سألَتْه هل تشعر بالوحدة؟ قال: أسافر
وحيداً وأكثر من الترحال، ولكني لا أشعر بالوحدة. وأنتِ؟ تنهّدت واسترسلت بالنظر
بعيداً ثم قالت: أشعر بوحدة قاتلة!
كان هذا مشهداً من فيلم Heat رائعة المخرج مايكل مان، وفيه إسقاط لمفارقة
أن تكون وحيداً، وأن تشعر بالوحدة، فالشعور بالوحدة لا يرتبط ضمنياً بان تعيش او
تتنقّل وحيداً، بل هو شعور داخلي يتعاظم بفعل عناصر عديدة. قد تكون موظفاً في
بورصة طوكيو على سبيل المثال أو أحد المشاهير المُحاطين بالمعجبين والمرافقين، ورغم
ذلك تشعر بالوحدة في داخلك!
كنتُ ذات يوم في أحد مقاهي عمّان الغربية،
ورافقني على الطاولة صاحب المقهى. أشار لي إلى احدى طاولات المقهى المليئة بالروّاد
وسألني هل ميّزت احداً منهم، نظرت نحوها ثم أجبته: تقصدُ صاحب نوفوتيه الملابس
المشهور وسط البلد؟ هز رأسه مؤكداً، ثم قال يأتي هنا مساء كل يوم مصحوباً
بالرفقاء، ويكون هو صاحب الدعوة دائماً فسألته باستغراب وما الذي يدفعه إلى فعل
ذلك، تبسّم في وجهي وقال: ليس لديه أصدقاء!
الشعور بالوحدة هو شعور بالخواء الداخلي،
بالفراغ القاتل، هو شعورٌ بانتفاء الغاية والهدف والرسالة، شعور باللاانتماء!
لدى الانسان غريزة أساسية بالانتماء إلى
مجموعة تشترك بمفاهيم وأفكار وقيم وتعمل مع بعضها البعض، وكثيرٌ من الدراسات
الانسانية ركّزت على مفهوم الأنسنة والمجتمعات والعمل الجماعي. خذ على سبيل المثال
العقل الجمعي، وسيكولوجية الجماهير...الخ جميعها تشير إلى ميل البشر بطبيعتهم إلى
تكوين الصداقات والعلاقات المشتركة والتفاعل الايجابي ضمن مجموعات، ومن هنا جاء
مفهوم العشيرة وابن البلد والصداقة والزواج وغيرها. وعندما تنتفي تلك العلاقات
المشتركة او تتعطّل تلك الروابط ولو مؤقتاً يبرز الشعور بالوحدة والغربة، والاستنزاف
العاطفي.
ولعل المفارقة تكمن في أن حياتنا المعاصرة
المنفتحة على العالم الخارجي بفضل تعدد وسائل التواصل الاجتماعي، وتجلّي مفهوم "القرية
الصغيرة" و "السوق العالمية المشتركة" ساعدت بشكل سلبي -على غير المتوقع-
على شعور الأفراد بالسلام الداخلي والشعور بالأمان والثقة بالذات.
لقد انصهرت مفاهيم الذات في مفاهيم أخرى
سائدة وطاغية تدوس على ما عداها ولا تجعل متنفساً للأفراد للتعبير عن ذواتهم او
ممارسة تلك الحميمية في المشاعر والأحاسيس الصادقة. لقد أصبحنا مجموعة من الغرباء
الغارقين في بحر من الظلمات، لا نعرف عن الآخر سوى المظاهر والأشكال الخارجية التي
تطفو على السطح.
وما يزيد من الطين بلّة انه بات من
المستغرب أن يحاول أحدنا كسر ذلك الجمود والتقرّب من الآخر، وكأن ذلك هو المستغرب
والشاذ عن القاعدة لا العكس!
نسكن في مجموعة من المباني جذابة المنظر،
ولكنها خاوية على عروشها، لا يعلم أحدنا عن جاره أو قريبه أو صديقه، سوى رسائل الصباح
والمساء والجمعة المباركة!
نحاول جاهدين كسر الصمت والجمود ولا نجد
في المقابل سوى استجابات خجولة بل ومتشكّكة في نوايانا تجاه بعضنا البعض. لقد
تلاشت مفاهيم التنزه العائلي وقضاء أوقات التسلية مع العائلة الكبيرة ومجموعات
الأصدقاء، بتنا مرهونين بأعباء الحياة، ولا نجد الوقت لأنفسنا، كمن يحاول سرقة
الزمن على غفلة منه!
ولعل أزمة كورونا قد دقّت ناقوس الخطر
فينا جميعا، وأرشدتنا إلى ضرورة التواصل والتكاتف الاجتماعي إلا انها سرعان ما
تلاشت أصداؤها وعدنا إلى عاداتنا القديمة وكان شيئاً لم يكن!
في عالمنا المادي الذي نعيش، طغت المادة
فيه على حياتنا بطريقة لا واعية، فأصبحت أعمالنا أهم بكثير من عائلاتنا وأصدقائنا،
وبات الفرد فينا رهينة لهاتفه "الذكي" وبريده الالكتروني الذي يقتحم
خلوتنا وخصوصياتنا.
في الفترة الأخيرة لاحظت أني وأثناء
تناولي الطعام أو في الوقت الذي أسرقه من يومي لأموري الخاصة، أقوم وبشكل لا إرادي
بتفقد رسائل الواتس وايميلات العمل، بل وحتى ارسال الرسائل وإنجاز أمور العمل!
لقد أصبحت شاشات التلفاز ملاذنا، للهروب
من هذه العُزلة بمشاهدة المباريات الحماسية والأفلام الشيّقة. لم نعد وحيدين في
هذا العالم، نحن كُثُر ولكننا مكبّلون بالشعور بالوحدة!
لست وحيداً، أنا مُحاطٌ بالناس ولدي
أصدقاء كثر، ومعارف على وسائل التواصل الاجتماعي والعالم الافتراضي، ولكني أعترف
باني لا أستطيع الافتكاك من شعوري بالوحدة، أنا في اشتباك دائم مع الوحدة والارهاق
والعزلة. احاول جاهداً ممارسة كل الطقوس الكفيلة بملأ حياتي بكل معاني الحياة،
ولكني ما زلت أشعر بتلك الوحدة القاتلة، والحنين، الحنين إلى الماضي، بل الحنين
إلى ذاتي!.
جاهداً أحاول الاجابة على أسئلة الطفل
الشقيّ في داخلي، فكلما أجبته عن الغاية من مهامي اليومية التي أقوم بها، لاحقني
بسؤال تابع عن الغائيّة ذاتها! أسئلة تبدأ ولا تنتهي، ومعها تبدو كل الغايات
فوضويّة وعبثيّة!.
الوحدة باختصار، هي تلك الفجوة بين حياتنا
الواقعيّة، وتصوّراتنا نحن عن تلك الحياة، أو بالأحرى عمّا يجب أن تكون، فالوحدة
تبدأ من ذواتنا ولا تنتهي إلا إذا أوجدنا التوازن الداخلي بين تصوراتنا حول
"الأنا" وبين الطفل الذي في داخلنا، بين عالمنا الواعي، وذاك الضارب في
أعماق اللاوعي.
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب
ومُدوّن من الأردن
24-11-2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق