نبوءة الحرية
ستةٌ حفروا بأظافرهم نفق الحرية، ستةٌ أثبتوا بالتجربة العملية أن العمل الدؤوب والقصير قادرٌ على صنع المعجزات. ستةٌ أثبتوا أن الأمل باقِ وأن التحرير قادمٌ. ستةٌ أثبتوا أن نهاية النفق المظلم نورٌ ساطعٌ. ستةٌ كسروا المستحيل على شواطئ الإرادة والصمود. ستةٌ حلّقوا بإصرارهم فوق السجون وأمطروا الأرض حريةً وكرامة، وقصفوا بالبرق والرعد سجّانيهم. ستةٌ أثبتوا أن الملعقةَ قادرةٌ أن تنقلب إلى سلاح في يد مقاوم، وأن الأرض على خلاف قرارات الأمم المتحدة تعترف بسيادة أهلها!
في علم الإدارة نقول إن الافعال تتحول الى تصرفات، والتصرفات إلى سلوك، والسلوك يتحول الى عادة، والعادات الناجحة تصبح منجزات. وفي علم الإرادة -لم أخطىء في الاملاء- الذي اخترعه الشعب الفلسطيني فإن الأعمال الصغيرة اليومية قادرة في النهاية على فك الحصار، ونيل الحرية من براثن العدو وعلى تحطيم خرافة الجيش الذي لا يقهر وقلعة السجون الحصينة.
في فن الإرادة الفلسطينية، صنع أبناء غزه من مخلفات القاذفات صواريخ تؤرق مهاجع سجانيهم وأشاوس جيوش العدو. في فن الإرادة الفلسطينيه ورغم الحصار والاستعمار تراجعت نسب الأمية وتبوأ الطلاب أعلى الدرجات في المسابقات العالمية، ورغم كل التجييش ومسلسلات القهر والظلم، مازال الأطفال يحلمون بالمقاومة والرجالُ يتسامرون تحت وابل الرصاص، والفتيات يتفاخرن ببطولات أقرانهن من الشباب، وما زالت الزغاريد تنطلق في جنائز الشهداء. هذا هو فن الإرادة الفلسطينية الذي سيصبح عما قريب مادة تُدرّس في التاريخ.
ما يزال جيش الاحتلال يحاول جاهداً البرهنة على أن الجحيم وظروف المعيشة الصعبة التي يزاولها كل يوم على المواطنين الفلسطينيين وعلى الأسرى في السجون -وكل مواطن فلسطيني في النهاية هو أسيرٌ لهذا الاحتلال- قادرة على ترويض هذا الشعب، قادرةٌ على جعله راغباً في طرح خيار المقاومة أرضاً، وأن يصبح من أشد المطالبين بالسلامة والأمن والأمان، والقبول بالواقع والانبطاح أمام السيل العارم. ولكن كل هذه المحاولات تثبتُ فشلها يوما بعد يوم ليس فشلها بالنسبه للفلسطيني او للعربي فقط، بل فشلها أمام المحتل وأمام العالم أجمع.
تزداد ثقةُ المقاوم بنفسه وبالقضية كل يوم، ويزداد المُطبّع والمُهادن وكل من تنطبق عليه صفة "الأوسلويّون" يزداد خيبةً وانكسارا!
اشهد يا تاريخ أن هولاء الفتية دوّخوا أكثر الأنظمة فاشيةً ونازيةً في التاريخ، وأن هذا الشعب بدون دولة وبدون جيش استطاع أن يسطّر اسم فلسطين والدولة الفلسطينية في كتب التاريخ وفي أروقة دول العالم وأمام النخب الثقافية والسياسيه وفي أذهان الثوار والأحرار في العالم.
لا يضر ما نسمعه من مناوشات إعلامية من هنا وهناك أو محاولات للتقليل من الانجازات وتصوير نتائج أفعال المقاومة وكأنها خسارة للشعب الفلسطيني و للمدنيين الى آخر الأسطوانة المشروخة. جميعنا يعلم بأن للحرية ثمن ولكن من يقولون هذا الكلام لا يفهمون مآل الحرية لانهم دفعوا ثمن عبوديتهم، والثمن كان أنفسهم!
