السبت، 25 أبريل 2020

*آيات استوقفتني (الجزء الرابع)*

*آيات استوقفتني (الجزء الرابع)*

نستمر بإذن الله تعالى في استكمال مشروع "آيات استوقفتني" في عامه الرابع.
ولمن فاته الموضوع نقول باختصار إن فكرة هذا العمل، هي إلقاء الضوء على مجموعة من الآيات القرآنية والتفكّر فيها، للخروج بفهم جديد أو التركيز على دلالة خافية، من خلال التفكّر والبحث وإعادة القراءة خلال الشهر الفضيل. برجاء التوفيق من الله.
 علماً بأن ما يرد في هذه المواضيع، هو مجموعة من الاجتهادات الشخصية النابعة من البحث والمتابعة للعديد من المؤلفات والكتب المختصة، على مدار سنوات طويلة، وهي بالتأكيد محاولة تحتمل الصواب والخطأ.

أتمنى عليكم مشاركة أفكاركم والتفاعل مع الموضوعات، مع حرية مشاركتها أيضاً مع أصدقائكم.
ومن أجل الفائدة هذا الرابط يحتوي جميع مشاركات الأعوام الثلاثة الماضية.





وكل عام وأنتم وأحبابكم بألف خير

وقبل أن نشرع في استعراض الآيات، أود استرجاع بعض الركائز الأساسية لمنهجية القراءة المعاصرة لكتاب الله عز وجل، والتي تناولناها في الأعوام الماضية، وهي المنهجية التي نعتمد عليها في بحثنا هذا:

1.     *عدم استخدام الترادف*، بمعنى أن الله عز وجل استخدم كل مفردة للدلالة على معنى خاص لا يتم إلا باستخدام تلك المفردة، وإن أي تشابه في المعنى بين مفردات الكتاب يجب أن يزول حتى يستبين المعنى السليم للآية ومراد الله منها.

على سبيل المثال *الوالد غير الأب، والرسول غير النبي، والصلاة غير الصلوة، والعباد ليسوا العبيد، والقول غير النطق* والأمثلة كثيرة، حيث يتم استخدام كل كلمة في مكانها المناسب لتدل على معنى خاص.
ملاحظة: لا يشترط ان يكون المعنى متقاطعاً أو مختلفاً بين الكلمتين، بل عادةً ما يحمل دلالة مشتركةً فعلى سبيل المثال الصلاة هي دوام الصلة بين العبد والله من حيث الذكر واستذكار الوصايا ..الخ، في حين جاءت الصلوة للدلالة على شعيرة الصلاة الحركية، وهنا يتضح ان الصلاة ذات دلالة عامة، بينما الصلوة لها دلالة خاصة.

2.     "ثبات النص وحركة المحتوى"، بمعنى أن النص القرآني (الثابت في نصّه) قادر على احتواء تراكم المعرفة البشرية وتطور العلوم. ولهذا اهمية كبيرة في عدم تحديد النص القرآني بفهم عصر التنزيل وإقفال باب الاجتهاد فيه.

3.     *عدم وجود إطناب وحشو زائد*، على عكس الأدب والشعر الجاهلي، فلكل كلمة فائدة وإضافة للمعنى بحيث لا يكتمل فهمنا او تفسيرنا للآية دون أخذنا بالاعتبار لكل كلمة وليس للمعنى العام فقط، وهذا يعني بالضرورة أننا إذا حذفنا كلمة ولم يتغير فهمنا او تفسيرنا للآية فذلك يعني قصوراً في فهم تلك الآية.

4.     *انسجام كلام الله وعدم وجود اضطراب في المعنى*، فحيثما وجد اشتباه في تعارض الآيات، يكون ذلك دليلاً على مشكلة في الفهم، وهذه المشكلة هي التي أدّت بالقول إلى وجود نسخ في آيات القرآن.

5.     *صلاحية الكتاب لكل زمان ومكان وأنه رسالة عالمية أبدية*، لهذا علينا حين نفسر القرآن ان لا نضع إطاراً زمكانياً أو موضوعياً يقيّد من فهمنا، وبناء عليه فإن محاولة قصر فهمنا للآيات بناء على مناسبات النزول سيؤدي الى فهم ناقص وعاجز عن استيعاب التغيرات المعرفية.

ملاحظة: استخدمت كتب التراث مصطلح أسباب النزول، وهو مصطلح خاطئ والصحيح مناسبة النزول، حيث ترافق نزول بعض الآيات مناسبة معينة ولكنها ليست سبباً للنزول.

6.     *فهم الآيات من خلال سياق النص الكلي*، حيث أن سلخ آية أو جزء منها عن النص ومحاولة تفسيرها أو استنباط المعنى المجزوء، سيؤدي الى فهم خاطئ، حيث أن ترتيب سور وآيات القرآن الكريم جاء من عند الله تعالى، وهو وقف لا يجوز تجاهله او محاولة تفسير الآيات جزئياً.
وهذا يفيد أيضاً بأن أي محاولة لفهم الآيات بناء على ترتيب النزول التاريخي، هي محاولة محكوم عليها بالفهم الخاطئ.

7.     *كتاب الله يفسّر بعضه بعضاً*، إن فهم القرآن ينبع من التبحّر في داخله والقراءة المتأنيّة بنيّة التدبّر وعرض بعض الآيات على البعض الآخر لمقاربة الفهم وإزالة الشك، وإن فهم قواعد الخطاب القرآني ككل، والأسلوب اللغوي، هو شرط لفهم آيات الكتاب.

وعطفاً على هذا القول، فإننا نقول إن محاولة فهم مجموعة من الآيات أو موضوع معين في الكتاب إعتماداً على البحث بالكلمات الدلالية في القرآن، دون أن يكون الشخص ملماً بفهم القواعد الكليّة للقرآن الكريم، ودون أن يكون باحثاً ومطلعاً على كامل القرآن هي محاولة ستؤول إلى فهم مشوّش وناقص بالتأكيد.

ودائماً ما أعلق على هذه المحاولات بالقول، إذا كان الكاتب في مجالات الأدب والفن أو العلوم أو التاريخ، يفقد مصداقيته حينما يكتب عن كتاب لم يقرأه شخصياً بالكامل ويستوعب كل فصوله وأفكاره، او عندما يقوم بتحليل عمل فني لم يشاهده بنفسه، فما بالكم بكتاب الله عز وجل!

ونبدأ إن شاء الله تعالى بدءاً من يوم الغد، بأولى الوقفات التدبريّة مع التنزيل الحكيم.

أيمن يوسف أبولبن
25-4-2020



 

*آيات استوقفتني 4 (1) الدين القيّم*

 

((فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)) سورة الروم  (30)

 

بدايةً نقول إن كلمة القيّم جاءت من القيّوميّة والتقويم، أي القائم على شؤون الناس والمقوّم لسلوكها، ومن هنا وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بأنه (الحيّ القيّوم).

 

لذا كان من الضروري أن يتصف دين الله (وهو الاسلام العام الشامل لكافة الرسالات السماوية) بأنه دين قيّم أي أنه يوجه الإنسان في حياته إلى الصلاح من خلال بيانه وإرشاده إلى القيم الإنسانيّة وحثّه عليها، ودعوته للاستقامة من خلال مبدأ الحنيفية وهي القابلية للاعتدال والتكيّف حسب الظروف المتغيّرة (وجود هامش للحرية والاجتهاد في التطبيق) فهو ليس ديناً جامداً بل دين يسير قابل للتطبيق في كل زمان ومكان.

 

 (( ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان * إن الحُكم إلا لله* أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكن أكثر الناس لا يعلمون)). سورة يوسف 40

 

وهنا جاءت مفردة القيّم مرتبطة بالعبادية لله كي يجعل الدين قيّما على الناس من خلال هذه العباديّة، لأنها تدعوهم إلى التحرر من كل أنواع العبودية للآخر، ومن أي خضوع للضغوط والإكراهات المنافية للفطرة السليمة ولمجموعة القيم الانسانية، على أن يتوّج هذا كله بالتوجه إلى الله "طواعية" والالتزام بالقيم الإنسانية وعلى رأسها قيمة الحرية المسؤولة، أي حرية الاختيار وحرية الاعتقاد.

 

((إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ۚ َٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ۚ َلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ ۚ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ الله مَعَ الْمُتَّقِينَ)) سورة التوبة (36)

 

وهنا تم ربط مفردة القيّم بعدم ظلم النفس أو ظلم الآخرين، ولا يتم ذلك إلا من خلال التحلي بالضمير الإنساني المسؤول بالتمسك بالقيم الإنسانية والعمل الصالح.

ومن الملاحظ كيف أن هذه الآيات كانت تُختم ب (ولكن أكثر الناس لا يعلمون) وهذه في الحقيقة ما تستدعي الوقوف والتأمل عندها مليّاً، إذا ان أكثر الناس لا يعلمون أنهم باتباعهم لارشادات هذا الدين وأداء الواجبات من عبادة وإيمان وعمل صالح والتزام بالقيم الانسانية، يكونون بذلك قد تحرّروا من كافة أشكال العبودية والاملاءات المنافية للقيم الانسانية، ويكونون بذلك قد حققوا حكم الله على الأرض، وهو دين غير مُعجز ولا يتطلب استثناءات إعجازية، ولا يتنافى مع الفطرة السليمة، بل إنه يتفهم غرائز النفس البشرية ويقنّنها ويعطي للبشر هامشاً كبيراً للحرية في قضاء شؤون حياتهم.

 

وهكذا فإن البشر جميعهم لو حكّموا فطرتهم السليمة واتبعوا الرسالات السماوية وما جاء بها من قيم انسانية وسمات للتعايش المشترك، وألتزموا بتوحيد الله والعبودية له دون أي وسيط أو شريك، يكونون بذلك قد حققوا شروط القيومية وحكم الله على الأرض.

 

*الخلاصة: أكثر الناس لا يدركون  الحكمة من اتباع دين الله وانعكاس ذلك على صلاح شؤون حياتهم وحياة المجتمعات، فالدين ليس أفيوناً للشعوب للتخلص من إحباطات الحياة، وليس وعداً وأمنيات آجلة، بل هو سبيل لإتقان فن العيش والتمتع بجودة الحياة، من خلال الروحانيّات التي تُهذّب النفس، والإيمان الذي يحث على العمل الصالح والعمل الايجابي في المجتمع، ونُصرة الحق، ولكن أكثر الناس لا يعلمون!*.

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

29-4-2020

 

#آيات_استوقفتني #الدين_القيّم


*آيات استوقفتني 4 (2) بداية عهد النبوة*

 

((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ )) سورة العلق

 

هذه هي أولى الآيات التي نزلت على قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ويصح القول إنها أولى آيات النبوّة (القرآن).

ومن أجل فهم هذه الآيات التي أُستهل بها التنزيل الحكيم، ينبغي علينا استيعاب الحالة العامة للعرب ولسيدنا محمد قبل النبوة، والتي يمكن تلخيصها بما يلي:

 

كانت هناك حالة ضياع للهوية القومية العربية وسط التحديات السياسية القائمة في الجزيرة العربية بالاضافة إلى الكثير من الآفات الاجتماعية التي تدمر المجتمع، في ظل أزمة المعتقد.

ومن الجدير بالقول إن عدداً من الملتزمين برسالة سيدنا إبراهيم وما يطلق عليهم (الأحناف) كانوا في حالة صراع كذلك مع المجتمع في مكة، وقد أبدوا رفضهم للممارسات الوثنية والانحراف عن تعاليم سيدنا إبراهيم، وعلى رأسهم (زيد بن عمرو بن نفيل)، الذي عاصر سيدنا محمد ولكنه توفي قبل البعثة، إضافة إلى عدد من الأحناف الذين تحوّلوا من الحنيفية إلى  النصرانية في إطار سعيهم لمعرفة حقيقة الكون والخالق.

 

هذا الواقع الذي شهد أزمة المعتقد وأزمة الهوية، والظلم الاجتماعي هو ما دفع سيدنا محمد لعملية البحث والتأمل من خلال الخلوة والاعتكاف في غار حراء من أجل التفكّر في الخالق والغاية من الخلق.

 

ومن خلال التأمل في هذه الآيات الأوائل نجد أنها جاءت استجابة لهذا الواقع، وتوجيه النبي إلى الايمان بالله الواحد الأحد، الذي تكفّل بدوره بالاجابة عن كل الأسئلة التي تدور في خلد سيدنا محمد وغيره من الباحثين عن الحقيقة.

في هذه الآيات أيضاً حثٌ مباشر (ومبكّر) على التدوين (إقرأ، علّم بالقلم) في ظل مجتمع يعتمد على الشفاهية ويملك موروثا دينيا وثقافيا يعتمد في الأصل علىى النقل، في حين أن عدد الذين يعرفون القراءة والكتابة لا يتعدى العشرات.

كما نلاحظ عطف كلمة الرب على شخص سيدنا محمد، (ربك) لإضافة الألفة والقرب، كما تأتي صفة (وربك الأكرم) أي أكرم الأكرمين، زيادة في التطمين ولإعلاء شأن سيدنا محمد.

 

هذه الآيات تلتها في المرة الثانية لزيارة الوحي آيات سورة المدّثر:

 

((يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ)) المدّثر

 

وهنا كانت النقلة التالية وهي (الدعوة أو الإنذار) حيث يمكن القول إن هذه الآيات هي أولى آيات الرسالة (الكتاب) وبدىء عصر الرسالة، فيما كانت الآيات الأولى السابقة هي أولى آيات القرآن (النبوّة).

ومع هذه الآيات بدأ التكليف للرسول صلى الله عليه وسلّم بالدعوة (قم فأنذر) والتكليف بتعظيم الذات الآلهية فوق كل الأرباب الأخرى (وربك فكبر) وتهذيب النفس وطهارة البدن ونبذ مظاهر الوثنية (وثيابك فطهر*والرجز فاهجر)، والاستعداد لمستقبل الدعوة والتكاليف التي ستكون ثقيلة على النفس (ولا تمنن تستكثر) والدعوة إلى الصبر على قادم التكاليف والممانعة التي سيلاقيها من قومه (ولربك فاصبر).

 

إذاً بدأت الدعوة بتكاليف خاصة لسيدنا محمد يمكن إجمالها في الإيمان بالخالق وطهارة النفس والبدن. ومن المعلوم ان الاهتمام بالمظهر ونظافة البدن من سمات التميز والرفعة في المجتمع، فالمسلم ليس ذليلاً  أو مُهمِلاً في شؤونه الخاصة.

وهذه التكاليف كانت تهدف في الأساس إلى تهيئة سيدنا محمد لحمل مسؤولية التبليغ وإقامة الأحكام الشرعية وتأسيس الدولة وتهدف في الوقت ذاته إلى تنشئة جيل من المؤمنين القادرين على حمل الرسالة والقيام بتكاليفها.

لذا نلاحظ ان التنزيل الحكيم قد راعى التدرّج في الأحكام وأن التكاليف الفعلية بدأت بعد مرحلة الهجرة وتأسيس الدولة، ومن هنا كان الاختلاف واضحاً بين التنزيل الحكيم قبل الهجرة (الايمان، الدعوة والإنذار، والتهيئة للتكاليف) والتنزيل الحكيم بعد الهجرة الذي أرسى قواعد التكاليف والعبادات والمعاملات.

 

وإن كان المفسرون القدامى قد ميّزوا بين المكّي والمدني من حيث الفارق التاريخي الذي أحدثته الهجرة، وبينوا خصائص الخطاب في كل منهما، إلا ان التمييز في المواضيع وفصل النبوة عن الرسالة والقرآن عن الكتاب لم يتم التطرق إليه إلا حديثاً من المفكرين الذين اجتهدوا في مجال تطوير الخطاب الديني، إذ أن مواضيع التنزيل الحكيم يمكن فصلها بناءً على البنية الموضوعية للخطاب الآلهي وبناءً على المُخاطب، مع ملاحظة أن هذه المواضيع لا تُحّددها واقعة الهجرة أو تميزها عن بعضها ، وإن كانت الهجرة فاصلاً زمنياً لبدء التشريع وتنظيم المجتمع.

 

 

أيمن يوسف أبولبن

1-5-2020

 

#الكتاب #القرآن

 


*آيات استوقفتني 4 (3) اليوم أكملت لكم دينكم*

 

((الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا))

المائدة 3

 

يمكن القول إن الكتاب (الرسالة) قد تم ختمه بالآية الكريمة (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً) التي نزلت في حجّة الوداع وهي من أعظم الآيات إذ أنها تضمنت إعلاناً إلهياً بكمال الدين وانتهاء عصر التشريع السماوي.

 

 وكان من الطبيعي بعد كمال الدين ألاّ يكون هناك أي تشريع جديد وإلا لكان ذلك تناقضاً مع الآية المذكورة، التي أعلنت نهاية الرسالة في لحظة تنزيلها وأن الدين قد اكتمل وهو بهذا الكمال أصبح الدين الذي يرضاه الله لنا. فهل هناك تناقض في هذا الفهم إذا ما علمنا ان هذه الآية لم تكن آخر آية في التنزيل؟

 

قبل أن نجيب على هذا السؤال، دعونا نوضح الفرق بين الكمال والتمام.

 

((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ))  البقرة 185

 

أباح الله سبحانه وتعالى للمعذورين شرعاً إكمال صيامهم بعد انتهاء شهر رمضان، كي يكملوا عدة الصيام بعدد أيام شهر رمضان، وبهذا يكون كمال أو اكتمال العدّة ولكن "بعد انقطاع".

 

 ((فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ)) البقرة (196)

 

وكذلك في الحج، يتم صيام عشرة أيام متقطعات (فدية عن الأضحية)، ثلاثة في الحج، وسبعة بعد الرجوع إلى مكان الاقامة، وبهذا يكتمل النصاب ولكن "بعد انقطاع".

 

أما التمام فهو الكمال دون انقطاع:

 

(وأتمّوا الحج والعمرة لله)

(فأتموا إليهم عهدهم إلى مدّتهم)

(وواعدنا موسى ثلاثين ليلةً وأتممناها بعشر فتمّ ميقات ربّه أربعين ليلة)

 

وبهذا الفهم، نستطيع إدراك معنى الآية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً) بشكل سليم وواضح:

إن دين الله (الاسلام العام والشامل لكل الرسالات السماوية) قد اكتمل على مراحل ليتواكب مع التطور المعرفي والحضاري للبشرية، ووصل إلى شكله النهائي في خاتمة الرسالات رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. ونحن نتحدث بالطبع عن الأحكام (الرسالة) بينما أركان الاسلام (الايمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح) فهي ثابتة في كل العصور. كما أن نِعَمَ الله على البشر لا تنقطع بل هي موصولة على الدوام، (وإن تعدّوا نعمة الله لا تحصوها) وأن هذه النعم قد تمّت بكمال الدين وهداية البشر للإسلام الصحيح.

وبالعودة إلى آخر ما أُنزل من التنزيل نجد أن الآيات التي نزلت بعد هذه الآية لا  تحمل أي تشريع، بل هي آيات من باب النبوّة (القرآن) وقد تم ختمها بالآية الأخيرة التي نزلت على قلب سيدنا محمد ( وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) البقرة 281

وفيها تذكير أخير بالموت والحساب، وحقّ أن تكون خاتمة التنزيل وخاتمة آيات القرآن الكريم، وآخر عهد البشر بالوحي الإلهي المباشر هي التذكير الأخير بالموت والنشور والحساب: (واتقوا يوماً تُرجعون فيه إلى الله) فهل من مُدّكر!.

 

الخلاصة: بدأ التنزيل الحكيم بالنبوّة وآيات القرآن التي تتناول أمور الإيمان والغيبيات والاعجاز في الكون، وقد انتهى التنزيل الحكيم أيضاً بآيات القرآن (واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله)، بينما بدأ تنزيل الكتاب (الرسالة أو الأحكام) بآيات سورة المدثر وانتهى بآية (اليوم أكملت لكم دينكم) حيث راعى التنزيلُ التدرّج في الأحكام وصولاً في النهاية إلى التشريعات النهائية التي تضمن تنظّيم المجتمع وإرساء منظومة القيم الانسانية العامة التي تحكم علاقات البشر العامة.  

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

3-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (4) فاسألوا أهل الذكر*

 

تُستخدم عبارة (فاسألوا أهل الذكر) عادةً للاستشهاد على ضرورة اللجوء إلى علماء الدين في الأمور التي تخص الدين وحصر الاجتهاد أو التدبّر في هذه الطائفة من المشايخ أو علماء الدين، بل إن معظم البرامج الدينية التلفزيونية تتخذ من هذه العبارة (المجزوءة من الآية) شعاراً للبرنامج أو عنواناً له. فما مدى دقة هذا الاستشهاد؟

 

((وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)) (7) الأنبياء

 

((وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ))  (43) النحل

 

 

يجب علينا أن نربط هذا الجزء من الآية بالموضوع أولاً  كي نستطيع إدراك المقصود بها والعبرة المستفادة من الآية ككل.

هاتين الآتين نزلتا في خطاب لأهل قريش الذين صدّوا عن دعوة الرسول وطالبوه بالمعجزات وتساءلوا عن عدم نزول ملكٍ (من الملائكة) بالرسالة من عند الله، فجاءت هذه الآيات لتدعوهم إلى سؤال أهل الكتاب ممن سبق عليهم نزول الرسالات السماوية (أهل الذكر) عن طبيعة الرسل الذين نزلوا على قومهم، هل كانوا ملائكة أم من البشر أمثالهم؟ ثم وضّح الله سبحانه وتعالى العلّة والحاجة للسؤال (بأسلوب تقريعي) بعدم معرفة أهل قريش وجهلهم في أمور الكتاب (إن كنتم لا تعلمون).

 

وبهذا يتضح معنى الآية والاستنباط المتاح منها بمجرد قراءة الآية كاملة، بدلاً من اجتزاء عبارة منها وبناء الاستنباط عليها.

 

وعلى عكس الاستنباط المجزوء فقد جاء الاسلام ليهدم مبدأ الكهنوت الذي ابتدعته الأمم من قبلنا، وليؤكد أن العلاقة بين الله والعبد هي علاقة مباشرة، وأن الفرد أصبح مسؤولاً عن التفكّر في دينه وفي التنزيل الحكيم، واتباع الصراط المستقيم، والالتزام بالتعاليم الالهية

 

(كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِه)

(ولقد يسّرنا القرآن للذكر فهل من مُدّكر)

 

كما حرص الله سبحانه وتعالى على رفع شأن العلم والعلماء (العلم هنا غير محصور في علم الشريعة والدين)، وحارب كل أشكال الكهنوت والاستئثار بالمعلومة أو إدعاء أية سلطة دينية امتلاكها الحق المطلق أو بضرورة إتباع الأفراد لها حصراً دون اجتهاد أو مراجعة أو إبداء رأي.

 

ومن هنا نقول إن التحديات التي نواجهها في هذا العصر، وحال الأمة الاسلامية التي تعاني من التراجع الحضاري، يفرض علينا جميعاً النهوض بمسؤولياتنا وتصحيح المفاهيم الخاطئة ومراجعة كل الموروثات السابقة ضمن منهج علمي وأسس سليمة لاعادة الأمور إلى نصابها الصحيح.

 

(إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ)

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ)

(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ)

(إنما يخشى اللهَ من عباده العلماءُ)

تتكرر في كل عام في رمضان ذات البرامج الدينية وذات العناوين، وتتكرر فيها ذات الأسئلة التي لا تُسمن ولا تغني من جوع، ولا تقود إلى تغيير في التفكير أو التأمل في تحديات العصر أو البحث عن السبب وراء قصور أهل العلم عامةً وعلماء الدين خاصةً في مواكبة العصر.

والمؤسف أنه عندما يأتي أي مجتهد من خارج إطار المؤسسة الدينية التقليدية، يتهموه بالزندقة والهرطقة، ويستشهدوا عليه ب (فاسألوا أهل الذكر)!!

وهم بذلك لا يقابلون الحجة بالحجة ولا يبحثون عن البينة بل يحصرون العلم بالقرآن وأمور الدين في جماعة معينة تنتمي إلى ذات المرجعية الدينية، وهو ما قاد الأمة إلى نوع من أنواع الكهانة وحصر العلم بالله والكون في جهة وسطية تفصل بين الله وعباده.

 

ولكن هل يعتبر هذا دعوةً إلى الفوضى في التدبّر في القرآن والبحث في الأحكام الشرعية، أم أن هناك ضوابط للتدبر والاجتهاد يجب الالتزام بها؟ سنناقش ذلك في المنشور القادم بإذن الله.

 

*الخلاصة: التدبّر في القرآن وطلب العلم هو فريضة على كل مؤمن عاقل، ودرجة العلم تتفاوت من شخص لآخر حسب سعيه واجتهاده وإخلاصه في النيّة والتوفيق من الله، وعلى العالِم والمتدبّر في الدين قبول الرأي والرأي الآخر ورد الحجة بالحجة والدليل بالدليل، وألاّ يكون مثالاً لأهل الأمم السابقة الذين جمّدوا عقولهم في النقل عن أسلافهم*

 

(وقل ربِّ زدني علماً)

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

5-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (5) البصيرة والدعوة إلى الله*

 

(قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المُشركين) يوسف 108

هذا الخطاب ورد إلى سيدنا محمد بعد الانتهاء من قصة يوسف، وفيه إرشاد إلهي بما يلي:

 

أولاً: دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم للالتزام بسبيل الله  (قل يا محمد هذه هي طريقتي المثلى في الحياة كما أرشدني لها الخالق من خلال الالتزام بالصراط المستقيم)

 

ثانياً: الدعوة إلى الله (أدعو إلى الله على بصيرة)

 

ولعلنا بحاجة إلى التأمل مليّاً في تعبير "على بصيرة"، فالدعوة إلى الله مقرونة بالبصيرة والتي تمثل "الوعي" الناتج عن العلم والمعرفة والتبصّر، فالدين لا يُتّبع بالجهل، وأنما بالعلم والإدراك.

فهذه البصيرة تُمكنّنا من التمييز بين الحقّ والباطل باستخدام التعقل والتبصّر والتدبّر. وجميعها هبات من الله سبحانه وتعالى، (بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ) أي أن الانسان على إطلاع على حقيقة نفسه ومدى التزامه بعيداً عن كل الأعذار التي يسوقها.

وهذه القدرة على كشف الحقيقة، حقيقة الخلق والخالق والكون وأسرار الحياة، واستيعاب الدين بشكله الصحيح، هي شروط الدعوة إلى الله، وليس المطلوب الدعوة على جهالة ودغدغة المشاعر والاطناب في الوعيد والتهديد. ومن أجل ذلك علينا التعرّف على الدين الذي ارتضاه الله لنا (ورضيت لكم الاسلام دينا) من خلال كتاب الله سبحانه وتعالى والتدبّر فيه حتى نكون على مستوى هذه الأمانة ونكون في حياتنا مثالاً حقيقياً لعباد الله وللدعاة إلى سبيله.

 

ثالثاً: لاحظوا معي من هو المكلّف بالدعوة (بعد تحديد شروطها) محمد صلى الله وعليه وسلم، وأتباعه أي أن الدعوة واجبة على كل المؤمنين (كلٌ على قدر استطاعته) وليست مسألة اختيارية أو محصورة في فئة معينة بصفتها الشخصية او موقعها الاجتماعي. وهذا الاتباع يعني الالتزام، فبدون التزام بسبيل الله لا يكون للدعوة معنى ولا تأثير، والنفوس البشرية قادرة على التمييز بين الغث والسمين، صحيح أن البشر قد ينخدعون في بعض الأشخاص لبعض الوقت، ولكن سرعان ما تنكشف الأمور وتتضح الحقيقة وحينها سيسقط هؤلاء الدعاة المُخادعون ولن يكون لهم أية مصداقية تُذكر.

 

وفي آية أخرى يقول الله سبحانه وتعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) النحل 125

 

وهنا تتكرر الدعوة إلى سبيل الله (الصراط المستقيم) والتي تشكّل قواعد العيش المشترك تحت مظلة الايمان بالله تعالى، وحرية العبادة، لذلك انتهت الآية بالقول: (إن ربك هو أعلم بمن ضلّ عن سبيله وهو أعلم بالمُهتدين) أي أن الله وحده يحكم على البشر من حيث الضلال والهداية وعلى البشر ألاّ ينشغلوا بهذه الأمور، بل بالتركيز على الحياة المثلى من حيث الالتزام بالقيم الانسانية المشتركة والابتعاد عن المحرمات، والتحلّي بالأخلاق.

الحكمة والموعظة الحسنة: استخدام الحكمة جزء من البصيرة، والحكمة هي القدرة على الحكم على الأمور ووضعها في نصابها الصحيح، تليها الموعظة الحسنة، وهي حسن اختيار المواعظ وغيرها من الأدلة العلمية والعملية.

وجادلهم: ومن شروط الدعوة والاجتهاد في الدين هو مقابلة الحجة بالحجة واستخدام البراهين العقلانية والمنطقية والجدال يختلف عن الخصومة أو المحاججة غير المنطقية (فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَىٰ يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ)

 

أما عبارة (بالتي هي أحسن) فهي تعني سلامة الفكرة التي تروّج لها وحسنها، بالاضافة إلى حسن النوايا، فالمطلوب هو الحسن الداخلي والخارجي أي النقاش بنية الوصول إلى الحق وليس المكر والخداع وتغطية الحق، إذ وصف الله المنافقين بقوله (ولتعرفنهم في لحن القول).

 

 

*الخلاصة: كما تحدثنا في المنشور السابق فإن الدعوة والاجتهاد والتدبّر في الدين هي واجب على كل فرد حسب استطاعته وقدرته، وهذا التدبّر يقود إلى الوعي في الدين (البصيرة) وإدراك الحكمة من اتباع تعاليم الدين وفن العيش (سبيل الله)، وهذا بدوره يُهيىء الفرد لممارسة الدعوة والحوار الايجابي ومقابلة الحجة بالحجة والابتعاد عن التزمّت والعصبية والمخاصمة*

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

8-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (6) الإسراء - المسجد الحرام والمسجد الأقصى*

 

(سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ*وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا) سورة الاسراء 1-2

 

هناك عدة امور تستحق التوقف عندها في سورة الاسراء، ولعل من أولها تلك النقلة من الحديث عن حادثة الاسراء إلى الحديث عن سيدنا موسى وإفساد بني اسرائيل.

 

دعونا نبدأ بالقول إن الآيات قد ربطت بين المسجد الحرام (أول بيت لله وضع في الأرض) وبين المسجد الأقصى وهذا الربط له دلالات إيمانيّة كبيرة أدركها المسلمون الأوائل عندما فتح سيدنا عمر بيت المقدس وطهّر مكان المسجد الأقصى وأعاد تجهيزه، وندركه نحن اليوم أكثر من أي وقت مضى.

 

وأعتقد أن الله يشير لنا من خلال هذا الربط، أنه وكما أرشد سيدنا إبراهيم إلى موقع الكعبة والمسجد الحرام وكلّفه بإعادة ترميم البناء وإزالة آثار الوثنية منه، فإنه أيضاً قد أرشده إلى موقع المسجد الأقصى في الأرض المباركة، وكلّفه بترميمه، ومن هنا بدأ الربط.

 ومن خلال معجزة الاسراء فأن الله قد سلّم عهدة المسجد الأقصى إلى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وإلى أتباعه من بعده، بعد ان عهد له بالكعبة والمسجد الحرام، وهنا يكون قد اكتمل الربط بين المكانين المقدسين.

 

*المسجد*

ونلاحظ أن الله سبحانه وتعالى أطلق لفظ "مسجد" على دور العبادة للمؤمنين، حيث ورد في سورة الكهف (قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَىٰ أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا)

وهذا اللفظ (مسجد) لم يُستخدم من قبل في اللغة العربية بهذا المعنى، وهو مشتق من فعل سجدَ، لذا اصبحت كلمة "مسجد" تستخدم للدلالة على مكان العبادة لدى المسلمين أتباع سيدنا محمد، ولاحقاً قام العلماء بإضافة مفاهيم الجامع والمصلّى.

 

*عبده*

وقد أشار الله سبحانه وتعالى إلى سيدنا محمد ب (عبده) ليدل بإشارة ضمنية على حمله لواء الدين وهو آخر أنبياء الله في الأرض. ومن مراجعتي لآيات القرآن الكريم وجدت أن كلمة "عبده" منفردة لم ترد في القرآن سوى للاشارة إلى سيدنا محمد، وقد ورد هذا اللفظ في ستة مواقع مختلفة (الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب) (تبارك الذي نزل الفرقان على عبده) (أليس الله بكاف عبده) (فأوحى إلى عبده ما أوحى) (هو الذي ينزل على عبده آيات بينات). بينما في سورة الكهف ورد ذكر العبد الصالح بوصفه (عبداً من عبادنا). وورد مرة وحيدة مع سيدنا زكريا، (ذكر رحمت ربك عبده زكريا) ولكن هنا تم ذكر سيدنا زكريا مباشرة للدلالة عليه.

 

 

*الاسراء وقصة بني إسرائيل*

أما الخلاف حول علاقة حادثة الاسراء بقصة سيدنا موسى وبني اسرائيل، فنقول إن من خصائص القرآن الكريم الربط الموضوعي في الآيات، ومن أهم واجبات التدبّر في القرآن هو البحث عن الرابط بين الآيات والاسترشاد به، وهنا نقول إن الله ذكر حادثة الاسراء ووضّح أنها معجزة إلهية (سبحان الذي أسرى بعبده) ثم ذكر أنه كشف لسيدنا محمد عن بعض آياته الغيبية في الكون، (لنريه من آياتنا) وختم بقوله (إنه هو السميع البصير) ونفهم من هذا أن سيدنا محمد قد أُطلع على رؤية إعجازية وأنه قد رفع الغطاء عن قدراته السمعية والبصرية لإدراك هذه الآيات الغيبية بقدرة إلهية.

وفي الآية التالية مباشرة أوضح الله سبحانه وتعالى موضوع هذه الرؤية التي ارتبطت بالمكان (المسجد الأقصى) والشخوص وهم (سيدنا موسى وبنو اسرائيل) وهنا يتضح أن الآيات مترابطة موضوعيا ولا يوجد هناك نقلة مفاجئة في الحديث.

وهكذا نستطيع القول أن الله سبحانه وتعالى قد أسرى بعبده روحاً وجسداً من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى في القدس، وأنه قد كشف الغيب لسيدنا محمد عن ماضي وتاريخ بني اسرائيل وإفسادهم الأول، ثم كشف له عن الافساد الثاني المرتبط بالمسجد الأقصى، وبشّره بنصرة الله لعباده المؤمنين.

 

وللحديث سريعا عن آيات بني اسرايل في هذه السورة نقول:

 

·       ذكر الله تعالى ان بني اسرائيل ينحدرون من نسل من حُملوا مع نوح.

·       ذكر الله تعالى فساد بني اسرائيل في الأرض في المرة الأولى بصيغة المفعول أي الذي مضى (وكان وعداً مفعولا).

·       بينما ذكر الفساد الثاني بصيغة المستقبل، اي أن هذا الفساد هو نبوءة مستقبلية سيتحول إلى خبر عيان ويشهده المؤمنون. ونرجو من الله أن نشهد هذا الحدث ونكون من المشاركين فيه.

·       بعد الانتهاء من قصة سيدنا موسى وفساد بني اسرائيل قال الله تعالى مباشرة (إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم) ليربط قصة فساد بني اسرائيل مع فاتحة السورة والاعجاز الذي ورد فيها من ناحية الاسراء وليضيف هذه النبوءة إلى إعجاز حادثة الاسراء.

 

*الخلاصة: لقد ربط الله سبحانه وتعالى عقائديا بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى، ووضح ان معجزة الاسراء لا تقتصر على الاسراء بشخص وجسد سيدنا محمد بل وفي إطلاعه على أخبار الغيب من قصص بني اسرائيل وإفسادهم في الأرض، وإطلاعه أيضاً على غيب المستقبل وما سيؤول له الوضع في المكان الذي أسرى به إليه (المسجد الأقصى وما حوله)، وقد ذكر الله سبحانه وتعالى هذه النبوءة التي اطلع عليها سيدنا محمد في القرآن الكريم لتكون واحدة من الدلائل على إعجازه*

 

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

10-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (7) إن جاءكم فاسقٌ بنبأ*

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)

الحجرات 6

 

ينبغي فهم كلمات (جاء، فاسق، نبأ، فتبيّنوا) كي نفهم المراد من هذه الآية ونستنبط الحكم العام حول التوثّق من المعلومات المتناقلة والمتداولة بين الناس، وهل علينا التحقّق من الأخبار بالنظر إلى مصدرها فقط؟

 

في الحقيقة فإن هذه الآية تم اعتمادها من قبل العلماء كسند لمراجعة سند الأحاديث من حيث الراوي والتحقق من عدله، ولكنها أغفلت متن الحديث ذاته وضرورة التحقق من صحته.

 

جاء وأتى، الخبر والنبأ

 

في القرآن الكريم يستخدم الفعل (جاء) ليفيد خارجيّة المصدر، فعندما تقول جئتك، أي جئت لك بشيء أو معلومة من مصدر خارجي وليس من عندي. فالمرء يأتي بالشيء من دائرته، ولكنه يجيء بالشيء من دائرة أخرى.

 

(وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا)

آتيتموهن هنا: أي أعطيتموهن من أموالكم الخاصة

 

النبأ: هو المعلومة غير المتحقق منها بعد، وهي من أصل (نبوءة) فهي معلومة جديدة وحين تتحقق تصبح خبراً.

 

(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) أي أن كل الأنباء التي أوردها الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم سوف تتحقق وسوف نعلم عنها فتدخل في ضمن دائرتنا المعرفية وحينها (تستقر) أي تصبح أخباراً.  

 

لاحظوا معي:

 

(أحطت بما لم تُحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين)

أحطت بما لم تُحط به: علمتُ ما لا تعلم

(وجئتك) وأنقل لك من سبأ (بنبأ) هذه المعلومة الجديدة التي لا تعرف عنها (يقين) ولكني تحققت منها بنفسي

 

من هو الفاسق

 

الفسق في اللغة من الخروج أو الاتفصال وتستخدم في مجال الخروج عن طاعة الله وأوامره (حتى لو مؤقتاً) أو عن المألوف أو عُرف المجتمع

 

(وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا ۚ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)

فهنا الفسق لا يعني الكفر ولا يعني دوام المعصية، بل يعني عدم الالتزام بأصول الشهادة، لذلك كان من الضروري عدم اعتبارهم من الثقات الذين يصلحون لادلاء الشهادة في المستقبل.

 

أما كلمة تبيّنوا فتعني التحقّق

 

(من بعد ما تبيّن لهم الحقّ)

(حتى يتبيّن لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود)

 

وبهذا نستطيع القول إن المعنى الاجمالي للآية يصبح كما يلي:

 

(يا أيها الذين آمنوا بمحمد واتبعوه، إن جاءكم شخص غير موثوق بمعلومة منقولة لا تعلمون شيئاً عن مصداقيتها، فتحقّقوا منها قبل أن تتداولوها أو تنشروها كي تدرءوا عن أنفسكم أن توقعوا الضرر في شخص أو جماعة من حيث لا تعلمون)

 

وبهذا يدخل فعل تناقل الإشاعات والأخبار الزائفة والكاذبة ضمن باب المنهيات الالهية بنص القرآن.

 

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل التحقّق مشروط بورود الخبر عن طريق شخص غير موثوق فقط؟

 

في الحقيقة فإن القرآن الكريم جاء دقيقاً جداً في الأحكام وفصّلها بين محرّمات ونواهٍ وأوامر ووصايا إنسانية، وفي هذه الآية جاء الأمر الصريح بوجوب عدم نقل الأنباء عن مصادر غير موثوقة، ولكنه في ذات الوقت نهى عن التعامل مع المعلومات التي لا نعلم مصداقيتها أو إتباع أي منهج أو رأي دون ان نعيه ونتحقق منه

 

(وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۚ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا) الاسراء 36

 

وهذا جاء ضمن باب الحكمة التي وضّحها لنا الله سبحانه وتعالى في كتابه:

 

(ذَٰلِكَ مِمَّا أَوْحَىٰ إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ) الاسراء 39

 

*الخلاصة: أعطى الله سبحانه وتعالى المؤمن المرونة الكافية بالتعامل مع الأشخاص والمصادر الموثوقة دون إسقاط المسؤولية في حال كانت الأنباء أو المعلومات المتداولة غير صحيحة، حيث أن كل إنسان يتحمل مسؤولية التحقق من المعلومة سواء كانت من مصدر موثوق او غير موثوق.

وفي حالة النقل عن مصدر مشكوك به او غير موثوق فأنت تقع في الإثم مباشرة، ويضاف لذلك الاساءة الشخصية إذا حصلت لأحد*.

 

وما أحوجنا في هذه الأيام إلى التوقّف مليّاً عند هذه الآيات واستشعار مدى خطورة تناقل الاشاعات والأخبار الكاذبة وما يدّعي أصحابها أنها مؤامرات حيكت في الظلام دون دليل أو أدنى تحقّق من المعلومة ويثيرون بذلك النعرات أو المخاوف وينشرون الفساد في الأرض من حيث يدرون أو لا يدرون.

وأعلموا أخواتي وإخواني أن العبارة الخجولة على شاكلة (على ذمة الراوي أو كما وصلني) لن تدفع عنك الإثم أو تحمّل المسؤولية، لأن شرط التحقّق في الآية جاء بصيغة الأمر (فتبيّنوا) والنهي (لا تقفُ).

 

 

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

13-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (8) ولا يخافُ عُقْباها*

 

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا * إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا * فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا * فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا * وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) سورة الشمس

 

في تفسير المفسرين الأوائل ذُكر في تفسير (ولا يخافُ عُقباها) أن الله سبحانه وتعالى لا يخاف عاقبة ما فعل، فهو ليس كالبشر أمثالنا الذين يحسبون عاقبة أفعالهم. بمعنى أن الفاعل هنا مستتر وتقديره (ولا يخاف ربهم عقباها).

 

والحقيقة أن هذا التفسير غريب ولا ينسجم مع النسق القرآني في تقديس الذات الآلهية، ولا يوجد في القرآن الكريم كله أي لفظ مشابه يقرن الخوف أو الخشية بالذات الآلهية أو ينفيها، فهي صفة موجودة في المخلوقات، وليس من المنطقي أصلاً افتراض الحاجة إلى نفيها عن الذات الآلهية.

 

وكلمة عُقباها من كلمة عُقْب وهي آخر كل شيء أو الذي يليه.

 

فلو حلّلنا هذا المعنى وربطناه بالضمير أي الاشارة إلى ثمود، لاكتشفنا أن المعنى الحقيقي ل "عُقباها" هو: آخر من بقي من ثمود وهم المؤمنون (صالح وأتباعه) وأن "عقبى" هي الفاعل ولا يوجد أي داع للبحث عن فاعل مستتر فالله سبحانه وتعالى يقول إن رهط المؤمنين لن يضرّهم ما فعله الله بقوم ثمود وعقابه لهم، ولن يخافوا أيضاً من انتقام ثمود، أو أي رد فعل منهم بعد ذلك.

وهي رسالة طمأنينة لكل المؤمنين الصالحين أن عذاب الله وانتقامه لن يصيب المؤمنين بظلم، ولن يكون له ردة فعل انتقامية تضر بهم، لذا جاء الفعل (ولا يخافُ) باستخدام المضارع المستمر.

 

وهذا يأخذني إلى آية أخرى غريبة وعجيبة في سورة نوح لم أجد لها في كتاب الله مثيلاً:

 

(وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا)

 

هذا الدعاء على القوم الكافرين وعلى ذريتهم من بعدهم من قبل أحد الأنبياء لم يتكرر في القرآن، مما يدعنا إلى استيضاح الأمر:

 

في البداية لقد سبق لنوح أن أوحي إليه من قبل الطوفان أنه لن يؤمن له من قومه أحدٌ بعد اليوم باستثناء من كان قد آمن:

(وَأُوحِيَ إِلَىٰ نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ)

 

ومن هنا، جاء تخوّف نوح من بقاء نسل هؤلاء الكافرين الذين وصلوا إلى نقطة اللاعودة بحيث يستحيل عدولهم عن كفرهم، وبالتالي فإن نجاة فئة منهم ستؤدي إلى مواجهة عنيفة وردة فعل إنتقامية من نوح والمؤمنين معه، والذين هم يومئذ قليل:

 

(حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ۚ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ)

 

وهذه الأفعال الانتقامية سوف تهدد بقاء الفئة المؤمنة القليلة وسوف تشغلهم عن الله وعن حمل الرسالة (إنك إن تذرهم يضلّوا عبادك) وهذه الحالة من الاضطراب والعنف لن تولّد سوى المزيد من العنف وتوارث عقيدة الانتقام والكفر بالله (ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً).

 

ومن هنا كان لا بد من العقاب الآلهي أن يقضي على ذرية الكفار (أمة نوح وصالح وغيرهم) بعد ان تم استنفاذ كل أساليب الدعوة والتهديد والوعيد، لكي تعيش الفئة المؤمنة في هدوء وسكينة ويستقيم أمر الدين لله.

 

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

16-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (9) الاقتصاد وترشيد الاستهلاك*

 

في زمن #كورونا وفي ظل الضائقة الاقتصادية، وإرهاصات #الكساد_الاقتصادي لم أجد افضل من التوجيه الرباني الخفي إلى ضرورة ترشيد الإستهلاك، والعمل على توفير وتخزين السلع الأساسية والبضائع (أصل التبادل التجاري) و الثروة أو النقود (وسيلة التقايض) لحين العوز.

 

(قَالَ تَزۡرَعُونَ سَبۡعَ سِنِینَ دَأَبࣰا فَمَا حَصَدتُّمۡ فَذَرُوهُ فِی سُنۢبُلِهِۦۤ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّا تَأۡكُلُونَ ۝ ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ سَبۡعࣱ شِدَادࣱ یَأۡكُلۡنَ مَا قَدَّمۡتُمۡ لَهُنَّ إِلَّا قَلِیلࣰا مِّمَّا تُحۡصِنُونَ ۝ ثُمَّ یَأۡتِی مِنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَ عَامࣱ فِیهِ یُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِیهِ یَعۡصِرُونَ) سورة يوسف

 

وهذه التوجيهات ليست موجهة للأفراد فقط، بل جاءت في الأصل الى المؤسسات والمجتمع (الدولة).

ففي الوقت الذي عاشت فيه كثير من الشركات والدول في حالة من الرفاهية والترف الشديدين لسنوات مضت، جاءت اليوم أمام أول تحد بسيط مقارنة بسنوات الرفاهية، لتصبح مهددة بالإفلاس، ولم تجد أمامها سوى الموظف أو العامل والتاجر البسيط والمواطن الغلبان لتعويض خسائرها.

 

وصدق الله العظيم حين قال :

(لَقَدۡ كَانَ فِی قَصَصِهِمۡ عِبۡرَةࣱ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِۗ مَا كَانَ حَدِیثࣰا یُفۡتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصۡدِیقَ ٱلَّذِی بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَتَفۡصِیلَ كُلِّ شَیۡءࣲ وَهُدࣰى وَرَحۡمَةࣰ لِّقَوۡمࣲ یُؤۡمِنُونَ)

 

ولا بد لنا أن نذكر هنا، أن الشركات الكبرى والعابرة للقارات، ومن خلفها الدول الرأسمالية، ورجال الأعمال، هم من أسسوا وروجوا لفكرة زيادة الإستهلاك، بدءا من الفرد البسيط، وصولا إلى الدول والحكومات، ومرورا بالمجتمعات، إلى أن تغلغلت ثقافة الاستهلاك في وعينا وسلوكنا، وباتت جزءا من شخصيتنا، بل وتقييمنا لبعضنا البعض، انطلاقا من فكرة الملكية وليس المشاركة أو العطاء.

 

وهذه الثقافة تطورت فيما بعد لتصبح تهديدا للطبيعة ولمواردها، وللبيئة والمناخ، وقد تصل إلى محاولة نهب ثروات الكواكب الأخرى، اذا اتيح لنا المجال.

 

في المقابل هناك العديد من الآيات والتوجيهات التي تدعو إلى الاقتصاد والترشيد والتعفف والزهد و الموازنة بين الرغبات والحاجات، وإلى العطاء والبذل، ولكننا للأسف بعيدون كل البعد عن البصيرة والوعي الحقيقي.


ومن هذه الآيات على سبيل المثال لا الحصر:


(وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) الفرقان 67


وتقدير اسم كان هو :إنفاقُهم" أي (وكان إنفاقهم وسطاً لا ينحدر إلى حدود التقتير ولا يصل إلى حدود الإسراف)

 

وفقنا الله وإياكم إلى حسن التدبير والترشيد والعطاء.

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن
18-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (10) لما بين يديه*

 

من أكثر الآيات اختلافا في التفسير بين العلماء هي التي وردت في صيغة (مصدقاً لما بين يديه) أو (تصديقاُ لما بين يديه)، حيث أشار المفسرون القدماء أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد جاء مصدقا للكتب السابقة (التوراة والأنجيل) واستكمالا لها، أي أن المقصود ب (بين يديه) بين يدي سيدنا محمد في عصره من الانجيل والتوراة، وهذا التفسير غير دقيق، كما أنه لا ينطبق على جميع الآيات كما ورد في التفسيرات.

 

وبعد البحث أيضاً في القراءات المعاصرة والتفسيرات الحديثة، كان هناك أيضاً تناقض واضح في الاجتهادات، ومحاولة تعميم تفسير واحد على جميع الآيات رغم اختلاف المواضيع والصيغ والقصد منها.

 

في هذا البحث المتواضع محاولة لفهم الآيات حسب المنهجية التي اعتمدناها، من خلال استعراض  الآيات التي وردت فيها هذه العبارات وتحليلها كليّة وربطها بمجمل الموضوع.

وقد توضح لنا أن الله سبحانه وتعالى قد استخدم هذه العبارات للدلالة على معان مختلفة حسب واقع الحال، كما هو موضح أدناه:

 

 

الحق ومطابقة الوقائع:

 

 

(الم * اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ * نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ) آل عمران

 

 

في البداية الحديث هنا عن الله سبحانه وتعالى وتنزيله للكتاب على قلب سيدنا محمد "بالحق مصدّقاً لما بين يديه". ومن الضروري توضيح أن ضمير (يديه) هنا لا يعود بأي شكل من الأشكال على سيدنا محمد لأنه هنا هو المخاطب (عليك) ولا على سيدنا جبريل لأنه غير مذكور وقد نسب الله فعل التنزيل الى إرادته ومشيئته الالهية، وبالتالي فإن بين يديه هنا تعود إلى الكتاب نفسه، فالكتاب (كل الكتاب بموضوعيه الرئيسين النبوة والرسالة) قد جاء "بالحق" أي أنه جاء مصدقاً ومتطابقاً مع الواقع والحقائق المعاصرة والمتجددة، ومتفاعلاً معها أيضاً فالكتاب ليس كتاباً مجرداً بل هو كتاب تفاعلي مع الأحداث والوقائع وليس معزولاً عن الذات البشرية ومن هنا فهو يكتسب صفة المصداقية المتجددة مع الواقع.

 

وهذه الآية تحمل ذات المعنى أيضاً:

 

(قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ) البقرة 97

والضمير هنا يعود إلى الكتاب أيضاً وليس إلى جبريل كما ذهب البعض.

 

 

تصديق النبوءات السابقة:

 

(وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ۚ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ۖ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ۚ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) المائدة 48

 

في هذه الآية يتضح هناك معنىً جديداً يُضاف إلى ما سبق، فالكتاب الذي نزل على سيدنا محمد جاء مصداقاً للنبوءات الحاضرة في الكتب السماوية الأخرى والتي بشّرت بنبي آخر الزمان، فهو من هذه الزاوية أيضاً جاء لاثبات تلك النبوءات واستمراراً لدين الله الواحد من ناحية الأحكام (الرسالة) مع اختلاف الشرائع أي العبادات والشعائر.

 

وبما أن الكتاب الذي نزل على سيدنا محمد فيه اكتمال للرسالة وفيه وصلت الأحكام إلى شكلها النهائي فإن هذه النسخة من الكتاب (الأحكام) هي المهيمنة والمسيطرة على ما سبقها فيما يخص التشريع الانساني والسلوك وليس من ناحية الشعائر التي تركها الله سبحانه وتعالى لأصحاب الرسالات السماوية كما هي (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)

 

 فالاختلاف في الشعائر لا يجب الالتفات إليه أو محاولة تغييره، فهو يدخل من ضمن باب حرية العبادة المكفولة للأفراد، بينما على الدولة أو السلطة العمل بما ورد في الرسالة المحمدية من حيث الحرام والأوامر والنواهي والوصايا وهي الكفيلة بضبط المجتمع بصفته المدنية فيما تبقى الشعائر مكفولة ضمن باب حرية العبادة وهذا هو شكل الدولة الاسلامية المطلوب.   

 

وهذه آية أخرى تحمل ذات المعنى:

 

(قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) ألأحقاف 30

 

النبوّة وتصديق الرسالة:

 

(وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَىٰ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) يونس 37

 

هنا نلاحظ الفرق في استخدام مفردة القرآن، وكما تحدثنا سابقاً فإن القرآن هو كتاب النبوّة ويحتوي على حقائق الكون والطبيعة والغيبيات والقصص، وهو بهذا يحمل صفة الاعجاز التي تثبت أن مصدره هو الله سبحانه وتعالى خالق هذا الكون والعالم بأسراره، ولهذا كان القرآن معجزة سيدنا محمد.

 

 لهذا فإن القرآن ذاته يكون دليلاً على صدق هذه الرسالة المحمدية والأحكام والمنهج الذي جاءت به (كتاب الأحكام أو الرسالة)، لأن الرسالة والأحكام الواردة فيها لا تحمل صفة الاعجاز بذاتها وإنما بكونها جزء من الكتاب ككل، وبهذا يكون القرآن وحسب فهم هذه الآية هو الدليل على وجوب تصديق ما بين يديه من الرسالة (الأحكام) والعمل بها.

ولهذا يقول الكافرون وحسب نص الآية التالية أنهم لن يؤمنوا لا بالقرآن المُعجز (النبوة) ولا بالأحكام الواردة معه في الكتاب (الرسالة).   

 

(وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَٰذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) سبأ 31

 

وهذه الآيات تحمل ذات المعنى أيضاً:

 

(وَهَٰذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَىٰ وَمَنْ حَوْلَهَا ۚ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ۖ وَهُمْ عَلَىٰ صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ) والحديث هنا عن القرآن (كتاب لأنه جزء من الكتاب وليس كله)

 

(وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ) القرآن – من الكتاب

 

وهذه إجمالاً المعاني المختلفة التي حملتها هذه العبارة والتي تنوّعت حسب واقع الآيات، وباقي الآيات الواردة والتي لم أذكرها تحمل واحداً من هذه المعاني.

 

  هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

20-5-2020


*آيات استوقفتني 4 (11) شُبهة الأحرف السبعة*

 

لاحظت قبل عدّة سنوات أن إمام جامع الحي الذي يؤمّنا في الصلاة يقرأ في الفاتحة الظآلين بدلاً من الضآلين، ولكني لم أردّه في الصلاة ولم يردّه أحد من المصلّين كذلك لأننا نعلم أن لهجته غلبت عليه، ولكنه يعلم أن اللفظ الصحيح والوارد هي (الضآلين) وليس الظآلين.

ولكن في اللحظة التي ترى فيها أحداً يكتب آيات الكتاب كما يلفظها وليس كما حُفظت في نسحة المصحف الشريف فإنك لن تتردد في أن تبدي اعتراضك وتصحّح خطأ الكتابة.

 

عندما نما إلى مسامع سيدنا عثمان أن المسلمين في الأمصار المختلفة يقرأون بعض آيات المصحف  حسب لهجتهم، بل بدأوا بنسخه على الصحف وتدارسه على لهجاتهم، استشعر الخطر الكبير على كتاب الله وقام على الفور بتكليف زيد بن ثابت بنسخ عدة نسخ من المصحف الشريف الذي تم جمعه في عهد سيدنا أبي بكر الصديق ثم انتقل إلى عهدة الخليفة عمر بن الخطاب وبقي في عهدة السيدة حفصة بنت عمر من بعده.

وزيد بن ثابت هو كاتب الوحي الرئيس في حياة سيدنا محمد، وهو من أشرف على جمع القرآن بتكليف من سيدنا أبي بكر، أي أنه اعلم الصحابة بالتنزيل وكتابة الوحي من سيدنا محمد مباشرة، وهو من قام بالاشراف على جمع القرآن.

 

وبعد أن أتمّ زيد من ثابت المهمة بنجاح قام سيدنا عثمان بتوزيع نسخة من المصحف الشريف إلى كل والي من أولياء المسلمين مصحوباً بمرسوم أميري يقضي بجمع جميع الصحاف المتداولة لآيات الكتاب وحرقها جميعاً، وطلب من الولاة اعتماد الرسم الموجود في المصحف الشريف والتي عرفت بعد ذلك بالرسم العثماني، وهي الموجودة اليوم بين أيدينا.

 

ملاحظة: إحدى نسخ الرسم العثماني الأصلية موجودة في متحف الباب العالي في اسطنبول كاملة وسليمة إلى يومنا هذا، إضافة إلى خمسة مصاحف نسخت يدوياً في نفس الفترة.

 

ولكن على ما يبدو فإن بعض الصحف المتناثرة هنا وهناك لم يتم مصادرتها، كما استمرت قراءة بعض الملسمين على لهجتهم المحلية خصوصاً مع الاعتماد على المشافهة وانتشار الأمية.

وبعد قرون من الزمن وبعد انتشار علوم القرآن والفقه والمدارس المختلفة ظهرت هذه الصحف القديمة التي اكتسبت بُعداً تاريخياً لأنها من زمن الصحابة الأوائل أو التابعين على أقدر تقدير، وهنا حصل الخلط وظهرت نظرية نزول القرآن على لهجات مختلفة اتفق العلماء حينها على انها سبعة أحرف.

 

وتقول هذه النظرية أن جبريل عليه السلام قرأ الآيات على قلب سيدنا محمد بلهجات عصره تخفيفاً على المسلمين وأن سيدنا محمد قد قرأ بالفعل هذه الآيات على قراءاتها المختلفة بل وسمح لكتبة الوحي بتدوينها بهذه القراءات!!!

ورغم عدم منطقية ولا عقلانية هذه النظرية إلا أننا وفي القرن الواحد والعشرين ما زلنا نستمع لعلماء الدين الذين يصرّون على ذكر اختلافات القراءات بل وعقد دورات تحفيظ للقرآن على حرف فلان وعلان مصرّين أنها جميعها صحيحة وواردة عن الوحي!!

 

وهذا القول هو مخالف لنص القرآن الكريم بل هو تعدٍ سافر على قدسية النص، وطعن في مسلّمة حفظه من الله تعالى (إنّا نحن نزّلنا الذكر وإنا له لحافظون)

 

لاحظوا معي:

 

(وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه) فليس المطلوب من الرسول أن يتقن اللهجات واللغات المختلفة من أجل الدعوة، وهذا ما وثّقه الله سبحانه وتعالى عن سيدنا موسى على لسان فرعون حين وصفه بالقول (ولا يكاد يُبين) فسيدنا موسى لم يكن يتقن لغة المصريين القدماء (والتي وصلتنا عن طريق الكتابة الهيروغلوفية) ولكنه يتقن اللغة العبرانية لغة قومه، وهذا من أسباب طلبه الاستعانة بأخيه هارون (وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) القصص 34

 

أما عن التنزيل الحكيم فقد ذكر الله سبحانه وتعالى بمنتهى الوضوح:

 

(نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) الشعراء 193-195

 

واللسان هنا تعني اللغة، لأن لفظ اللغة استخدم في فترة متأخرة، والدليل هو:

 

(وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ)الروم 22

 

 ونفهم من هذا أن الله سبحانه وتعالى قد اختار اللغة العربية كوعاء لاستيعاب التنزيل الحكيم، وأنه اصطفى لهجة قريش (قوم سيدنا محمد) لينزل الوحي بها.

 

ولهجة قريش هي أرقى وأنقى اللهجات العربية وهي الطاغية على باقي اللهجات، حيث كان يستخدمها الشعراء لنظم الشعر لأنها الأكثر تداولاً كما أنها اللهجة المعتمدة في المواسم الثقافية (سوق عكاظ مثالاً) والمواسم الدينية (موسم الحج) وبالتالي فقد أصبحت لغة العرب المركزية.

 

بل إن الله سبحانه وتعالى كان دقيقاً جداً في وصف صفة التنزيل بلهجة ونطق سيدنا محمد بالذات، لإزالة أي شكوك (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ)

 

ونحن نتساءل ألم يكن من باب أدعى ان تعترض قريش على سيدنا محمد وتتهمه بتأليف الكتاب بل وتحريفه وتغييره إذا ما قرأ الآيات بلهجات مختلفة ونطق يتغير باستمرار؟! ولماذا لم يذكر لنا الله سبحانه وتعالى هذه التهمة إن كانت قد حصلت ولم ترد كذلك في كتب السيرة؟

 

ومن جهة أخرى، لقد وضّح وفصّل لنا سبحانه وتعالى كل ما يتعلق بالتنزيل والوحي وصفة الكتاب وحفظه، ألم يكن من باب أولى أن يذكر لنا الله أنه أنزل الوحي بألسن مختلفة مراعاة لنا إن صحّ ذلك.

 

وعندما يتعهد الله بحفظ الكتاب فعلى أي حرف حفظه؟ ألا يعتبر اندثار القراءات وحرق المسلمين الأوائل للصحف غير المتوافقة مع النسخة الأصلية تعديّاً على الوحي وتحدياً للوعد الالهي بحفظ التنزيل (إن كان قد نزل بعدة أحرف)؟!

 

على كل مسلم مؤمن الايمان التام بان المصحف الشريف بلفظه، ورسمه، وترتيب سوره، وترتيب آياته، ومواقع النجوم (الفواصل بين الآيات)، وأسماء السور، جميعها وحي من الله سبحانه تعالى وهي وقف لله تعالى محفوظ برعايته، ولا يقبل الشك ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه

 

(أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ ۚ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)

 

(لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ۖ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)

 

وهناك العديد من الأدلة الواضحة على دقة رسم المصحف وتمييزه اللفظ عن طريق الكتابة، أذكر منها أمرين على سبيل المثال لا الحصر:

 

أولاً: وردت كلمة العلماء برسمها تحمل لفظها الصحيح كما نزل بها الوحي دون داعي إلى تشكيلها فوردت في رسم المصحف كما يلي:

 

 (إِنَّمَا یَخۡشَى ٱللَّهَ مِنۡ عِبَادِهِ ٱلۡعُلَمَـٰۤؤُا۟) أي بكتابتنا المعاصرة: العلماءُ

 

ثانياً: ميّز رسم المصحف بين لفظ الصلاة كشعيرة (الصلوة)

(لَا تَقۡرَبُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَأَنتُمۡ سُكَـٰرَىٰ) (والذين هم على صلواتهم يحافظون)

 

وبين الصلاة من الصلة والقرب من الله

 

(الَّذِینَ هُمۡ عَن صَلَاتِهِمۡ سَاهُونَ)

 

هذا والله أعلم.

 

أيمن يوسف أبولبن

22-5-2020