الجمعة، 6 سبتمبر 2024

مُعضلةُ العالمِ الحرّ

 



 

 

أثناء الاحتجاجات الأخيرة والحراك الطلاّبي في الولايات المتحدة، قالت الكاتبة والصحفية الاستقصائية الشهيرة نعومي كلاين – الكندية من أصل يهودي - في كلمة ألقتها في نيويورك وسط الحشود المناهضة لحرب الإبادة في غزة ، أن اليهود في العصر الحديث عادوا لصنع صنمٍ جديد لهم على غرار العجل الذي عبده أجدادهم في عصر موسى، وهذا الصنم أو الطاغوت الجديد هو "الصهيونية".

 

نعومي كلاين هي ناشطة حقوقية معروفة، وهي صاحبة كتاب "عقيدة الصدمة" الذي وثّقت فيه جرائم الحرب الأمريكية-البريطانية على العراق مطلع هذا القرن، وربطته بالعقيدة العسكرية الأمريكية المتأصلة والقائمة على الصدمة والرعب، والتعذيب الممنهج، وانتهاك حقوق المدنيين والضرب بعرض الحائط بكل المواثيق الدولية والانسانية.

 

وقد ربطت بشكل موثق وبالأدلة بين جرائم الحرب السابقة التي ارتكبها الجيش الأمريكي – بما في ذلك انتهاك حقوق الأمريكان أنفسهم – وبين جرائم الحرب على العراق، بل واستشهدت بالكتيّبات العسكرية، والتدريبات التي يتم تنظيمها لتطبيق هذه "العقيدة"!!

 

ومن جهة أخرى، يقول د علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري": ( إن كل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المُترفون عليه بعد ذلك فيحولونه إلى أفيون وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى)

بمعنى أن الدين عندما يبدأ يقوم بثورة تجديدية قائمة على تصحيح المفاهيم المغلوطة، وإعادة تنظيم المجتمع بما يضمن الحرية والعدالة والمساواة. ثم ما يلبث أن يدخل في مرحلة ركود، فيستولي عليه أصحاب السلطة والنفوذ (الأوليغارشية ) فيقوموا بحرفه وطمس روحانياته وجوهره، فيصبح عادةّ أكثر منه منهج حياة، ثم لا تلبث أن تختفي القيم الثورية وتتحول إلى أدوات سياسية هدفها السيطرة على الشعوب من خلال إدمانهم على الحركات ومظاهر العبادة، دون عمل مؤثر أو جاد.

 

ولا شك أن هذا صحيح ودقيق وثابت في تاريخ الانسانية، ولكن الأهم من ذلك أن هذه القاعدة تنطبق أيضاّ على باقي الثورات في العالم والحركات الفكرية.

فلنأخذ على سبيل المثال الشيوعية الاشتراكية التي جاءت لنصرة العمال والنضال من أجل نيل الانسان الكادح حقوقه المشروعة، فتحولت إلى نظام قمعي تعسفي لا يؤمن بالتعددية ولا بالحرية ولا بحقوق الانسان، وتم وصمه على مر التاريخ بأنه أكثر الأنظمة الحديثة قمعاً للشعوب ومناهضة للحريات، بل وتم تجسيده في الأدب العالمي بصورة "الأخ الأكبر" الذي أصبح رمزاً للطغاة على مر العصور.

 

وكنت قد كتبت من قبل عن مبادىء الثورة الفرنسية والتي قامت عليها فكرة "اللائكية – الدولة المدنيّة" في فرنسا وتوّجت بقانون عام 1905، الذي يشدّد على حق الفرد في الانتماء الى أي مجموعة يختارها في حين تبقى الدولة بلا دين رسمي وليس لها أن تفرض أي انتماء على المجتمع الأمر الذي سيقود إلى التعايش السلمي بين مختلف الديانات، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه المبادىء، هي الشعار البرّاق للعالم الحرّ الجديد.

 

ولكن معضلة الحضارة الغربية "العالم الحر" أنها تحوّلت إلى "إنتماء" بحد ذاتها، أي أنها أصبحت ديناً جديداً غير خاضعٍ للعقل أو للمنطق ولا يقبل النقد، وبالتالي أصبحت هذه الدول اليوم (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) دول ديكتاتورية تفرض انتماءاتها على الأفراد، وهذه هي المفارقة الكبرى!!

 

وهذا تفسير ما قالته نعومي كلاين عن الدين الجديد "الصهيونية" الذي أصبح الإله الجديد الذي لا يسع العالم الحر عصيان أمره أو الدوران في فلكٍ غير فلكه، وهذا ما يتفق في المضمون والجوهر أيضاً مع ما قاله د علي الوردي عن الثورات الدينيّة التي تبدأ بفكرة ثورية صادقة وجميلة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى كابوس إذا ما استأثرت عليها الأقلية المتنفذة.

 

لقد تحولت دول العالم الحر في القرن العشرين إلى دول استعمارية تُبرّر الاحتلال والقتل والتدمير بحجة نشر "المعرفة وقيم الحرية"، وتحوّلت اليوم إلى ديكتاتوريات عظمى تدعم جرائم اسرائيل في حق الفلسطينيين واستعمار أراضيهم وطردهم من بيوتهم، بحجة إرضاء الرب وتحقيق نبوءة الكتاب المقدّس، أي عالمٍ حرٍّ هذا؟!

 

لقد وصل الأمر إلى مناقضة كل المواثيق الدولية والقوانين والأعراف، وتهديد المؤسسات الحقوقية تهديدات مباشرة إذا قامت بدورها وأدّت المسؤوليات المنوطة بها، وإلى قمع حريات مواطني هذه الدول وطلاب الجامعات والهيئات التدريسية والعاملين في وسائل الاعلام.

 

هذه المعضلة التي وقعت فيها دول العالم الحر، ورغم مساوئها إلا أنها قد أدّت إلى خسارتها لعامل جوهري ومؤثر غفلت عنه، لقد خسرت ثقة الجماهير بها وبمبادئها التي أدّعت أنها قامت من أجل تحقيقها، وبالأخص الجيل زد Z Generation  وهذه الخسارة برأيي ستكون المسمار الأخير في نعش العالم الحر الجديد، وستؤدي إلى ثورة تصحيحية داخلية، تقضي على كل الأقليات الحاكمة، والطغمة السياسية التي تتلاعب بالشعوب، وستؤدي بالتالي إلى تغيير وجه العالم بعد سقوط الصهيونية العالمية.

 

هل لعاقلٍ أن يتصور أن الدولة العظمى في هذا العالم الحر المزعوم يحكمها رجل مُسنٍ، تتحكم في قراراته وتصرفاته مؤسسات الصهيونية العالمية، فيجازف بسلامة مواطنيه واستقرار أمنه، ووضعه الاقتصادي، بل ويضع على المحك كل مبادىء الحريات في سبيل دعم دولة مارقة خارجة عن القانون تفصله عنها قارات العالم!

والأنكى من ذلك أن من ينافسه على الرئاسة هو فاسدٌ آخر ، لا يؤمن أصلا بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة!!

 

ومن خلف هذه الدولة، تأتي فرنسا بلد الحريات، التي تحولت إلى دولة تعتنق دين "الإلحاد" فتقمع الأديان، وتجبر الطالبات على خلع الحجاب، وتمجّد الصحفيين الذين يسيئون للأنبياء وللأديان، وتشرعن المثليّة الجنسية، وتُملي تعليمات طاغوتها الجديد على شعبها بل وتريد أن تفرضه على العالم أجمع، بحجّة صون الحريات!! هل هناك كوميديا سوداء في هذا العالم أكثر من هذا!!

 

ولكن، وبرغم سوداوية المشهد، وتناقضاته العبثية، ومفارقاته المؤلمة، إلا أني أنظر بعين من التفاؤل إلى المستقبل القريب، وإلى هذا الجيل الجديد، الذي خرج من عباءة أنظمته الفاسدة، وأعلن كفره بكل هذه التناقضات السافرة، وقام بحمل راية الثورة من جديد، لإعادة تصحيح المفاهيم، وترسيخ مبادىء الثورة الأساسية، وإني أدعو كل حرٍّ ، وكل حرّةٍ، للوقوف مع الحق في هذه الفتنة التي يقف فيها القانون والشرطي في صف الغاصب، وتسخّر وسائل الاعلام كل أسلحتها لتشويه الحقائق، فيما تقف الانسانية عاجزة عن اتخاذ أي موقف داعم وحقيقي لنصرة المظلوم، فإن الاصطفاف مع الحق ولو بكلمة أو بنشر صورة، أو إعلان موقف، أو الخروج في مظاهرة لهو فعل مؤثر رغم بساطته، أو ضآلة حجمه.

 

((وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ))

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-5-2024

في إنتظار الرد الإيراني!

 



 

 

ما زلنا في إنتظار الرد الإيراني على إغتيال قائد حركة حماس في إيران منذ نحو شهر، وكما قال السيد حسن نصر الله فإن هذا الإنتظار هو نوع من العقاب، ولكن السؤال عقابٌ لمن بالضبط؟!

 

في سبعينات القرن الماضي كان شاه إيران، يلُقّب ب "شرطي أمريكا في المنطقة"، ومع قيام الثورة الخمينية في عام 1979 استقبل العالم العربي والأوساط السياسية تلك الثورة بحيرة وريبة، فمن جهة رأت بعض الحركات الوطنية أن الانقلاب على نظام شاه إيران هو إيجابي في كل الأحوال، وأنه سيغير قواعد اللعبة، في حين رأى البعض الآخر، أن مسار الحريات والديمقراطية في المنطقة والوقوف في وجه الديكتاتوريات، لا يتوافق مع توجهات تيار ديني متشدد، قائم على قمع الحريات في الأساس.

 

بدأ نظام الخميني في إعلان معاداته للرأسمالية والامبريالية وبدا ذلك واضحاً في حادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران عام 1980، تلا ذلك الصراع مع العراق -البوابة الشرقية للعالم العربي- والذي تأجج وصولا إلى الحرب العراقية الايرانية التي خسرتها إيران في الميدان، ولكنها عملت جاهدة بعد ذلك على حصار العراق والتحالف مع الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) لإسقاط النظام العراقي والتخلص من تهديدات هذا الجار العربي، ناهيك عن القول أن إيران لعبت على خط التناقضات والصراعات بين جناحي حزب البعث الاشتراكي، وتحالفت مع سوريا (وشركائها) للقضاء على حزب البعث العراقي، وكان لهما ما أراداه.

 

المفارقة هنا تكمن في أن إيران دعمت أمريكا (عدوها الأول المزعوم) ومهّدت لها هزيمة العراق وتدمير مقدراته (غزو العراق عام 2003)، وتحالفت مع اسرائيل أثناء الحرب العراقية الايرانية، فيما يعرف ب (إيران-غيت أو إيران كونترا) لكسر حصار التسليح الذي فرضه عليها الغرب، وهي الآن تدّعي أنها الدولة المُناصرة للقضية الفلسطينية والمُعادية للامبريالية والصهيونية!

 

اعتمدت إيران في بسط نفوذها في المنطقة على مبدأ الحرب بالوكالة، فهي لا تدخل في نزاع مباشر مع أعدائها أو خصومها، ولكنها تتحالف مع جيوب المعارضة وبعض الحركات المسلحة وتدعمها للقيام بهذا الدور، خذ على سبيل المثال الميليشيات الشيعية في العراق، حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، وللأسف المقاومة الفلسطينية التي تستخدمها لمناكفة إسرائيل وأمريكا، وللحصول على أوراق ضغط في المنطقة تستخدمها حين تشاء.

 

إيران لم تدخل في حرب مباشرة سوى مع بلد عربي هو العراق، وهذه الحرب فرضت عليها وخسرتها عسكرياً، ولكن مع كل هذه الجعجعة التي نسمعها، فإن إيران لم تقتل جنديا اسرائيلياً أو أمريكياً واحداً بشكل مباشر!

 

السؤال الذي يطرحه بعض النشطاء حالياً: ما المطلوب من إيران، ولماذا تزاودون عليها؟!

في الحقيقة، علينا قبل أن نجيب على هذا السؤال أن نقول وبمنتهى الصراحة والتجرّد، أن اللوم الأساسي في هذه الإشكاليّة يقع على القيادة الفلسطينية -سلطة التنسيق الأمني- ومن خلفها كل القيادات العربية التي خذلت فلسطين والفلسطينيين، وربطت سياساتها واقتصاداتها بالولايات المتحدة والغرب، وبالتالي أصبحت في شراكة استراتيجية مع رأس الحربة الأمريكية في المنطقة – دولة الاحتلال – بشكل مباشر أو غير مباشر، برضاها أو رغماً عنها!

وعلينا أيضاً أن نلوم القيادة السورية التي كانت تدّعي الوطنية ومعاداة الامبريالية، ثم وقعت في شرك إيران وروسيا بعد أن حرقت الشجر والحجر في سبيل البقاء في السلطة.

وعلينا أن نلوم النظام المصري، والسلطة العسكرية العميقة التي وقفت في وجه الثورة المصرية، وحولت البلد إلى وكالة مفتوحة لكل من يرغب بالدخول في المزاد على مقدراتها.

وأخيراً علينا أن نلوم إيران ذاتها على شق الصف العربي، وتدمير العراق من الداخل ثم تسليمها للمتشددين والمتعصبين الموالين لها.

ولولا هذه المأساة التي نعيش في ظل غياب العراق وسوريا ومصر، وقمع الثورات الشبابية العربية، وتكميم الأفواه، والتهديد بالفقر والفوضى والحروب الأهلية، ولولا خيانة فتح الثورة، وتحوّلها إلى سلطة قمع وتدجين، لما وصلنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.

ولو وجدت الفصائل الفلسطينية، من يدعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لما ارتمت في أحضان القمقم الايراني ولما تجرأت إيران على استغلال القضية الفلسطينية في البروباجاندا الخاصة بها.

وللإجابة على السؤال المطروح آنفاً، لا نريد شيئاً من إيران سوى أن تترك القضية الفلسطينية للفلسطينيين وأن تقلع شوكها بيدها!

 

القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين وأهل غزة لا تعني إيران في شيء، تماماً كما أن معاناة الأوكرانيين لا تعني شيئا لأمريكا وللغرب، ولكنها المصالح السياسية ولعبة التناقضات! ولهذا نقول إن إيران وما يقال عنه محور المقاومة، لا يعوّل عليه، ولكنها المصالح الآنيّة. بل إني سأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن إيران لا ترغب في تحرير فلسطين -ولو نظرياً-، إذ لا يوجد لإيران أية مصلحة استراتيجية في القضاء على اسرائيل، إلا في حالة واحدة فقط، أن تكون هي الوكيل على فلسطين!

 

من ينتظر أن تقوم إيران بردٍ ساحق وماحق، لاسترداد ماء الوجه أو لنُصرة أهل غزة، هو واهمٌ، ففلسطين لن ينصرها سوى الله وبأيدي المخلصين من أبنائها، ولن يُكتب هذا النصر لأي مُدّعٍ أو منافق أو طامعٍ، وأختم بالقول إن طريق القدس حتماً ويقيناً لا يمر بكربلاء ولا بحمص ولا بحلب!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-9-2024


رابط المقال على القدس العربي