الأربعاء، 17 يونيو 2020

بين "قيصر" و "قانون قيصر"





ابتداءً من السابع عشر من شهر حزيران الجاري، تبدأ الولايات المتحدة فرض حزمة من العقوبات الاقتصادية على سوريا، طبقاً لقانون قيصر.
وتطال هذه العقوبات المؤسسات الحكومية، والبنك المركزي، وكل الجهات التي تتعاون مع النظام السوري، على مستوى الشركات والأفراد من داخل وخارج سوريا.
وقد تم التصديق على قانون قيصر بداية هذا العام، تحت ذريعة حماية المدنيين في سوريا، وضمان عدم تعرضهم لجرائم حرب، وتستمر فعاليته لعام 2024.

"قيصر" هو الاسم الرمزي الذي أطلق على أحد أهم الضباط المنشقين عن النظام السوري والذي شغل منصب لواء في وزارة الدفاع السورية، واستطاع توثيق جرائم النظام ضد المعتقلين السياسيين، من خلال توثيق ملفات أكثر من أحد عشر ألف ضحية، قضوا نحبهم تحت التعذيب أو بسبب الجوع وسوء الرعاية الصحية أو التصفية الجسدية المباشرة.
استطاع قيصر الهروب من سوريا، وتسريب هذه الملفات التي احتوت على أكثر من خمسين ألف صورة للضحايا، وأرقامهم التسلسلية وظروف وأماكن اعتقالهم، بعد حفظها على أقراص ممغنطة وتسليمها إلى مجموعة من المحامين الدوليين والنشطاء الحقوقيين، في واحدة من أهم العمليات التي وثقت جرائم النظام وكانت كفيلة بإدانته بعمليات التعذيب والقتل الجماعي.
ولكن للأسف، فإن الملف القانوني الذي يربط النظام السوري والرئيس بشار الأسد مباشرة بتوجيه أوامر مكتوبة لخلية إدارة الأزمة، تلك الأوامر التي تم تنفيذها من قبل الضباط الميدانيين، فشل في الوصول إلى المحكمة الجنائية الدولية عبر مجلس الأمن عام 2016، بسبب تهديد روسيا باستخدام حق النقض "الفيتو".

وبالعودة إلى العقوبات الاقتصادية الأمريكية، التي أقرتها منفردة على النظام السورري، نظراً للانقسام الدولي حول موضوع سوريا، هذا الانقسام الذي بات من الواضح انه اختلاف حول تقسيم الكعكة، ولا علاقة له من قريب أو بعيد بالدفاع عن الشعب السوري، أو قيم العدالة والحرية، فإننا نجد ان هذه العقوبات هي عقوبات اقتصادية محضة، ولا تحتوي على أي خطوة على الأرض تضمن حماية المدنيين أو الدفاع عنهم، أو توفير مناطق آمنة لهم كحد أدنى.
وبالتالي فهي بشكل أو بآخر، أدوات فاعلة في يد الولايات المتحدة، لضمان حقوقها في عقود إعادة إعمار سوريا، وفرض رؤيتها لسوريا ما بعد الأسد، أي أنها عقوبات ذات دوافع سياسية وليست إنسانية كما يروّج لها.

مع بدء تنفيذ هذا القانون، ستخضع المصارف السورية بما فيها البنك المركزي لعمليات مراقبة وتدقيق للتأكد من عدم وجود شبهات تبييض أموال، كما يعطي القانون الصلاحية لفرض عقوبات على الأشخاص والشركات الأجنبية التي تقدم الدعم المالي أو اللوجستي والتقني للنظام السوري، وهذا البند يهدد مصالح حزب الله وإيران و روسيا مباشرةً. كما يهدد هذا القانون قطاع الصناعات والانتاج المحلي من الغاز والبترول وتشغيل الآلآت والمعدات العسكرية .

وتتلخص شروط وقف العقوبات بوقف عمليات القصف ضد المدنيين، وقف قصف المنشآت الصحية والمرافق الحيوية، إطلاق سراح المعتقلين السياسيين، عودة اللاجئين، ومحاسبة مرتكبي جرائم الحرب في سوريا.

ورغم جدية هذه الشروط للوهلة الأولى وما توحي به من حرص شديد على حياة المدنيين وعودة السلم إلى البلاد، إلا أن المفارقة في أن القانون نفسه يمنح الرئيس الأمريكي الحق في وقف العقوبات إذا ارتأى أن أطراف النزاع قد دخلوا في مفاوضات "جديّة"، أو أن التهديد على حيوات المدنيين لم يعد موجوداً، وهو ما يؤكد مجدداً الرغبة الحقيقية للادارة الأمريكية، في التحكم في إدارة الصراع في سوريا، وضمان مصالحها لا أكثر.

إرهاصات قانون قيصر بدأت بمجرد قرب موعد تنفيذه، حيث انهارت الليرة السورية، وبدا النظام عاجزاً عن ايقاف مسلسل انهيار الاقتصاد المحلي في وجه التحديات الجديدة، لا سيما أنه سبق له أن رهن جميع مقدرات البلد للحكومات والحركات التي دعمته خلال الصراع، حيث باتت جميع ثروات ومصادر البلد الطبيعية، مرهونة لجهات خارجية، عبر عقود طويلة الأجل، ناهيك عن القواعد العسكرية والموانىء، وحقوق الاستثمار التي تنتهك السيادة الوطنية، مما جعل البلاد على شفا حفرة من الانهيار التام واعلان الإفلاس (إن جاز ذلك).

غالباً ما تنجرّ الأنظمة الطاغية وراء الدفاع عن مصالحها بأي ثمن، دون اعتبار لمصلحة البلاد أو العباد، وشعارها (أنا ومن بعدي الطوفان)، وقد قالها شبيحة النظام منذ اليوم الأول (الأسد أو نحرق البلد)، وقد نفذوا وعيدهم حرفياً!.
وخلال فورة الطغيان هذه، يدخل على الخط أدعياء المحبة والسلام والمحافظة على حياة المدنيين، فيقوم كل طرف منهم بحماية مصالح بلاده الاستراتيجية من خلال تغليفها بغلاف القانون الدولي وشعارات الحرية والعدالة، وتبقى الحلقة الأضعف (الشعوب المستضعفة)، التي لا ذنب لها إلا انها أرادت ان تعيش بسلام وتطالب بدولة مدنية، تحترم الانسان وتراعي حرية الفكر والمعتقد ولا تمارس التمييز، وتخلو من الفساد.

النظام السوري نظام متهالك بقانون قيصر أو بدونه، وهي مسألة وقت لا أكثر حتى ينهار هذا النظام على عروشه الخاوية، ويبقى الأمر مرهون بوعي الشعب السوري، وإدراكه حجم التضحيات التي قدمها من أجل العيش في حرية وسلام وعدالة، لتحقيق التغيير الحقيقي بما يضمن المصالحة الوطنية، وترسيخ مبادىء العمل الحزبي وحرية الرأي، وإعادة ممتلكات هذه الدولة التي تنازل عنها نظام لا يمتلك الشرعية.

إن أي حركة إصلاحية تطالب بالتغيير تُقذف في البداية بلائحة طويلة من الاتهامات على شاكلة (زندقة، مؤامرة ، حركة مجنونة طائشة)، لكن سرعان ما ينتصر التغيير بفعل الزمن الذي لا يقبل الركود، فيتم الاحتفاء لاحقاً بتلك الحركات وأبطالها.
وتكمن المفارقة في أن معظم هؤلاء الأبطال لا يعيشون الحلم الذي راودهم، بل يغادرون قبل ذلك، ولكنهم يجعلون من العالم مكاناً أفضل لمن بقي وراءهم، تلك هي رسالتهم وذلك هو قدرهم.
إلى قيصر وكل من ساهم في كشف زيف هذا النظام وتعرية وجهه القبيح، إلى حمزة الخطيب طفل درعا، وإبراهيم قاووش مُغني الثورة، إلى السجناء والمعتقلين والشهداء، والمدنيين الأحرار الذين أنشدوا في الميادين (الله، سوريا، حرية وبس) إلى هؤلاء وأمثالهم نقف إحتراماً وإجلالاً.

  
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
15-6-2020

الأربعاء، 3 يونيو 2020

تجديد الخطاب الديني بين التفسير والتأويل




وفّرت منصات التواصل الاجتماعي حرّية التعبير لمرتاديها، وأصبح بالامكان نشر الثقافة والوعي والقيم الانسانية على أوسع نطاق دون قيود أو حدود، ولكن وبشكل موازٍ أصبح بالامكان كذلك نشر الجهل والمعلومات المغلوطة دون حسيب أو ررقيب.
والخطاب الديني ليس استثناءً هنا، فكان أن انتشرت منشورات ودراسات يدّعي أصحابها أنهم ينتهجون نهجاً معاصراً لتدبّر التنزيل الحكيم وإعادة تفسيره حسب معطيات العصر، مُستغلّين هذه المنصات التي توفّر لهم جمهوراً واسعاً من المُتلقّين، بعيداً عن الرقابة والتدقيق والتمحيص، ومن هنا بدأ الخلط بين الغث والسمين، وطفت على السطح شطحات فكرية ونظريات عجيبة غريبة!
وإن كنّا ندعو إلى تجديد الخطاب الديني، ونقد التراث الديني بما يضمن تصحيح المفاهيم الخاطئة وتغيير حالة الجمود والانغلاق الفكري، إلا أن ذلك لن يحدث بدون منهجية علمية صحيحة وقواعد ثابتة تؤسس لقفزة معرفية.

اعتمد المفسرون الأوائل على علم "التفسير" الذي وضعوا قواعده ضمن علوم القرآن، وما يزال المفسرون التقليديون إلى يومنا هذا يعتمدون على هذه القواعد ويعتبرونها مُسلّمات لا تقبل النقد أو التجديد.
فيما اعتمد "النشطاء المُجدّدون" إن صح التعبير، على اجتهاداتهم الفكرية الخاصة واعتبروا ذلك تحقيقاً للتوجيه الالهي بتدبّر القرآن وتأويله، ولكنهم رفضوا قواعد علم التفسير كلّيّةً، في الوقت الذي لم يقدموا فيه بديلاً "مقبولاً" ، أي أن معظمهم لم يأتِ بمنهجية معاصرة بقواعد ثابتة يمكن الاحتكام إليها لفض أي خلاف حول الاجتهادات التي يأتون بها، وهذا بالطبع يعطيهم مساحة أوسع للحرية التي تُمكّنهم من إسقاط أفكارهم الشخصية وقناعاتهم التي ربما تكون إيجابية وذات نوايا حسنة، إلا أنها تفتقد للمنهجية، مما أدّى في النهاية إلى حالة "فلتان فكري".

وأني أرى أن الحلقة المفقودة هنا، هي الجمع بين التفسير والتأويل، من خلال الالتزام بقواعد علوم التفسير التي لا تتناقض مع الأسس المعرفية التي وصلنا لها، ومن ثم تطبيق منهجية الاجتهاد والتأويل ضمن أصول معرفية لا عشوائية.

ولتوضيح ذلك دعونا نستعرض سريعاً معنى التفسير والتأويل وضوابطهما.

التفسير


لم ترد كلمة "تفسير" بمعناها الاصطلاحي في كتاب الله، على عكس كلمتي التأويل والاستنباط، ولكن دعونا نستعرض قواعد "علم التفسير" التي لا يمكن تجاوزها والقفز الى مرحلة الاجتهاد في النص دونها:

أولاً الالتزام بقواعد اللغة العربية والاعتماد على معاجم اللغة للربط بين الكلمات وأصولها وبين معانيها ودلالاتها، فالتنزيل الحكيم استخدم اللغة العربية كوعاء، ورغم أنه ارتقى بها وأثرى مفرداتها اللغوية وأعطاها بعداً جديداً، إلا أنه لم يتعارض مع قواعد اللغة ولم يقفز عنها.

ثانياً دراسة مناسبات النزول وفهم الجيل الأول لها، لأن فهم مناسبات النزول وربط التنزيل بالواقع المعاش ضروري لاستنباط الحكم الخاص للآيات.
ولكن هذا الفهم لا يجب أن يكون سقفاً لنا، إذ يجب علينا بعد ذلك، الاجتهاد في إدراك الحكم العام للآيات كما نفهمه نحن في يومنا هذا، وكما يمكن تطبيقه ضمن قواعدنا المعرفية وظروف عصرنا.
بمعنى آخر، علينا أن نربط بين التنزيل الحكيم وواقعنا المُعاصر كما قام المسلمون الأوائل بفهمه وربطه بواقعهم، لا العكس، فليس المطلوب اجترار أو استنساخ الواقع المعاش في القرن الأول للهجرة.

 التأويل

هو الربط بين المقدّمات والنتائج لازالة الالتباس، فحين نقرأ عبارة (تأويل الأحاديث) نفهم أن سيدنا يوسف كان يربط بين الحديث الذي يرويه الشخص عن رؤياه وبين مآل هذه الرؤيا أي كيفية تحقّقها على أرض الواقع.
ونفهم أيضاً أن سيدنا موسى عجز عن الربط بين تصرفات العبد الصالح وبين مفاهيمه الدينيّة وقيمه الانسانية الذاتية، فوقع في نفسه ذلك الالتباس، وحين جاءه التبيان زال الالتباس (ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً).

يمكن القول إذاً أن التأويل هو الربط المنطقي بين مُعطيات النص ومُعطيات العصر، وهذا يتطلب الاعتماد أولاً على قواعد التفسير المذكورة سابقاً، مع إضافة بُعدٍ آخر يتمثل في التدبّر والتأمل والاجتهاد الشخصي -حركة الذهن- بالاعتماد على البصيرة والعلم والمعرفة.
أما التأويل الذي يعتمد على الميول الأيدلوجية والأهواء الشخصية دون نهج، فهو التأويل المذموم والمنهي عنه (فأما الذين في قلوبهم مرض فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله).

