية التي توضّح أن محمد هو
رسول الله وخاتم النبيين، وأن لا أحد من أتباعه له الحق في ادعاء وراثة مكانة
سيدنا محمد الدينية أو المطالبة بتوريث منصبه السياسي بحجة انتمائه الى بيت سيدنا
محمد (الارتباط البيولوجي) أو الانتماء الى سيدنا محمد بالأبوّة الروحيّة.
وهذا يجعلنا ننتقل الى الحديث عن خاتم
النبيين، لماذا كان سيدنا محمد هو خاتم النبيين؟
كل الرسالات التي سبقت سيدنا محمد كانت تعتمد
على تعاليم سماوية واضحة (افعل، لا تفعل) وكانت تعتمد على الوحي والإرشاد الإلهي مع
هامش ضئيل من الاجتهاد وحرية التصرّف، وطبقاً لارتقاء البشر على سلم المعرفة
الإنسانية وتقدم العلوم، كانت الحكمة الإلهية بأن الوقت قد حان كي ينقطع الوحي
المباشر من السماء الى الأرض، وتبدأ رحلة جديدة في تاريخ البشرية بالاعتماد على
منهج رباني متكامل (القرآن العظيم) قادر على استيعاب التطور البشري واختلاف العصور
وتطور المعرفة ووسائل وأدوات المعرفة، دون اتصال مباشر مع السماء، أو خوارق
للطبيعة أو معجزات تفوق قدرة البشر.
وأن العلم والابداع وتسخير الموارد المتاحة،
هو الوسيلة الوحيدة للرقي في المعرفة.
ومن هنا كانت عظمة سيدنا محمد الذي أسّس
لمرحلة جديدة في تاريخ البشرية بأن كان المعلّم الأول لجيل المؤمنين الأوائل في
كيفية إدارة الدولة (الحكم) وتنظيم المجتمع المدني (المدينة المنورة) وفي أمور
الحرب والسلم، والتعامل مع الدول المجاورة (السياسية الخارجية) وفوق كل هذا
الاجتهاد في النص بما يتناسب مع طبيعة المجتمع وطبيعة المتلّقي واختلاف الظروف،
والأخذ بالأسباب والابداع، دون الاعتماد على معجزات وخوارق للطبيعة.
وهذا ما مكّن الدولة الإسلامية في بداية
عهدها من سيادة العالم وتحقيق قفزة حضارية هائلة لم يشهدها تاريخ العالم كله في
فترة زمنية قياسية.
ولكن ما أن عادت العجلة الى الوراء وبدأنا
بتقديس النص الثابت والجامد، وأغلقنا باب الاجتهاد، وتركناه محصوراً في أسماء معينة
أحطناها بالقدسيّة ورفعنا مستوى نصوصها الى مستوى النص الإلهي، عاد بنا الزمن الى
الوراء وبتنا للأسف نتوجه الى السماء لنجدتنا ونعلن فشلنا في الاعتماد على أنفسنا
في الاجتهاد والتفكير في النص الإلهي القادر على القفز بنا الى الأمام، وهذا تجسيد
لشهادة سيدنا محمد علينا يوم القيامة (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي
اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا)
ما كان محمد أبا أحد من رجالكم، رسالة الى كل
من يقدّس الرموز ويعتقد أنهم مرتبطين بحبل من السماء.
خاتم النبيين، رسالة الى كل من يعتقد أن النص
الإلهي هو نص مغلق لا يقبل التدبر والاجتهاد، وأن فهم الجيل الأول له هو الفهم
الوحيد الصحيح غير القابل للنقاش.
ولا حول ولا قوة الا بالله.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
1-6-2019
*آيات استوقفتني (12) وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول –
مفهوم السنّة*
بعد ما تقدّم من مواضيع حول مفهوم الحكمة،
ومفهوم توارث النبوّة (خاتم النبيين)، وما طرحناه في العام الماضي حول مفهوم الوحي
(وما ينطق عن الهوى) وحصر الوحي في تنزيل الكتاب والقرآن، نتحدث اليوم باختصار عن
مفهوم السنة.
هناك من العلماء الذين تحدثوا عن خطأ استخدام
كلمة سنة، ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: د. محمد شحرور و د. محمد هداية. وسأستخدم
مصطلح السنّة هنا بالمعنى المتعارف عليه (الاقتداء بالنبي محمد).
الحديث هنا سيكون موجزاً ومختصراً لأن
الموضوع عميق ويمكن الاستزادة بقراءة الكتب المختصة والتي تبحث في الموضوع
باستفاضة وأخص منها بالذكر (السنّة الرسوليّة والسنّة النبويّة) للدكتور محمد
شحرور.
أولاً يجب التفريق بين اتباع أوامر الرسول
محمد (وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول) وبين ما يُعرف اصطلاحاً بالسنة النبوية، حيث
لم يرد في القرآن: (وأطيعوا النبي). وهذا بحد ذاته مفصل رئيسي لفهم موضوع السنة.
فكل ما جاء من الرسول صلى الله عليه وسلم حول
أحكام الدين مثل الصلاة، الزكاة، شعائر الحج، أحكام الصوم، هو واجب الاتباع بنص
القرآن.
ثانياً: كل ما جاء خلاف ذلك من أحكام شرعية
أو تفصيل لحكم، فيجب عرضه على القرآن فإن توافق معه أخذنا به وإلا فلا، لأن الله
سبحانه وتعالى تعهّد بحفظ الكتاب ولم يتعهد بحفظ الأحاديث أو بلاغ الرسول.
وهذا يتضمن على سبيل المثال لا الحصر، حديث
الرجم، وحديث التبنّي، وحديث الوصية وغيرها.
ويجب
على علماء الأمة الاجتهاد في هذا الموضوع بالذات وتبيان الاختلاقات التي نسبت إلى
الرسول صلى الله وعليه وسلم وتتعارض مع القرآن ثم الإعلان صراحة بعدم صحتها، بدلاً
من محاولة الجمع بينها بين آيات الكتاب، تارة بحجة نسخ الآيات، وتارة بتحميل
الآيات ما لا تحتمل من معنى، وكل ذلك من أجل عدم المساس بالتراث والأحاديث
المتواترة.
ثالثاً:
الوصايا الأخلاقية والقيم الإنسانية، كل ما جاء عن الرسول من أحاديث تتعلق بمنظومة
الأخلاق والوصايا والمعاملات تنضوي تحت لواء الوصايا الإلهية لخير البشرية، وهي
واجبة الاتباع من باب الاقتداء بالرسول، وقول العلماء في هذا الباب هو نيل الرضا
والقبول لدى الله تعالى نتيجة القيام بهذه الأعمال، ولكنها لا ترتقي الى درجة
الأوامر والنواهي الإلهية المباشرة والواردة في الكتاب العظيم.
ومنها على سبيل المثال:
((يُسلِّم الراكب على الماشي، والماشي على
القاعد، والقليلُ على الكثير))
((كل بيمينك وكل مما يليك))
رابعاً: الأذكار والدعاء وما ورد من صلاة
الشكر وصلاة الاستسقاء وصلاة الحاجة والاستخارة وغيرها، كل هذا برأيي الشخصي يتعلق
ببند مهم جدا هو البرمجة اللغوية العصبية او التنمية الذاتية، وهي باب مهم جداً من
أكبر أبواب الحكمة من وجهة نظري والذي يعمل على صقل النفوس البشرية وإعادة تنظيمها
بما يضمن الصحة النفسية والذهنية لها.
وكل من جعل من الأذكار اليومية برنامجاً
يومياً له، ولجأ دوماً إلى أداء كل ما ورد من وصايا للرسول في هذا الباب يعرف مدى
الأثر الإيجابي على حياته.
وأسوق هنا بعض الأمثلة:
((بشِّرُوا ولا تنفِّروا، ويسِّروا ولا
تعسِّروا))
((لا تَحْقِرنَّ من المعروف شيئًا، ولو أنْ
تَلْقَى أخاك بوجه طلق))
((تبسمك في وجه أخيك صدقة))
((تفاءلوا بالخير تجدوه))
خامساً: ما ورد من اجتهادات من النبي صلى
الله وعليه وسلم في تنظيم المجتمع والسوق والمعاملات وأمور النظافة الشخصية
والطهارة واللباس.... الخ، فإن الأصل فيه الاقتداء وليس التقليد حيث من الواجب
علينا إعمال العقل والاجتهاد والرقي بأمور المجتمع والحضارة بناء على ادواتنا
المعرفية وما توصلت له البشرية كما فعل سيدنا محمد بالنسبة لعصره من باب النبوّة
وليس من باب الرسوليّة.
