الجمعة، 6 سبتمبر 2024

مُعضلةُ العالمِ الحرّ

 



 

 

أثناء الاحتجاجات الأخيرة والحراك الطلاّبي في الولايات المتحدة، قالت الكاتبة والصحفية الاستقصائية الشهيرة نعومي كلاين – الكندية من أصل يهودي - في كلمة ألقتها في نيويورك وسط الحشود المناهضة لحرب الإبادة في غزة ، أن اليهود في العصر الحديث عادوا لصنع صنمٍ جديد لهم على غرار العجل الذي عبده أجدادهم في عصر موسى، وهذا الصنم أو الطاغوت الجديد هو "الصهيونية".

 

نعومي كلاين هي ناشطة حقوقية معروفة، وهي صاحبة كتاب "عقيدة الصدمة" الذي وثّقت فيه جرائم الحرب الأمريكية-البريطانية على العراق مطلع هذا القرن، وربطته بالعقيدة العسكرية الأمريكية المتأصلة والقائمة على الصدمة والرعب، والتعذيب الممنهج، وانتهاك حقوق المدنيين والضرب بعرض الحائط بكل المواثيق الدولية والانسانية.

 

وقد ربطت بشكل موثق وبالأدلة بين جرائم الحرب السابقة التي ارتكبها الجيش الأمريكي – بما في ذلك انتهاك حقوق الأمريكان أنفسهم – وبين جرائم الحرب على العراق، بل واستشهدت بالكتيّبات العسكرية، والتدريبات التي يتم تنظيمها لتطبيق هذه "العقيدة"!!

 

ومن جهة أخرى، يقول د علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري": ( إن كل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المُترفون عليه بعد ذلك فيحولونه إلى أفيون وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى)

بمعنى أن الدين عندما يبدأ يقوم بثورة تجديدية قائمة على تصحيح المفاهيم المغلوطة، وإعادة تنظيم المجتمع بما يضمن الحرية والعدالة والمساواة. ثم ما يلبث أن يدخل في مرحلة ركود، فيستولي عليه أصحاب السلطة والنفوذ (الأوليغارشية ) فيقوموا بحرفه وطمس روحانياته وجوهره، فيصبح عادةّ أكثر منه منهج حياة، ثم لا تلبث أن تختفي القيم الثورية وتتحول إلى أدوات سياسية هدفها السيطرة على الشعوب من خلال إدمانهم على الحركات ومظاهر العبادة، دون عمل مؤثر أو جاد.

 

ولا شك أن هذا صحيح ودقيق وثابت في تاريخ الانسانية، ولكن الأهم من ذلك أن هذه القاعدة تنطبق أيضاّ على باقي الثورات في العالم والحركات الفكرية.

فلنأخذ على سبيل المثال الشيوعية الاشتراكية التي جاءت لنصرة العمال والنضال من أجل نيل الانسان الكادح حقوقه المشروعة، فتحولت إلى نظام قمعي تعسفي لا يؤمن بالتعددية ولا بالحرية ولا بحقوق الانسان، وتم وصمه على مر التاريخ بأنه أكثر الأنظمة الحديثة قمعاً للشعوب ومناهضة للحريات، بل وتم تجسيده في الأدب العالمي بصورة "الأخ الأكبر" الذي أصبح رمزاً للطغاة على مر العصور.

 

وكنت قد كتبت من قبل عن مبادىء الثورة الفرنسية والتي قامت عليها فكرة "اللائكية – الدولة المدنيّة" في فرنسا وتوّجت بقانون عام 1905، الذي يشدّد على حق الفرد في الانتماء الى أي مجموعة يختارها في حين تبقى الدولة بلا دين رسمي وليس لها أن تفرض أي انتماء على المجتمع الأمر الذي سيقود إلى التعايش السلمي بين مختلف الديانات، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه المبادىء، هي الشعار البرّاق للعالم الحرّ الجديد.

 

ولكن معضلة الحضارة الغربية "العالم الحر" أنها تحوّلت إلى "إنتماء" بحد ذاتها، أي أنها أصبحت ديناً جديداً غير خاضعٍ للعقل أو للمنطق ولا يقبل النقد، وبالتالي أصبحت هذه الدول اليوم (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) دول ديكتاتورية تفرض انتماءاتها على الأفراد، وهذه هي المفارقة الكبرى!!

 

وهذا تفسير ما قالته نعومي كلاين عن الدين الجديد "الصهيونية" الذي أصبح الإله الجديد الذي لا يسع العالم الحر عصيان أمره أو الدوران في فلكٍ غير فلكه، وهذا ما يتفق في المضمون والجوهر أيضاً مع ما قاله د علي الوردي عن الثورات الدينيّة التي تبدأ بفكرة ثورية صادقة وجميلة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى كابوس إذا ما استأثرت عليها الأقلية المتنفذة.

 

لقد تحولت دول العالم الحر في القرن العشرين إلى دول استعمارية تُبرّر الاحتلال والقتل والتدمير بحجة نشر "المعرفة وقيم الحرية"، وتحوّلت اليوم إلى ديكتاتوريات عظمى تدعم جرائم اسرائيل في حق الفلسطينيين واستعمار أراضيهم وطردهم من بيوتهم، بحجة إرضاء الرب وتحقيق نبوءة الكتاب المقدّس، أي عالمٍ حرٍّ هذا؟!

 

لقد وصل الأمر إلى مناقضة كل المواثيق الدولية والقوانين والأعراف، وتهديد المؤسسات الحقوقية تهديدات مباشرة إذا قامت بدورها وأدّت المسؤوليات المنوطة بها، وإلى قمع حريات مواطني هذه الدول وطلاب الجامعات والهيئات التدريسية والعاملين في وسائل الاعلام.

 

هذه المعضلة التي وقعت فيها دول العالم الحر، ورغم مساوئها إلا أنها قد أدّت إلى خسارتها لعامل جوهري ومؤثر غفلت عنه، لقد خسرت ثقة الجماهير بها وبمبادئها التي أدّعت أنها قامت من أجل تحقيقها، وبالأخص الجيل زد Z Generation  وهذه الخسارة برأيي ستكون المسمار الأخير في نعش العالم الحر الجديد، وستؤدي إلى ثورة تصحيحية داخلية، تقضي على كل الأقليات الحاكمة، والطغمة السياسية التي تتلاعب بالشعوب، وستؤدي بالتالي إلى تغيير وجه العالم بعد سقوط الصهيونية العالمية.

 

هل لعاقلٍ أن يتصور أن الدولة العظمى في هذا العالم الحر المزعوم يحكمها رجل مُسنٍ، تتحكم في قراراته وتصرفاته مؤسسات الصهيونية العالمية، فيجازف بسلامة مواطنيه واستقرار أمنه، ووضعه الاقتصادي، بل ويضع على المحك كل مبادىء الحريات في سبيل دعم دولة مارقة خارجة عن القانون تفصله عنها قارات العالم!

والأنكى من ذلك أن من ينافسه على الرئاسة هو فاسدٌ آخر ، لا يؤمن أصلا بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة!!

 

ومن خلف هذه الدولة، تأتي فرنسا بلد الحريات، التي تحولت إلى دولة تعتنق دين "الإلحاد" فتقمع الأديان، وتجبر الطالبات على خلع الحجاب، وتمجّد الصحفيين الذين يسيئون للأنبياء وللأديان، وتشرعن المثليّة الجنسية، وتُملي تعليمات طاغوتها الجديد على شعبها بل وتريد أن تفرضه على العالم أجمع، بحجّة صون الحريات!! هل هناك كوميديا سوداء في هذا العالم أكثر من هذا!!

 

ولكن، وبرغم سوداوية المشهد، وتناقضاته العبثية، ومفارقاته المؤلمة، إلا أني أنظر بعين من التفاؤل إلى المستقبل القريب، وإلى هذا الجيل الجديد، الذي خرج من عباءة أنظمته الفاسدة، وأعلن كفره بكل هذه التناقضات السافرة، وقام بحمل راية الثورة من جديد، لإعادة تصحيح المفاهيم، وترسيخ مبادىء الثورة الأساسية، وإني أدعو كل حرٍّ ، وكل حرّةٍ، للوقوف مع الحق في هذه الفتنة التي يقف فيها القانون والشرطي في صف الغاصب، وتسخّر وسائل الاعلام كل أسلحتها لتشويه الحقائق، فيما تقف الانسانية عاجزة عن اتخاذ أي موقف داعم وحقيقي لنصرة المظلوم، فإن الاصطفاف مع الحق ولو بكلمة أو بنشر صورة، أو إعلان موقف، أو الخروج في مظاهرة لهو فعل مؤثر رغم بساطته، أو ضآلة حجمه.

 

((وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ))

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-5-2024

في إنتظار الرد الإيراني!

 



 

 

ما زلنا في إنتظار الرد الإيراني على إغتيال قائد حركة حماس في إيران منذ نحو شهر، وكما قال السيد حسن نصر الله فإن هذا الإنتظار هو نوع من العقاب، ولكن السؤال عقابٌ لمن بالضبط؟!

 

في سبعينات القرن الماضي كان شاه إيران، يلُقّب ب "شرطي أمريكا في المنطقة"، ومع قيام الثورة الخمينية في عام 1979 استقبل العالم العربي والأوساط السياسية تلك الثورة بحيرة وريبة، فمن جهة رأت بعض الحركات الوطنية أن الانقلاب على نظام شاه إيران هو إيجابي في كل الأحوال، وأنه سيغير قواعد اللعبة، في حين رأى البعض الآخر، أن مسار الحريات والديمقراطية في المنطقة والوقوف في وجه الديكتاتوريات، لا يتوافق مع توجهات تيار ديني متشدد، قائم على قمع الحريات في الأساس.

 

بدأ نظام الخميني في إعلان معاداته للرأسمالية والامبريالية وبدا ذلك واضحاً في حادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران عام 1980، تلا ذلك الصراع مع العراق -البوابة الشرقية للعالم العربي- والذي تأجج وصولا إلى الحرب العراقية الايرانية التي خسرتها إيران في الميدان، ولكنها عملت جاهدة بعد ذلك على حصار العراق والتحالف مع الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) لإسقاط النظام العراقي والتخلص من تهديدات هذا الجار العربي، ناهيك عن القول أن إيران لعبت على خط التناقضات والصراعات بين جناحي حزب البعث الاشتراكي، وتحالفت مع سوريا (وشركائها) للقضاء على حزب البعث العراقي، وكان لهما ما أراداه.

 

المفارقة هنا تكمن في أن إيران دعمت أمريكا (عدوها الأول المزعوم) ومهّدت لها هزيمة العراق وتدمير مقدراته (غزو العراق عام 2003)، وتحالفت مع اسرائيل أثناء الحرب العراقية الايرانية، فيما يعرف ب (إيران-غيت أو إيران كونترا) لكسر حصار التسليح الذي فرضه عليها الغرب، وهي الآن تدّعي أنها الدولة المُناصرة للقضية الفلسطينية والمُعادية للامبريالية والصهيونية!

 

اعتمدت إيران في بسط نفوذها في المنطقة على مبدأ الحرب بالوكالة، فهي لا تدخل في نزاع مباشر مع أعدائها أو خصومها، ولكنها تتحالف مع جيوب المعارضة وبعض الحركات المسلحة وتدعمها للقيام بهذا الدور، خذ على سبيل المثال الميليشيات الشيعية في العراق، حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، وللأسف المقاومة الفلسطينية التي تستخدمها لمناكفة إسرائيل وأمريكا، وللحصول على أوراق ضغط في المنطقة تستخدمها حين تشاء.

 

إيران لم تدخل في حرب مباشرة سوى مع بلد عربي هو العراق، وهذه الحرب فرضت عليها وخسرتها عسكرياً، ولكن مع كل هذه الجعجعة التي نسمعها، فإن إيران لم تقتل جنديا اسرائيلياً أو أمريكياً واحداً بشكل مباشر!

 

السؤال الذي يطرحه بعض النشطاء حالياً: ما المطلوب من إيران، ولماذا تزاودون عليها؟!

في الحقيقة، علينا قبل أن نجيب على هذا السؤال أن نقول وبمنتهى الصراحة والتجرّد، أن اللوم الأساسي في هذه الإشكاليّة يقع على القيادة الفلسطينية -سلطة التنسيق الأمني- ومن خلفها كل القيادات العربية التي خذلت فلسطين والفلسطينيين، وربطت سياساتها واقتصاداتها بالولايات المتحدة والغرب، وبالتالي أصبحت في شراكة استراتيجية مع رأس الحربة الأمريكية في المنطقة – دولة الاحتلال – بشكل مباشر أو غير مباشر، برضاها أو رغماً عنها!

وعلينا أيضاً أن نلوم القيادة السورية التي كانت تدّعي الوطنية ومعاداة الامبريالية، ثم وقعت في شرك إيران وروسيا بعد أن حرقت الشجر والحجر في سبيل البقاء في السلطة.

وعلينا أن نلوم النظام المصري، والسلطة العسكرية العميقة التي وقفت في وجه الثورة المصرية، وحولت البلد إلى وكالة مفتوحة لكل من يرغب بالدخول في المزاد على مقدراتها.

وأخيراً علينا أن نلوم إيران ذاتها على شق الصف العربي، وتدمير العراق من الداخل ثم تسليمها للمتشددين والمتعصبين الموالين لها.

ولولا هذه المأساة التي نعيش في ظل غياب العراق وسوريا ومصر، وقمع الثورات الشبابية العربية، وتكميم الأفواه، والتهديد بالفقر والفوضى والحروب الأهلية، ولولا خيانة فتح الثورة، وتحوّلها إلى سلطة قمع وتدجين، لما وصلنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.

ولو وجدت الفصائل الفلسطينية، من يدعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لما ارتمت في أحضان القمقم الايراني ولما تجرأت إيران على استغلال القضية الفلسطينية في البروباجاندا الخاصة بها.

وللإجابة على السؤال المطروح آنفاً، لا نريد شيئاً من إيران سوى أن تترك القضية الفلسطينية للفلسطينيين وأن تقلع شوكها بيدها!

 

القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين وأهل غزة لا تعني إيران في شيء، تماماً كما أن معاناة الأوكرانيين لا تعني شيئا لأمريكا وللغرب، ولكنها المصالح السياسية ولعبة التناقضات! ولهذا نقول إن إيران وما يقال عنه محور المقاومة، لا يعوّل عليه، ولكنها المصالح الآنيّة. بل إني سأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن إيران لا ترغب في تحرير فلسطين -ولو نظرياً-، إذ لا يوجد لإيران أية مصلحة استراتيجية في القضاء على اسرائيل، إلا في حالة واحدة فقط، أن تكون هي الوكيل على فلسطين!

 

من ينتظر أن تقوم إيران بردٍ ساحق وماحق، لاسترداد ماء الوجه أو لنُصرة أهل غزة، هو واهمٌ، ففلسطين لن ينصرها سوى الله وبأيدي المخلصين من أبنائها، ولن يُكتب هذا النصر لأي مُدّعٍ أو منافق أو طامعٍ، وأختم بالقول إن طريق القدس حتماً ويقيناً لا يمر بكربلاء ولا بحمص ولا بحلب!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-9-2024


رابط المقال على القدس العربي

الأحد، 24 مارس 2024

خط الدفاع الأخير

 



 

 

في طفولتي، كان همّي الأكبر  في كل ليلة أن استغرق في النوم قبل باقي أفراد العائلة، كان هاجساً مخيفاً لي أن أبقى مستيقظاً فيما يخلد الآخرون إلى النوم، كانوا بالنسبة لي خط الدفاع الأخير، وبدونهم أشعر أني، بكل بساطة.... "وحدي"!

 

ذات ليلة خلت وقبل فترة وجيزة، تأهبت للنوم بعد أن نام أفراد أسرتي الصغيرة، وتفقّدت أبواب المنزل قبل الذهاب إلى النوم -كعادتي كل ليلة – فوجدت أن أحد الأبواب غير مقفل بالمفتاح. للوهلة الأولى فكّرت في معاتبتهم على ذلك في اليوم التالي، ولكني تداركت سريعاً أنني عادةً ما أتفقد الأبواب قبل النوم، وعلى عاتقي أنا تقع تلك المسؤولية.

 

وحين خلدت إلى النوم في تلك الليلة، استذكرت طفولتي وكم كنت أخاف من الوحدة، ومن قضاء الليل وحدي في البيت، ثم تسارعت الأفكار مثل كرة الثلج في رأسي، ورسمت في مخيّلتي صورة أبنائي وهم يستغرقون في النوم مُطمّأنين، لا يساورهم القلق، ولا الخوف، لأنهم يعتمدون على وجودي بينهم، وكم كان هذا الشعور  -رغم حلاوته- مُحمّلاً بالمسؤولية!

 

كل واحد فينا هو خط الدفاع الأخير  في حياة شخص آخر، أو مجموعة من الأفراد، ولربما مجتمعٍ كاملٍ، وهو بذلك يلعب دوراً أساسياً في حياة الآخرين ويكون مانحاً حقيقياً للشعور بالأمان والطمأنينة لمن حوله.

إن وجودنا يكتسب بعداً آخر بالنظر إلى موقعنا في حياة الآخرين، رغم أننا نادراً ما ندرك ذلك، أو نحاول إدراك ذلك. وبناءً عليه، فعلى كل واحد فينا تقع مسؤوليات كبيرة، قد تكون ماديةً وقد تكون معنويةً ونفسيةً أو كليهما معاً، ولكنها تمتد لتشمل مجالاً أوسع بكثير مما نعتقد.

إن مشاركتنا في بعض الأحداث والمناسبات وتواجدنا – مجرد تواجدنا – هو عامل مفصلي ومهم للآخرين للشعور بالأمان والطمأنينة بل والسعادة والرضى، ومن أجل ذلك، لو كان فقط من أجل ذلك، فعلينا أن ندعو الله ليلاً ونهاراً أن يحفظنا لأحبابنا، ويحفظ أحبابنا لنا!

 

أثناء خدمتي الاجبارية في الجيش العربي، مرّ علينا أحد الأعياد وكان لا بد لبعض أفراد الكتيبة أن يقضوا المناوبة خلال أيام العيد في المعسكر، وكان نصيبي أن أكون من ضمن أؤلئك المناوبين، وفي صبيحة يوم العيد اجتمع بنا قائد الكتيبة في الطابور الصباحي، وما زلت أذكر كلماته إلى يومنا هذا، قال لنا من الطبيعي أن تشعروا بالغصّة لأنكم لستم بين أهلكم في هذا اليوم، ولكن عليكم أن تعلموا أن وجودكم هنا، هو ما يجعل لهذا العيد معنىً وطعماً، إذ لولا وجودكم هنا في هذا الوقت، لما شعر أهلكم بالأمان والطمأنينة، ولما استمتعوا بهذا العيد!

 

نعم، كل جندي يقف على حدود الوطن هو خط الدفاع الأخير للوطن، وكلٌّ منّا في موقعه هو خط الدفاع الأخير لأحدهم، هكذا هي الحياة، ومن هنا أقول إن واجبنا ألا نخذل من يعتمد علينا، ومن عقد الأمل على وجودنا!

ولذلك كلّه أقول أن هدفنا في الحياة لا يجب أن يقتصر على رؤيتنا الشخصية، أو أهدافنا الفردية، فنحن في النهاية جزء من منظومة اجتماعية متكاملة، ووظيفتنا لا تقتصر على أدوارنا الفردية، بل على شبكة علاقاتنا ومواقع تأثيرنا على الآخرين؛ وللنجاح في الحياة علينا إظهار التعاطف والتضامن مع من حولنا، وتقديم العون والنصح لهم، ومداومة التواجد الايجابي في حياتهم، وبث السرور والطمأنينة وافشاء السعادة، ومساعدتهم على عمل الخير، وان نكون أنموذجاً لهم في هذه الحياة ومرجعية يستمدون منها القوة، والعون، ويسترشدون بفكرنا ونصيحتنا، لاخراج أفضل ما فيهم ودفعهم للنجاح والتميز.

 

وحين نتحدث عن التجربة الانسانية فعلينا أن ندرك أن كل إنسان على وجه هذه البسيطة هو فارسٌ لحلم ما، أو بطلٌ في رواية أحد آخر، في مسرحية تدور  رحاها في بقعة ما على هذه الأرض، قد تكون بعيدة عنا، ولا ندرك منها سوى النزر اليسير، وأنه مهما فعلنا كي ندرك حقيقة هذا الشخص ومحنته، والمصاعب التي يواجهها فإننا لن ندرك ذلك ولو حاولنا جاهدين، وصدق الله العظيم حين قال في تصوير متعاطف مع محنة الوجود الانساني والعمل الدؤوب الذي يتحتّم على الانسان المداومة عليه في هذه الدنيا ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.

 

ولعل المحنة والظروف الصعبة والتجارب القاسية كفيلةٌ بتغيير سلوكنا الانساني وجعلنا أكثر تعاطفاً وتفهماً للآخرين، وأكثر تسامحاً معهم؛ مع كل تجربة فقدانٍ لعزيز نصبح أكثر قرباً من أحبابنا وأكثر حناناً وارتباطاً بهم، ومع كل تجربة صعبة يتخلّى فيها عزيزٌ على قلبنا عنّا ويخذلنا، نصبح أكثر حملاً للمسؤولية وأكثر عوناً للآخرين، ومع كل شعورٍ مريرٍ بالوحدة "يا وحدنا!" نصبح أكثر حرصاً على أن نكون نحنُ خط الدفاع الأخير لأحد ما، رغم أن ظهرنا مكشوف وقلبنا موجوع!

 

وأختم بالقول إن بعض الناس في هذا الوقت بالذات، هم خط الدفاع الأخير عن شرف الأمة وكرامتها ووجودها، ولولا مقاومتهم وصبرهم وشدة بأسهم، وتضحياتهم، لركعت هذه الأمة لجلاّدها، ولما قامت لنا قائمة.

 

تحية إجلال وتقدير، لكل إنسانٍ شامخٍ في هذه الحياة، يفرد ظلّه على من حوله، ويحيطهم بالحنان والستر، ويمدّهم بالحب والقوة.

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-2-2024

رسائلُ ليلى

 



 

تتسلل ليلى خلسة إلى حقيبة الطالب المشاغب أمجد، الذي تكن له مشاعر حب مجنونة دون أن يدري، تريد أن تعبّر عن حبها المكنون، ولكنها في ذات الوقت تحاول جاهدة ألا تكشف هويتها. هي تعتقد أن هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، جسر العبور إلى داخله، أو ربما هي رحلة اكتشاف الذات بالنسبة لها.

 

ليلى شابة خجولة مفعمة العواطف ذات بصيرة لا تخفى على أحد، في حين ان أمجد هو شاب أرعن ذاع صيته في الكلية الجامعية بسبب مشاكساته وازدرائه للآخرين، يقود حفنة من الشباب الذين يمارسون هوايتهم في السخرية من الطلاب الأقل حظا، ومن الفتيات تعيسات الحظ، بل ومن الهيئة التدريسية.

 

في كل يوم تزرع رسالة في حقيبته وترفقها بوردة، وتنجح بشكل لافت في ان لا تلفت انتباه أحد، وأن تبقى بعيداً عن الشبهات، تتحدث في رسائلها عن أمور الحياة، وتطلعه على دواخلها، وتناقش معه تصرفاته الطائشة، وترسم له صورة عنه مخالفة لواقعه.

في بداية الأمر، يستخف أمجد بتلك الرسائل وتلك المشاعر، ولكنه مع مرور الوقت يعتاد على نظامه الحياتي الجديد، بل إنه يسابق الزمن حتى يعود إلى غرفته ويفتح حقيبته ويبعثر أشياءها باحثاُ عن تلك الورقة الخفيّة وتلك الوردة التي يتجدد لونها وعبيرها باختلاف فصول السنة، وتجعل ليومه طعماً آخر.

 

كانت هذه الرسائل نافذة له يبصر من خلالها حقيقة ذاته، ويتفهّم من خلالها تصرفاته وهفواته وخيباته، وطبيعة مشاعره.

وكانت لها نافذة تبصر من خلالها النور، وتعبر فيها عن ذاتها، بالطريقة التي لا تجرؤ فيها أن تعبّر عنها في العلن.

وهكذا كانت هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، ولهما، يفهمان من خلالها الحياة بطريقة أخرى، ويغوصان في أعماق ذاتهما أكثر وأكثر.

 

في صبيحة يوم ماطر تتعرض ليلى لمشاكسة رفاق أمجد وهي في طريقها إلى قاعة المحاضرات، يُسقطون حقيبتها ويتقاذفونها فيما بينهم، ويتبادلون الضحكات وهي تجمع أغراضها المبعثرة على الأرض المبللة، تمتد يدٌ مجهولة تعاونها، وحين ترفع عينيها تجد أمجد وهو يجثو على ركبتيه قبالتها، لم تتمالك نفسها من المفاجأة وبقيت يدها معلقة في الهواء، وما ان أكمل أمجد جمع أغراضها حتى توجه إلى رفقائه المشدوهين وانهال عليهم بكلمات التوبيخ والتقريع!

شكرته ليلى على موقفه، وهي تتلعثم خجلاً، مدّ أمجد يده لها قائلاً هل تقبليني صديقاً؟، محاولاً نجدتها من خجلها ورفع الحرج عنها.

ومنذ ذلك اليوم، افترق أمجد عن رفاقه، كانت هذه هي نقطة التحوّل في سلوك أمجد، كانت الشرارة التي طال انتظارها، كي يبدأ عملية التحوّل، من أمجد الأرعن، إلى أمجد المتعاطف والمتفهّم لمشاعره ومشاعر من حوله، كانت هذه الخطوة هي النتيجة الحتمية للرحلة التي خاضها وهو يعيد اكتشاف ذاته عبر رسائل ليلى.

 

وبدأت صفحة جديدة بين أمجد وصديقته الجديدة ليلى، بات يحدثها عن نفسه، وعن أحلامه ورحلته المتخبطة في الحياة، حدثها عن الفتاة الغامضة وعن رسائلها، حدثها عن رحلة اكتشاف الذات التي خاضها، وأخبرها بأن هذه الفتاة هي وحدها التي عرفته على حقيقته، أو بالأصح هي من قادته لفهم ذاته، هي التي أخرجت كل شيء جميل مدفون فيه، وساعدته كي يصبح شخصاً "أفضل"، قال لها بان هذه الرسائل علمته أن من يحب ليس هو الشخص الذي يقبل الآخر بنواقصه وعيوبه فقط، بل هو الشخص الذي يخرج أفضل ما فيه، ويدعوه دوماً لأن يكون جميلاً دون أن يشعر، ودون أن يطلق الأحكام، ويلقي المحاضرات، ويشعره بالنقص أو تأنيب الضمير، ودون أن يحاول تغييره رغماً عنه!

 

كانت سعادة ليلى على اتساعها، مدعاةً للأسى، وباتت تعيش في تناقض شائك لا يخلو من سخرية القدر، فعلى الرغم من سعادتها بكل تلك المشاعر التي يكنّها لها، والشعور بالعرفان والتقدير، إلا أنها في ذات الوقت، تشعر بأن هذه المشاعر لا تعنيها بشيء، بل تخص تلك الفتاة الغامضة السريّة!

تعيش ليلى في تلك الحالة المتناقضة، وتستمر في لعب دور الصديقة، والحبيبة السرية، وكأنهما شخصيتان مستقلتان تماماً!

تستمر في كتابة الرسائل ليلاً، وزرعها خلسة في حقيبته نهاراً، والاستماع إلى أمجد وانطباعاته عن تلك الرسائل، بل واسداء النصح له كصديقة محايدة!

 

سألته ذات يوم، لماذا لا تكتب لها؟ قال لا أجيد الكتابة ولا أعرف ماذا أكتب، قالت اكتب أي شيء يخطر على بالك، أكتب لها ما تقوله لي، ولكن أمجد لم يكتب شيئاً.

استمرت ليلى في خوفها من كشف حقيقتها، وعجزها عن مصارحة أمجد بمشاعرها خوفاً من ان تخسره، واستمر أمجد في الادمان على رسائل الحب، التي باتت المتنفس الوحيد له في هذه الحياة.

 

وفي أحد الأيام، أخبرها أمجد بأنه يريد ان يتكلم معها في موضوع مهم، أخبرني ما الذي حصل؟

 لقد كتبت لها رسالة مساء أمس، ولكني أريد ان أقرأها لك قبل أن أدسها في حقيبتي

تستغرب ليلى بعض الشيء وتشعر في تلك اللحظة بنوبة المتناقضات التي تغشاها كل مساء، تتحامل على نفسها وتقول كلي آذان صاغية!

يقرأ أمجد عليها رسالته التي يطلب فيها من فتاته الغامضة، بأن تتوقف عن الكتابة له، ويشكرها على كل تلك المشاعر الايجابية، وكل ذلك الحب الذي غمرته به، ويوضح لها بأنه قد قرر بأن يعيش واقعه، وأن يعيش حياته الطبيعية، خاتماً رسالته بأن قصة الحب هذه لا بد وأن تترجم إلى الواقع، وأن هذا الحب إذا كُتبت له الحياة فإنه لا بد أن تتقاطع طريقهما يوماً ما، ولا بدّ له أن يتعرّف عليها، وأن يرشده قلبه إليها!

 

اغرورقت عينا ليلى بالدموع، ولم تقو على الكلام، صمت الكون في تلك اللحظة، ولم تعد تسمع سوى شهيقها وزفيرها، تراقب شفتي أمجد وهي تتحرك بلا صوت، وترصد الأشخاص حولها، وكأنهم شخوص مسرحية صامتة!

 

يمسك أمجد بيدها، ويربّت على كتفها، ما بكِ ؟!

تصحو من حالة انعدام الوزن تلك، ترسم ابتسامة على وجنتيها المخضبتين بالدموع، هل هي دموع الفرح، أم ابتسامة الحزن، لا تدري، ولكنها تتوجه بسؤال خارج المألوف، تقول وهي تمدّ يدها له، هل تقبلني رفيقة أبديّة وصديقة صدوقةً لك؟

أدركت ليلى بفطنتها، أنها في اللحظة التي تكشف فيها لأمجد عن شخصية الفتاة الغامضة، سينهار كل شيء بينهما، فاختارت أن تكسب صداقة أمجد، وأن يبقى حبها حبيساً لدفاتر أشعارها!

يقبض أمجد على يدها، ويهزّها بشدة، بل توأم روحي!

في ذلك اليوم تسللت ليلى إلى حقيبة امجد، ولكنها هذه المرة لم تضع رسالةً له، بل التقطت رسالته وزرعتها في حقيبتها، ودسّت آخر وردة قطفتها مكانها، كتذكار أخير!

 

ينهي أمجد وليلى دراستهما الجامعية وينخرطان في حياتهما المهنيّة، ولكنهما لا يفترقان أبداً، يلتقيان ليتبادلا الحديث في كل شيء وأي شيء، يبوحان لبعضهما البعض بكل صغيرة وكبيرة في أعماقهما، وكأنهما نفسٌ واحدة تعيش في جسدين، نُفخت فيهما روح واحدة، لم يعرف أمجد هوية فتاتة السريةُ، كما أن ليلى لم تخبره بمشاعر الحب المترعة في داخلها إلى آخر حياتها، وبقي هو يحنّ إلى حبيبته الأولىى، تلك التي علّمته كيف يُحب!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

1-1-2024