علينا أن نثق بأنفسنا وقدرتنا على النصر، بدون هذه الثقة لن ننتصر وما انتصر هؤلاء الستة الا بهذه الثقة، وما انتصرت غزه من قبل الا بهذه الثقة فعلينا أن نستمر وان نثق بقدرتنا على النصر وبأن هذه الدولة المزعومة هشّة بل هي أقرب للدمار وإلى الفشل أكثر مما نتصور.
وأريد ان استشهد هنا بخلاصة تجربة سيكولوجية، أجريت في الولايات المتحدة في إحدى المدارس الابتدائية حيث قامت مجموعة من الخبراء بزياره إدارة هذه المدرسة، وطلبوا منهم اجراء لقاءات مباشرة وشخصية مع الطلاب لدراسة معدلات الذكاء وقياس قدرات هؤلاء الطلاب على التميزّ والتفوق، وبالفعل قامت المدرسة بالتعاون مع هذه اللجنة. وبعد الانتهاء من مقابلة كل الطلاب على حدة قامت هذه اللجنة بمشاركة تقريرها النهائي وتم اختيار عدد من الطلاب " عشوائيا" ولكن اللجنة أخبرت إدارة المدرسة بأن هؤلاء الطلاب قد حصلوا على أعلى العلامات وأن هذه اللجنة المختصة تؤمن وتؤكد أن هؤلاء الطلاب هم الطلاب المحتملون للتفوق ليس فقط في المدرسة وإنما في المجالات العلمية المستقبلية.
وبعد مشاركة هذه النتائج مع المُدرّسين والفريق الأكاديمي نشأ وبشكل لا واعِ في أذهان جميع المدرسين والمشرفين حقيقةً خفيةً تقول لهم أن هذا الطفل مميز وأن عليك أن تشجعه وتكتشف مواهبه وتحفز قدراته وتساعده على البزوغ، في حين أدّت أيضا وبشكل موازِ الى رسوخ قناعة في أذهان المدرّسين أن بقية الطلاب هم طلاب عاديون وأنه مهما تواجد لديهم من قدرات فان هذه القدرات هي قدرات عادية. وبالتالي بدأ المدرسون التعامل مع هؤلاء الطلاب المختارون بشكل مميز بحيث أن كل سؤال يسألونه حتى وان بدا سخيفا او غبيا كان ذاك المدرس أو المشرف يحاول البحث في أعماق هذا السؤال عن شيء خفيّ متواريِ عن الأنظار ثم البدء بكيل المديح والثناء للطالب، وتشجيعه على الاستمرار، وعلى العكس من ذلك كانوا يجدون في كل الاسئلة التي يسألها الطلاب الآخرون مهما كانت ذكية أنها في النهاية أسئلة عادية أو لربما غبية!
وفي نهايه العام الدراسي كانت المفاجأة بأن هؤلاء الطلاب الذين تم تحديدهم بشكل عشوائي قد تفوّقوا بالفعل وحصلوا على أعلى العلامات والنتائج وكان أداؤهم لافتاً. وبعد نشر نتائج هذه الدراسة تم تبني نظرية "النبوءة التي تحقق ذاتها".
فالانسان قادر على الإيمان بأفكاره أو حتى بالأفكار المزروعة في عقله حتى وإن لم يكن صاحبها، وأن هذا الايمان بشكل او بآخر سيعمل على تحفيز كل الحواس وكل المشاعر من أجل تحقيق هدف واحد، تحقيق هذه النبوءة، ونكون نحن البشر في هذه الحالة المُنفّذ الواعي أو غير الواعي لهذه النبوءة.
أيها المقاومون في كل مكان على أرض فلسطين المقدسة أنتم من تحملون شعلة الحرية في العالم أجمع وليس في العالم العربي فقط، الأنظار موجهة لكم أنتم، أنتم اليوم أمام تحدِ قديمِ متجدد، رفع راية الحرية على أرض فلسطين، أما ما عداكم من البشر، أما نحن جميعا، فبشرٌ "عاديون"!
باسم الفدائيَّ الذي خَلَقَا
مِن جُرْحِهِ شَفَقا
سَنُدمِّرُ الهيكلْ
باسم الفدائيِّ الذي يبدأْ
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
9-9-2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق