تُكرّم فرنسا اليوم "صامويل باتي" في ذكرى رحيله الأولى، وتستغل المناسبة للتأكيد على "جمهورية" الدولة ومبادىء الحرية الانسانية.
وصاموئيل باتي مُدرّس في المرحلة الثانوية
قام بعرض الصور المسيئة للرسول محمد صلى الله عليه وسلّم على تلاميذه معللاً ذلك
أنه من باب حرية النقد المُصانة بقانون اللائكيّة عام 1905، ثم لقى حتفه على يد
شاب من أصول شيشانية.
لو عدنا إلى التاريخ، لوجدنا ان فكرة مدنيّة
الدولة "اللائكيّة" هي فكرة دينية في الأصل ولا فضل فيها لا لفرنسا ولا
لمفكريها إلا بالنقب عنها وتحديثها.
ففي الانجيل قال عيسى "أعطوا ما
لقيصر لقيصر وما لله لله" وفي القرآن الكريم جاءت عدة نصوص تؤسس
لفكرة الكرامة الانسانية المبنية على حرية المعتقد " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا
بَنِىٓ ءَادَمَ وَحَمَلْنَٰهُمْ فِى ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَرَزَقْنَٰهُم مِّنَ
ٱلطَّيِّبَٰتِ وَفَضَّلْنَٰهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍۢ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا
"
" وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ
فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ "
" إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ
إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً "
مع التشديد على أمرين إثنين الأمر الأول
أن لكل فعل عواقب " فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه * وَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه " وأن الطريقة المثلى للحياة هي باتباع
النهج الرباني العام والاجتهاد في أمور الحياة وتفاصيلها " فَأَقِمْ وَجْهَكَ
لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا
تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ "
فالتاريخ يقول أن الحضارة الغربية أدركت
متأخرة هذه الفضائل والقيم الفلسفية التي جاء بها الاسلام، وقامت بتبنيها وتأسيس
مدارس فكرية تدعو لرفع شأن "الفرد" وحقوق الانسان في مواجهة طغمة الدولة
الحاكمة وفي مواجهة الكنيسة المتحكمة في أركان الدولة، ولم تنجح الحضارة الغربية
بالولوج من نفق الظلم والدمار والدموية والديكتاتورية، إلا بعد إعتناقها هذه المبادىء
الانسانية، التي جاء بها الاسلام من قبل.
فالانسان خُلق حراً حسب النصوص القرآنية
من أجل أداء الرسالة الموكولة له وهي إعمار الأرض، أي أن رسالة الانسان هي
"الحياة" بأم عينها، ومن أجل ذلك كان الانسان حرّا في إرادته وفي
تصرفاته منذ لحظة خلقه. أضف إلى ذلك أن الانسان كائن متعلّم يتسم بالناحية
الأخلاقية وبوسعه أن يتخذ قرارت واعية نابعة من ضميره، ومن هنا اكتسب صفة الكائن
الحضاري القادر على بناء المعرفة واكتسابها من الآخرين أو حتى من الطبيعة وقوانينها
والبناء عليها لتكوين مجتمع يتسم بالثقافة والفنون ويسعى لسعادة البشر، باختصار
"بناء الحضارات". وهذا الفهم توصلت له الحضارة الغربية في القرن الخامس
عشر فقط!
يقول بيك ديللا ميرندول (توفي عام 1494) في (مقالة في كرامة الإنسان) إن الكائن البشري هو
مخلوق بلا مواهب طبيعية، فهو مخلوق عارٍ ليس له فراء يقيه من البرد، ولا مخالب، لا
يستطيع تسلّق الأشجار أو حفر الجحور أو الركض بسرعة مثل باقي المخلوقات ولا يطير
مثل باقي الطيور، ولكنه يمتلك المعرفة والقوة والارادة التي تمكّنه من السيادة على
الطبيعة وذلك بالتحديد لأنه يمتلك الحرية في صنع مصيره بنفسه.
وهذا تفسيرٌ لافت، وإن كان متأخراً لما
قاله تعالى في كتابه العزيز " وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي
جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا
وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ
إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ "
ومن هنا بدأت حركة الفكر الغربي في إعلاء
شأن حرية الفرد في مواجهة نظام الكون والنظام الطبيعي، فالانسان ليس مُلزماً
بالامتثال لأي نظام كوني او طبيعي لأنه حر، ولكي ينجح الانسان في بناء الحضارة
عليه أن يتخلص من كل الأنظمة التي تقوّض مصير هذا المخلوق.
ومن أجل البناء المعرفي السليم، استمرت
الحضارة الغربية في نقد الفكر التقليدي، ووضعه موضع الشك حسب نظرية ديكارت، إذ لا
يمكن للمعرفة الانسانية التطور إلا بناءً على "اليقين المطلق" من فكر
الفرد الخاص، وهنا بدأ الصراع مع السلطة (سلطة الدولة وسلطة الكنيسة) الجاثمة على
صدور الأفراد أو الشعب.
ثم جاءت حركة الاصلاح البروتستانية في
أوروبا لتخليص الدين من الأفكار التقليدية المتوارثة ونسخ كل ما لا يقبله العقل
والمنطق، والقائمة على فكرة أن الدين يجب أن يقبله الفرد في قلبه وعقله في آن
"اليقين المطلق". وتوّجت هذه
الأفكار من خلال الثورة الفرنسية بإعلان مبادىء حقوق الانسان المبنية على فلسفة
جان جاك روسو "العقد الاجتماعي" وكان هذا إعلاناً لفكرة العلمانية أو
المجتمع غير الخاضع للكنيسة.
وهذه هي المبادىء التي قامت عليها فكرة
اللائكية في فرنسا وتوّجت بقانون عام 1905، الذي يشدّد على حق الفرد في الانتماء
الى أي مجموعة يختارها في حين تبقى الدولة بلا دين رسمي وليس لها أن تفرض أي
انتماء على المجتمع الامر الذي سيقود إلى التعايش السلمي بين مختلف الديانات.
ولكن معضلة اللائكيّة الفرنسيّة أنها
تحوّلت إلى "إنتماء" بحد ذاتها، أي أنها أصبحت ديناً جديداً غير خاضعٍ
للعقل أو للمنطق ولا يقبل النقد، وبالتالي أصبحت فرنسا دولة متدينة تفرض انتماءها
على الأفراد، وهذه هي المفارقة الكبرى!!
لقد تحوّلت هذه اللائكية الجميلة إلى
عقيدة استعمارية تُبرّر الاحتلال والقتل والتدمير بحجة نشر "المعرفة وقيم
الحرية"، لقد تحوّلت هذه اللائكيّة إلى سياسات عنصرية تستهدف طائفة بذاتها
وتحرمها من التعايش السلمي وأدنى حقوق حرية المعتقد وحرية الأديان!
وفي حادثة باتي موضوع مقالنا، تحوّلت
اللائكية في أذهان الأفراد بحريتهم وقدرتهم على نقد الأديان والنيل من رموزها
الدينية دون أن تخشى العقاب، بل على العكس من ذلك يتم تكريمهم على أنهم أبطال
الجمهورية!
في الوقت الذي تُكمّم فيه السلطة الحاكمة
أفواه المعارضين والمنتقدين للحكومة ولسياسات الرئيس، وتحدّ من حريات الصحافة،
تفتح الباب لكل من ينتقد الاسلام ورموزه، بحجة العلمانية التي جاءت في الأساس
لحماية حرية المعتقد!!
هذه الاشكالية العلمانية لا تخص فرنسا فقط
وإن كانت واضحة في أجلى صورها هناك، إلا أن عالمنا العربي لا يخلو أيضاً من هذه
المفارقة، فالعلماني ينتقص من دور الأديان ومن رجال الدين، ويدعو إلى نقد التراث
وتجديد الفكر، وهي فكرة بالأساس صحيحة ولا غبار عليها، ولكنه في ذات الوقت يرفض
التعامل مع المتدينين على أنهم جزء من المجتمع ومُكوّن أساسي في الحياة السياسية
والبرلمانية، ويستمر في محاولة شيطنتهم واقصائهم من الحياة السياسية بل ويحاربهم
في نشاطاتهم الاجتماعية والفكريّة، وهو بهذا يناقض نفسه ويناقض فكره الذي يدعو في
الأساس إلى احترام الآخر، وضمان حرية المعتقد!!
صاموئيل باتي لم يكن ضحية الارهاب أو
التطرف الديني بقدر ما كان ضحية التطرف اللائكي العلماني، وهذا ما يدعونا إلى
إعادة التفكير بما آلت إليه مبادىء اللائكية والحرية الانسانية اليوم، فاستمرارنا
في هذا الاتجاه له نتيجة واحدة مؤكدة، هي تعاظم الفردية الانسانوية إلى حد
الانفجار على ذاتها!
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب
ومُدوّن من الأردن
17-10-2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق