لقد نسينا او تناسينا اثناء دراستنا للتاريخ، وفي محاولتنا
التعرف على ماضينا لسبرِ أغوارِ مُستقبلنا، أن أبطال هذه القصص التاريخية التي
نقرأها هم بشرٌ مثلنا، وأن من صنع كل تلك الانجازات التي استحقت أن تُوثّق وتدخل
التاريخ هم أناس حقيقيون لا يختلفون عنا كثيراً، هم ليسوا شخصيات وهمية وهم
بالتأكيد ليسوا أبطالاً خارقين. وأستطعنا بعد عناءٍ طويل أن نكتشف الحقيقة التي
تاهت منا وهي أن مهمتنا الأساسية في هذه الحياة هي أن نصنع التاريخ لا أن نقرأه !!
يقول الله تعالى
في كتابه العزيز: (وَقُلِ
اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ)
في مدارسنا الابتدائية تعلمنا كيف نقرأ، وحَفِظنا قصص التاريخ
وسيرة الصحابة، وقصص الأندلس وأسماء عُظمائنا، ولكننا لم نتعلم كيف نصنع الحدث،
ولم نتعلم أن مهمتنا الأساسية في هذه الحياة هي التغيير، وصناعة التاريخ !!
عندما
هبت رياحُ التغيير في عالمنا العربي عبر الثوراتِ الشعبيةِ المتلاحقة، لم نُصدق
أننا انتقلنا من مرحلةِ قراءةِ التاريخ الى مرحلةِ صُنع التاريخ !! واختلطت الأمور
وتعالت الأصوات بنظرية المؤامرة وبخططٍ استعماريةٍ
جديدةٍ تلُف المنطقة .
ارتبكت
فئة كبيرة من مثقفينا الذين امضوا عمرهم بالتنظير علينا، واسقاط الشواهد التاريخية
على واقعنا، فانكفأت هذه الفئة على نفسها ولم تعترف بواقع التغيير الحقيقي الحاصل
على الأرض .
هذه الفئة
التي فشلت في التغيير وفشلت في كل شيء عدا التنظير والنقد والمعارضة من أجل
المعارضة فقط، وجدت نفسها خارج اللعبة وخارج اطار الزمن، فأفكارها التي تحملها
اصبحت بالية، وتأثيرُها على الشارع العربي أصبح معدوماً، فما كان منها الا أن
عادَت الثورة واختارت ان تستمر في عملها التي لا تتقن غيره، التنظير والنقد
والاعتراض على كل شيء !!!
أما على
أرض الواقع، فما زال الشعب العربي يصنع تاريخه الحاضر، ويُعيد صياغةَ كل القواعد
السياسية التي تعلمناها، وخلال هذا الأسبوع، سطّر المصريون بأنفسهم أجمل وأرقى صور
الرُقيّ والحضارة بانتخابهم لأحد المعارضين السياسيين لمنصب رئاسة الجمهورية، وأحد
أعضاء "الجماعة" المحظورة سابقاً، ليكون أولَ رئيسٍ مدنيٍ للبلاد،
الدكتور محمد مرسي الذي انتقل من غور الاعتقال وضيق السجن و غلاظة التحقيق الى قصر
الرئاسة .
أثبتَ
الشعب المصري مرةً أخرى قُدرَتهُ على التمييز بين الحق والباطل، وبين الاعلام الحر
والاعلام المُسيّس، لقد اختار الشعبُ المصري هذه المرة ان يكتب التاريخ بنفسه، بعد
أن أمضى عمره على هامش التاريخ يسمع ويُطيع، يقرأ الجريدة ويشرب الشيشة على
المقاهي ويردد بينه وبين نفسه "ما فيش فايدة" !!!
لقد قرر هذا
الشعب أن ينتقل من هوامش التاريخ، ومن بين السطور، الى صدر التاريخ، ليكتب على
أولِ سطرٍ في كتاب التاريخ الجديد لعالمنا العربي "مصر حرة". الشعب المصري وضع القواعد الأساسية لبناء دولته المدنية الجديدة، وهو
ماض في طريقه بثبات واستقرار، ولن يعود ابداً الى زمن تأليه الرئيس أوالى عهد
الحزب الحاكم .
عندما
انتُخِبَ نيلسون مانديلا كأول رئيسٍ أسودٍ لدولة جنوب افريقيا عام 1994، لم نُصدّق
أن أعمال العنف العنصرية التي اجتاحت البلاد يمكن لها أن تتوقف، ولم نُصدّق أن
رجلاً يُمضي ثمانيةً وعشرينَ عاماً في زنزانة حُدودها مترٌ ونصف في مترين، سيُطلق
سراحه من حُكمه المؤبد ليترأس البلاد بعد ذلك عبر انتخابات حرة، ولم نصدق أن
الأفارقة السود سيغفرون للأقلية البيضاء جميع سياساتهم العنصرية السابقة، ولكن هذا
بالفعل ما حصل، لقد أتّحد الشعبان الأبيض والأسود في بوتقة واحدة، ورموا خلفهم
جميع الاختلافات العنصرية والطبقية !!
لم نكن لنُصدق
ما حصل، لأننا تربينا على قِصَصِ الفشل ونظريات المؤامرة، لقد كان هذا السيناريو
أقرب الى نظرية المؤامرة في عُرفنا نحنُ، شعوب العالم العربي !! أو لأحدى قصص ألف
ليلة وليلة .
وعندما
انتُخِبَ باراك اوباما كأول رئيسٍ أسودٍ للولايات المتحدة، وقفنا مذهولين لقُدرة
الشعب الامريكي على الانصهار في بوتقةٍ واحدةٍ هي بوتقة الوطن، تفاجئنا وصُدِمنا
من تصويت الأغلبية من الانجلواميركان لامريكي من أصل أفريقي، عانى أجدادهُ
العبوديةَ بأسوأ صُورها في هذا البلد، لقد تخلّى الناخبُ الأبيض عن جميع عُقَدِه
العنصرية، واختار بارادته الحرّة أن يحكمهُ رجلٌ أسود، لم يكن أجدادُ هذا الناخب
يقبلون أن يُشاطرهم مائدةَ الطعام !!
من قرأ
رواية “Roots” أو شاهد المسلسل الشهير
في السبعينات، لم يكن ليُصدّق أن التاريخ سيشهد بعد ربع قرن، وصول أحد أحفاد
"كونتا كنتي" الى أعلى منصب سياسي في البلاد !!
نعم، أنه
التاريخ ايها السادة يُكتَبُ من جديد، ولنا أن نختار اما أن نشارك في كتابته
واعادة صياغته من جديد، واما أن نتخندق خلف شعاراتٍ مزيّفةٍ وادعاءاتٍ باطلة،
ونستمر في حياتنا العبثية التي نحياها.
نحنُ
أمام خيارين لا ثالثَ لهما، اما أن نكتب التاريخ، أو نُمارس هواية القراءة، فنقرأ
ما يكتبه الآخرون !!!
أيمن أبولبن
28-6-2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق