على عتبة العام الجديد ، أجدني مشدوداً لا الى أحلام وأمنيات العام القادم ، ولكني على النقيض من ذلك أجدني أحن الى ذكريات ما مر من الزمن الجميل. بالإمس القريب كنت أداعب أحلام الطفولة ، غير عابثٍ بما هو آت ،ولا مكترث بهموم الدنيا من حولي ، وما تحمله الأرض من مآسي ، بالأمس القريب كنت أترقب موعد عيد ميلادي ، لا لجمال الحدث نفسه او تفرده بشيٍٕ مميز ، ولكن لكشف خفايا الهدايا التي سأتلقاها . لا أذكر أني تلقيت هدايا قيّمة في صغري ، ولكني كنت سعيداً جداً بكل هدية ، وبخاصة ذلك المسدس الضخم والحزام الجلدي الخاص به ، و الذي كنت ألفه على خصري و أضع فيه الطلقات ، تماما كما في أفلام الكاوبوي .
لم أعد أنتظر أعياد ميلادي الآن ، بل وكأنها بدأت تصبح مزعجة ، وحدها زوجتي تذكُرني وتجلب لي الهدايا ، لا أدري لماذا تنهال علي كل تلك الذكريات ،الآن ، وعلى أعتاب العام الجديد ، بدلاً من إطلاق العنان لأحلامي والتفكير بما هو جديد .
قريبةٌ جداً مني تلك الذكريات التي تخص أول أيام إلتحاقي بالمدرسة الابتدائية ، وأول اختلاطٍ فعلي ببيئة خارجية ، خارج إطار العائلة واصدقاء الطفولة ، كم كان المشهدُ مرعباً لي في أول أيامي الدراسية ، جموعٌ من الطلاب ، جرسُ الطابور الصباحي و الحصة الأولى ، صراخٌ وتأنيب من المعلمين ، ضبط ونظام ، غرف مدرسية مكتظة ومعلمٌ يلوح بالعصا ، لم أستطع تحمل إكمال الحصة الاولى ، وانفجرت بالبكاء ، الصدمةُ والرعب ، هذا هو الوصف الذي يليق في هذا المقام ، بما أحمله من ذكريات لذلك اليوم .
اياماً واسابيع قضيتها هارباً من المدرسة ، ومصراً على عدم العودة رغم الترغيب والترهيب ، والتهديد ، والعقاب المتنوع بكافة الاشكال _والافعال بالطبع _ من الوالد رحمة الله عليه ، غير أني ولغاية الآن لا أدرك كيف عدت ، وكيف استطعت العودة والإندماج من جديد ، بل وعشق المدرسة والمدرسين والدراسة ، وزملائي الطلاب ، ما الذي دفعني لهذا ؟ وكيف استطعت ذلك ، لست أدري ولكن يبدو أنه رحمةٌ من الخالق بأبي ، ليس الا .
بالأمس القريب هبت على مسامعي " وعودٌ من العاصفة" بصوت مطربٍ رومانسي ساحر يغني للثورة ، مارسيل خليفة ، وبأشعار شاعر الوطن محمود درويش ، وتوالت بعدها أغاني الوطن ، ما زلت أذكر كم بكيت حنيناً الى خبز أمي ، رغم أن خبزها كان يأتيني كلَّ يوم ، إلا ان سماع تلك الأغنية او تلك القصيدة ، كان وما يزال يبكيني ، هل حقاً كل هذه الاعوام مضت عليّ ، ما زلت أذكر المسجّل القديم وألوان أشرطة الكاسيت ، وغرفتنا أنا واخوتي ، وذلك الشباك الذي يطل على الشارع الخلفي ، كنا نجلس على شرفته مساءً ، ونستمتع بصمتِ الوجود ، وبصخابة ما يتدفق فينا من مشاعر ، وأفكار وخواطر وأحلاما كبيرة ، انتظارنا في المطار لعودة الأخ الأكبر حاملاً شهادة الطب ،اجتماعنا في ليلةِ شتاء حول صوبة البواري ، كأس شاي مع صحن من البزر الساخن والمحمص للتوّ ، والجلوس حول التلفاز لمشاهدة احدى المسرحيات الشهيرة ، او أحد المسلسلات الأجنبية على قنال 6 ، صوت الراديو يصدح بأغاني الطرب الاصيل ، أم كلثوم وعبدالحليم ، وغيرهم.
ماذا بقي لنا من حنينٍ لخبز أمهاتنا !!؟؟ ولذلك الاجتماع العائلي ، وتلك الحميمية الرائعة .
كنتُ مشدوداً وفخوراً بالثورة الفلسطينية ، وبشخصية أبو عمار ، وبتلك الكوفية ، أذكر الإجتياح الاسرائيلي على لبنان اوائل الثمانينات وفظاعات هذه الحرب الاولى التي أعايشها ، وبالرغم من صعوبة ما تحمله ذكريات أول حرب تمر على أي انسان، الا أني كنتُ سعيداً ، وسعيداً جداً ، كنت فخوراً بأني أنتمي لهذا الشعب الثائر ، وأني أحد أبناء هذه القضية ، كنت فخوراً عندما عايشت الحدث ، وأخبار المتطوعين للانضمام لقوات الثورة في حربها ضد العدوان الاسرائيلي ، كنت فخورا بأننا وطنيون ، وبأننا ما زلنا نقاوم وأننا أبناء قضية ، وأننا نضحي دون أن نقيم وزناً للمنطق وللحسابات وللعقلانية و " التكتيك".