فكما ذكرت في الموضوع السابق إن النبي صلى
الله عليه وسلم كان خاتم النبيين وفتح باب الاجتهاد على مصراعيه وأغلق باب المعجزات
وحرّي بنا ان نستمر على طريق الاجتهاد لا ان نتوقف عند اجتهاد النبي والصحابة من
بعده.
والأمثلة كثيرة، منها على سبيل المثال لا
الحصر، سفر المرأة، حُكم المرأة للدولة، حكم الموسيقى والفنون بشكل عام، المسواك،
تقصير الثوب والحجامة.....الخ.
فالأصل في هذه الأمور هو الهدف والقصد وليس
التقليد، فاستخدام فرشاة الأسنان وغسول الفم من السنة طالما أن الهدف هو الاعتناء
بنظافة الفم والأسنان، مع الاستغناء عن المسواك إلا للحاجة مثل السفر.
وتقصير الثوب خوفاً من النجاسة، لا ينطبق على
المجتمعات المدنية التي لديها من البنية التحتية ما يغنيها عن الخوف من النجاسة.
وحكم المرأة للدول قد أثبت نجاحاً عظيماً،
نظراً للقفزة الحضارية التي حدثت.
وسفر المرأة اليوم من بلد إلى بلد لا يوجد
فيه مخاطر ولا خوف على عرض أو حياة.
والموسيقى لها معايير أخلاقية إذا تم
الالتزام بها فتصبح غذاء للروح، وأداة عصرية لا يمكن الاستغناء عنها.
والحديث يطول عن هذا الباب، وهو لبّ الموضوع
الذي يختلف عليه معظم من يقول بالالتزام بنص السنّة، وبين من يرى ضرورة اخذ الهدف
والقصد منها.
هذا باختصار ما أراه من كيفية الاقتداء بالسنة
النبوية والرسولية لتحقيق الهدف المنشود منهما، لا من أجل التقليد والإبقاء على
ذات الأدوات المعرفية التي راجت في المجتمعات الأولى.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
2-6-2019
*آيات استوقفتني (13) لا يمسّه إلا المُطهّرون*
((إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ
مَّكْنُونٍ (78) لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ
الْعَالَمِينَ (80))) سورة الواقعة.
من المتوارث لدينا حسب الموروث الديني أنه لا
يجوز لمس المصحف إلا في حالة الطهارة، فهل هذا هو المعنى المستنبط من هذه الآية؟
في البداية لقد عرّف الله سبحانه وتعالى الطهارة
الجسدية في القرآن بما يلي:
أولاً، الطهارة من الجنابة بالغسل:
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ
تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ
وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ)) النساء 43
ثانياً، الغسل من الحيض للمرأة:
((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ
أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَاء فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّىَ
يَطْهُرْنَ)) البقرة 222
ثالثاً، الطهارة من النجاسة:
((وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ)) المزمل
((وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ
أَوْ جَاء أَحَدٌ مَّنكُم مِّنَ الْغَائِطِ أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ
تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا)) سورة المائدة
فهل يحظر على هذه الحالات لمس المصحف؟
من التدبّر في هذه الآية يتضح ما يلي:
الحديث هنا عن القرآن الكريم وليس عن نسخة
المصحف الورقية الموجودة لدينا، بل عن النسخة المحفوظة بالرعاية الإلهية (كتاب
مكنون)
لا يمسه إلا المطهرون، ال (لا) هنا ليست لا
الناهية فهي لا تنهى عن امر، بل هي (لا) النافية، أي أنها تنفي أن يكون هذا الكتاب
المكنون متاحاً لغير الملائكة.
لاحظوا معي لفظ (*المُطهّرون*) أي أن الطهارة
هنا من صنع الخالق، وليس من صنع المخلوق، فالملائكة خلقوا على هيئة طهارة جسدية لا
تتغير ولا ينتقلون من مرحلة الطهارة الى غيرها مثل باقي البشر، فهم منزهون عن
حالات عدم الطهارة الجسدية التي ذكرتها آنفاً.
أما في حالة البشر، فقد قال الله تعالى:
((إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ
وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ))
لاحظوا هنا كلمة *المُتطهّرين* أي الذين
يحافظون على طهارتهم بفعلهم وإرادتهم.
ومن هنا نقول إن لمس المصحف في حالة الطهارة
فقط هي من الآداب العامة، وليست من النواهي الإلهية كما هو شائع في تراثنا. وأن
هذه الآية التي يُستدل بها على غير ذلك، لا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد
بالمصحف الذي بين أيدينا، ولا بنا نحن البشر.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
3-6-2019
*آيات استوقفتني (14) سيدنا يعقوب*
هل كانت شخصية سيدنا يعقوب التي تجسّدت في سورة
يوسف، ضعيفة، قليلة الحيلة، ومغلوبة على أمرها؟
أم كانت شخصية المؤمن الحكيم الواثق بأمر الله؟
تعالوا نرى سويةً.
((قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ
عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ
عَدُوٌّ مُّبِينٌ(5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ
الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا
أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ
حَكِيمٌ(6)))
من هنا يظهر أن سيدنا يعقوب رجل حكيم ذو بصيرة
نافذة، يعلم من أمر غيرة إخوة يوسف، وهو رجل مؤمن يعلم كيد الشيطان، ثم إنه علم
بتأويل الرؤيا التي قصّها يوسف عليه ولكنه أخفاها عنه، كما طلب منه إخفاءها حتى
يتم الله أمره، ويعقوب منذ هذه اللحظة أيقن تماماً أن ابنه يوسف سيكون الوارث
للنبوة وسيكون حامل الراية من بعده، ليس هذا فحسب بل إن شأنه سيعلو فوق شأنه هو،
بحكم تأويل الرؤيا.
ولقد علم يعقوب أن هذا الأمر ولكي يستتب ليوسف،
فلا بد له من رحلة صعبة وطويلة يصقل الله فيها مهاراته ويقوي شخصيته ويعلّمه
الحكمة.
((قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ
تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا
غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي
لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ
عَنْهُ غَافِلُونَ))
هنا بدأت المكيدة، وخاف يعقوب على ابنه من كيد
أبنائه، ولكنه في نص صريح وواضح قال إنه يخاف على ابنه من الذئب، ألا تجدون أن ذكر
الذئب هنا من قبل يعقوب هو نبوءة بحد ذاتها؟
لاحظوا معي:
(أخاف أن يأكله الذئب وانت عنه غافلون)
(قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا
نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ)
لقد جاء إخوة يوسف بنفس الكذبة التي علمها
يعقوب من قبل وأنبأهم بها، وكأنه كان يقول لهم (إني أعلم من الله ما تصنعون)
هل انطلت الحيلة على يعقوب وهل آمن بموت ابنه
وسلّم بذلك:
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ
أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ))
فكان موقفه مطلق الايمان بالله والصبر على هذه
المحنة التي علمها منذ اليوم الأول لنبوءة يوسف.
ثم جاء الموقف التالي لسيدنا يعقوب عندما أراد
إخوة يوسف أخذ شقيقه الأصغر معهم الى عزيز مصر (يوسف)، وهذه المرة كانوا صادقين:
(قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا
الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)
فكان جوابه: (قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ
إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ
أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)
ثم قال:
(قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى
تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ
فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ)
وهنا أشهد الله عليهم وأخذ منهم موثقاَ غليظاَ
أن يعودوا به سالماً، ولكن مرة أخرى لاحظوا معي:
(إلا أن يُحاط بكم)
أي أن يعقوب أخذ موثقاً من أبنائه أن لا يؤذوه
وأن يعيدوه سالماً، ولكنه ترك أمر تدبير الله وحكمته مفتوحاً فإن كان الأمر قضاءً
من الله فقد سلّم أمره لله، ثم قال (الله على ما نقول وكيل).
فهل هذا موقف قليل الحيلة المغلوب على أمره، أم
موقف الحكيم الواثق والمؤمن بقضاء بالله؟
ثم بدأ بإسداء النصح لهم من باب الحكمة التي
علمها له ربنا سبحانه وتعالى:
(وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن
بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم
مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ
وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)
ثم تبع ذلك ثناء الله عليه وعلى علمه وشهادة من
الله ليعقوب بأن الله آتاه العلم من عنده (وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا
عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ)
وتستمر الأحداث ويأخذ يوسف أخيه في دين الملك
ويعود إخوة يوسف الى أبيهم يعقوب:
(قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ
أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ
الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)
ومرة أخرى يقف موقف الصابر المستعين بالله ولكن
موقف الواثق في نفس الوقت (عسى الله أن يأتيني بهم جميعاً إنه هو العليم الحكيم)
ثم يضيف قائلاً: (قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو
بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
ولاحظوا كيف يتناسق النص مع بعضه البعض، شهد
الله له بأن آتاه العلم (وإنه لذو علم لما علّمناه ولكن أكثر الناس لا يعلمون) ثم
جاء قول يعقوب نفسه (وأعلم من الله ما لا تعلمون)
ولاحظوا أيضاً (من الله) أي أن هذا العلم
والإخبار يأتيه من الله تعالى وبوحي منه، وأنتم لا تعلمون (ولكن أكثر الناس لا
يعلمون)
وتستمر الحكمة مع يعقوب (يَا بَنِيَّ
اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ
اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)
(وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ
إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ)
(فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى
وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ
مَا لاَ تَعْلَمُونَ)
إذاً تحققت رؤية يوسف في النهاية، ولكن رؤية
يعقوب كانت هي الأخرى تتحقق خطوة خطوة، وإذا كان يوسف صابراً وواثقاً، فقد كان
يعقوب كذلك واثقاً بأمر الله صابراً حزينا يكتم حزنه، ويبث همه وشكواه لله سبحانه
وتعالى وحده، راجياً الفرج.
(وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ
وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن
قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا)
وهنا يجب توضيح بعض الأمور، أولاً السجود هنا
ليس بسجود الجبهة على الأرض، فهذا السجود خص الله فيه أتباع محمد في أداء الصلوات،
بينما كان السجود في الملل الأخرى هو سجود انحناء فقط.
وفي عصر يعقوب ويوسف، كانت هذه التحية لأصحاب
السلطة والمقامات العليا، من باب التحية والاكرام، وفي هذا الموقف فقد كان يوسف
عزيز مصر.
أضف الى ذلك، أن يوسف أصبح حامل الرسالة
والنبوّة الآن، في حين أن يعقوب هو نبي الله ولا يحمل رسالة، بل كان يبشّر برسالة سيدنا
إبراهيم ونبوّة اسحق، ويتلقى الحكمة والوحي من الله تعالى:
(وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا
جَعَلْنَا نَبِيًّا)
بينما سيدنا يوسف جاء برسالة واحكام جديدة
وأصبح هو المتبوع:
(وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ
بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَاءكُم بِهِ حَتَّى إِذَا
هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ اللَّهُ مِن بَعْدِهِ رَسُولًا)
يُذكر أيضاً ان صلاة السيدة مريم وسجودها
يختلفان أيضاً عن السجود الذي نعرفه، وصلاة مريم هو ما نراه اليوم من صلاة
المسيحيين في الكنائس، وسجودها هو الركوع على الأرض مع الانحناء.
نقطة على الهامش:
بما أن يعقوب والد يوسف هو نبي الله، لماذا لم
يذكر الله تعالى دعوته وسيرته كنبي؟
كل من يتدبر القرآن يعلم جيداً أن الله سبحانه
وتعالى أورد بعض أسماء الأنبياء ولم يذكر كافة الأنبياء، وكذلك ذكر سيرة بعض
الأنبياء الذين ذكرهم، ولم يذكر سيرة كل الأنبياء الذين ورد ذكرهم في القرآن.
وكما أشرت في منشورات سابقة، الحكمة في ذلك أن
كل القصص القرآني يعتمد على إلقاء الضوء على مراحل تاريخية مهمة في حياة البشر
وتطورهم، ولقد ذكر الله سبحانه وتعالى مفاصل مهمة في حياة البشرية من خلال قصص
الأنبياء، قصة بدء الخلق مع قصة سيدنا آدم، نوح والطوفان، سيدنا إبراهيم وبناء
الكعبة وتحريم القرابين البشرية، سيدنا شعيب وتطور المقاييس والمواصفات ووحدات
الوزن، سيدنا هود وتطور استخدام الأنعام، وهكذا.
ولكن هناك أنبياء كثر لم ترد قصصهم ولا سيرتهم
ودعوتهم الى الله، على سبيل المثال لا الحصر (سيدتا إسماعيل، إسحق، ويعقوب)
بل إن سيدنا هارون الذي اشترك مع سيدنا موسى في
الرسالة، لم يأت ذكره بالدعوة في قصة سيدنا موسى.
هذا والله أعلم
أيمن يوسف أبولبن
4-6-2019