وما يساعدنا على تحقيق ذلك الاجتهاد، أن نعامل التنزيل الحكيم بما يليق به من قدسيّة نصٍ وصلنا من خالق هذا الكون، وهو بذلك لا بد أن يحتوي الدقة والبيان والتفصيل والاعجاز في نظمه، لذا لا يصح معاملته معاملة الأدب أو الشعر والظن أن مفرداته تحتوي على الترادف (استخدام أكثر من مفردة للدلالة على ذات الشيء) أو الاطناب والحشو الزائد، فكل مفردة في التنزيل لها وظيفة تؤديها في المعنى والبيان ولا بد من إدراك ذلك كي يستقيم فهمنا لها.
ومن أبرز العلماء الأوائل الذين أسّسوا لهذه القاعدة "إبن جني" و "الجرجاني" اللذان عاشا في القرن الرابع والخامس الهجريين على التوالي، وقد سبقهم العالم "ثعلب النحوي" في القرن الثالث هجري حين قال: (ما يُظنّ في الدراسة اللغوية من المترادفات هو من المتباينات).

لذا يمكن القول إن الاجتهاد أو التدبّر يشترط عدم الاعتماد كلية على النقل والمرويّات لتفسير آيات الكتاب كما اعتمد عليها المفسرون الأوائل حين انحصرت مهمتهم في تبيان المرويّات والتفضيل بينها، بل يجب إعادة فهم الآيات بمفهوم عصرنا ضمن قواعد تجمع بين التفسير والتاويل.

كما يفيدنا أيضاً، جمع الآيات موضوعيا (ترتيل الآيات) ودراستها من أجل ربطها موضوعياً والاجتهاد فيها على عكس ما فعله المفسرون الأوائل حين فسّروا الآيات بناءً على الفهم التاريخي لها حسب ترتيب النزول، لا بالفهم الموضوعي لها.

 وهذا الترتيل يتيح لنا فهم النصوص من خلال مقاربتها، فالتنزيل الحكيم لا يناقض بعضه بعضا بل انه يفسر بعضه بعضا، وهذا الترتيل من شأنه أيضاً أن يرفع شبهة الناسخ والمنسوخ، فكتاب الله لا ينسخ بعضه بعضاً، بل يُكمل بعضه بعضاً.

وتجدر الاشارة أيضاً إلى مفهوم آخر ورد في التنزيل وهو الاستنباط، الذي يعتبر منوطاً بالأحكام الشرعية والاجتهاد فيها، ومن الخطأ الاعتقاد بأن مسؤولية استنباط الأحكام الشرعية يجب أن تبقى محصورة في علماء الشريعة فقط، ففي عصرنا الحاضر لا يمكن الاجتهاد في تطبيق الأحكام الشرعية (مصارف الزكاة، الربا والفوائد، الإرث والوصية والتبنّي، القتل الرحيم، تعدّد الزوجات، حقوق المرأة....إلخ) دون الإحاطة بعلوم الاجتماع والسلوكيات والاقتصاد والطب والتكنولوجيا..الخ، ومن هنا نقول إنه قد آن الأوان لتشكيل مؤسسات تشريعية خاصة بالأحكام تضم متخصصين في كل العلوم الانسانية، بحيث يتم استنباط الأحكام الفقهية المعاصرة وفقاُ لفهم مقاصد الدين والشريعة على ضوء إدراكنا وفهمنا للعلوم المعاصرة.

في النهاية أقول، إني قد ارتأيت وقد أنهينا للتو شهر القرآن والتدبّر في كتاب الله، ان أضع بين أيديكم هذه المحاولة المتواضعة لإزالة اللبس الواضح بين محاولات تجديد الخطاب الديني التي تحمل بُعداً فكريا حقيقياً، وبين محاولات ركوب الموجة التي خلطت الحابل بالنابل.
مع تأكيدي على وجوب النقد البناء لكل محاولات الاجتهاد ودحض الحجة بالحجة، أما من أخذته العزّة بعلمه وأفكاره التي يظن أن الله قد فتح بها عليه، دون إقناعنا بدايةً بصحة وسلامة منهجه، ودون التزامه بمنهج علمي وقواعد منطقية، فأننا نحكم عليه من خلال المنطق وسلامة المنهج، مهما بدت أفكاره لمّاعة وبرّاقة، ومهما كان لسانه فصيحاً.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
2-6-2020