هل ما زال عندنا حلمُ وطنٍ حقاً ، وهل ما زلنا وطنيون ، أين هي تلك القضية ، ومن يحمل همّها !!؟؟؟ هل سنعيش لنرى هذا الحلم يتحقق ؟ ام أنه حلمٌ ولد معنا ويموت معنا ، هل حقاً "سنرجع يوماً الى حيّنا" ؟
كم أفتقد تلك العلاقة التي كانت تربط أبناء عائلتنا الكبيرة ، اولاداً وبناتاً ، تلك الايام والليالي التي قضيناها معاً ، البيوت التي جمعتنا ، الأرض التي افترشناها ، والسماء التي أظلتنا ، والنجوم التي سهرنا نطالعها ونعدُّها ، مستلقين على العشب الأخضر ، في ليلة بدرٍ مضيئة .
كم يكاد يكون قريباً ذلك اليوم الذي أنهيت فيه دراستي الثانوية ، تلك الأحلام الوردية التي كنت أحملها ، احلامُ شاب في فورة شبابه وعنفوانه ، مقدمٌ على الحياة يريد أن يغتنمها ، ما زالت تلك المرحلة تأسرني ، بحلوها ومرها ، رغم الإنكسار وتبددِ الأحلام ، ثم النهوض مرةً اخرى ، وبدء الصراع من جديد . وبرغم كل شيء ، إلا أن مرحلة الشباب والنضوج ، ما زالت تأسرني ، بما أحمله من ذكريات جميلة ، صبغت تلك المرحلة : أصدقاء جدد ، ثقافة جديدة ، صداقات مع المدرسين انفسهم ، الشعور بالقبول والتقدير ممن حولي ، تكوين ثقافاتي الداخلية وتوسيع مداركي ، وأهم نتائجها أني أصبحت أنا ، كما أردت .
العشق الاول ، والعشق الاخير ، وما بينهما ، أول العشق ، و أخر العشق ، وما بينهما ، أول نظرة إعجاب ، وأول إطراء ، أول كلمة حب ، الرسالةُ الأولى ، لهفةُ إنتظار ساعي البريد ، قطعةٌ من النقود أعطيها للساعي ، شاكراً له على ما يحمله لي ، كانت تعني له رسالةً يوصلها إلى صاحبها بشكل روتيني عادي ، وكانت بالنسبة لي التعويذة التي أنتظرها بشوق ، أول محادثةٍ هاتفية ، الموعد الأول ، وأول لقاء ، واللقاء الاخير ، ذلك الذي أدماني !!
أول يومٍ في الوظيفة ، ألشعور بالرجولة ، أول هندامٍ رسمي أرتديه ، أول ربطة عنق أنيقة ، وأول عطر رجالي ثمين أشتريه ، أول راتب أحصل عليه ، وبدايةُ الأحلام السعيدة بتكوين الذات ، وبناء المستقبل .
كلُّ عام كان يمرُ عليّ كنت فيه أسعد من ذي قبل ، لأنه كان يقربني من أحلامي ، ويجعلها ممكنة ، متأخراً أدركت أن السعادة ليست محطة نصلُها ، بتسارع السنين ، السعادة هي الحياة التي نعيشها ، هي الطريق الى السعادة ، ذلك ما يجعلنا سعداء ، تلك السنين التي تمضي ، تمضي من أعمارنا ، ورقة تصفرُّ وتسقط من شجرة أعمارنا ، ونحن نحتفل بسقوطها متناسين ذلك، زاهينَ بالعام الجديد .
وبين ليلة وضحاها ، ها أنا هنا ، بعيدٌ عن وطني ، مغتربٌ في بلاد الغربة ، معي كل ما أملك الآن من هذه الدنيا ، زوجةٌ محبّةٌ وطفلين مميزين أنعم الله بهم علي ، على أعتاب عامٍ جديد ، أحتفل ببداية صفحة اخرى ، وأحلم وأتمنى …………. ، ولكن ما عادت الأمنيات تخصني ، ولا تمت إلى تلك الأحلام الوردية التي كانت تراودني بصِلة ، أصبحت أعيشُ لاهدافٍ أخرى ، أصبحت أشعر أن وجودي هو لإسعاد من حولي ، وهدفي أن أجعل الحياة افضل ، بما أستطيع ان أحققه لهم ،أما أحلامي أنا ، ما أتمناه أنا ، ………… أظن انه لو قدر لي أن اتمنى شيئاً في هذا العام الجديد ، لي أنا ، لتمنيت أن يعود بي الزمنُ الى ذلك الماضي الجميل ، الى طفولتي ، الى شبابي ، الى عنفواني وإنطلاقي ، لأعيد احياء تلك الذكريات ، وصياغتها من جديد ، أشعر أن الزمن قد سلبني عمري ، على غفلةٍ مني ولمّا أكتفي منه بعد .
أيمن أبولبن
30/12/2009
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق