بعد اندلاع الثورة السورية، وقمع النظام السوري للمظاهرات السلمية، اختلفت حماس مع النظام السوري وما يعرف بمحور المقاومة والممانعة، بسبب موقف حماس المُساند لمطالبات الشعب السوري بالحرية والتعددية الديمقراطية.
وحينها انبرى تيار الناشطين المؤيد لحلف المقاومة والممانعة –أو ما يعرف بالقومجيين العرب- بشجب موقف حماس وتوبيخ مؤيديها، مردّدين عبارة الشجب الرنّانة (لقد ضلّت حماس عن البوصلة!).
وللبوصلة قصةٌ أخرى، إذ أنها تشير إلى الموقف الثابت من دعم القضية الفلسطينية «برأيهم»، وهي مأخوذة من قصيدة لمظفر النواب قال فيها (بوصلة لا تُشير إلى القدس مشبوهة!) ثم تم استخدام هذا الشعار للإشارة إلى وجوب توحيد المواقف والرؤى باتجاه القدس، والقدس فقط، وكل ما لا يتوافق مع هذه «الرؤية» يكون قد ضلّ عن البوصلة!.
ونتيجة اختلاف الرؤى والمواقف واختلاف البوصلات، ساد بعض البرود بين القومجيين من جهة والمتعاطفين مع حماس والثورة السورية من جهة أخرى، رغم اتفاقهم المبدئي على قضية فلسطين.
قبل أيام، نشرت حركة حماس رثاءً وتعزية لقاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني الذي تم اغتياله من قبل القوات الأمريكية في العراق مؤخراً.
وقاسم سليماني هذا هو السلاح الذي تستخدمه طهران في مواجهاتها في المنطقة، وهو بلغة الصنعة العسكرية «جندي إيران في المنطقة». ونظرا لتشابك العلاقات وتناقضات التحالفات في المنطقة بسبب الربيع العربي، فقد اضطر هذا الجندي لأن يدوس على جماجم أطفال العراق وسوريا وكل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه المصالح الإيرانية-السورية-الروسية في المنطقة وبالطبع مصالح حزب الله الذراع العسكرية لإيران.
وبكل تأكيد كان المبرر لكل تلك المجازر التي ارتكبت هو شيء واحد، المقاومة والممانعة أو بمعنى آخر المحافظة على البوصلة!
وبعد أن شعر القومجيون العرب بنشوة تعاطف حماس وشجبها لاغتيال قاسم سليماني بدأوا بشتم ولعن كل من ابتهج بمقتل سليماني بل وكل من لم يشجب ويستنكر مقتله، قائلين هذه المرة، هل تريدون أن تختلفوا مع حماس أيقونة المقاومة والبوصلة الحقيقية لنا!
لقد نسي هؤلاء أو تناسوا أنهم اختلفوا مع ذات حماس وأن بوصلتهم لم تلتق مع بوصلتها من قبل، ولكن عذرهم الوحيد هو نشوتهم بتعاطف حماس (المفاجئ نوعاً ما) والذي لربما أسكر عقولهم!
حين رثت حماس قاسم سليماني وضعت في اعتبارها مصلحتها السياسية في المنطقة، مستذكرةً الدعم العسكري واللوجستي الذي قدمه لها. صحيح أن حماس تعي مصالح إيران في المنطقة، ولكنها تعي أيضاً أنها تعاني من حصار عربي وأن خياراتها في المنطقة أصبحت محدودة، ولا يمكنها في أي حال من الأحوال نكران الدعم الذي حصلت عليه، كما أنها تعي أيضاً أن أمريكا لم تُقدم على اغتيال قاسم سليماني من أجل عيون العرب.
ولكن مشكلة هؤلاء الناشطين «القومجيين»، أنهم يعتقدون ان الحياة أبيض وأسود، وأن المواقف ثابتة بثبات أصحابها، لذلك تراهم يتخذون مواقف لا تحتمل المساءلة الفكرية او إعادة الاعتبار، فكل من هو معي هو مع الحق، وكل من يختلف معي هو مع الباطل، او بلغتهم عميل ونذل، أو إرهابي وداعم للتطرف!
فقاسم سليماني في نظرهم، هو مقاوم وشهيد وأحد رموز النضال ضد الإمبريالية، فقط لأنه جندي في خندق نظام الأسد وحزب الله.
غاب عنهم أن قاسم سليماني هو سفّاح في النهاية بغض النظر عن تموضعه في هذا الخندق أو ذاك، لقد فتك بالآلاف من المدنيين والأبرياء في سوريا والعراق واليمن وغيرها من المناطق بحجّة المقاومة والممانعة، وغاب عنهم أيضاً، أنه في النهاية كان ينفذ أجندة بلاده إيران، التي صدف أن اتفقت مع أجندة بشار وحسن نصر الله، وفي بعض الأحيان المقاومة حماس، رغم أن هذا يُعدّ في عالم السياسة (تحالفُ مصالح) لا أكثر، ولا يُعبّر بالضرورة عن أجندة وطنية أو أخلاقية، والدليل هو تحالف ذات الأنظمة والقيادات بل وذات الشخوص مع الإدارة الأمريكية عندما قررت احتلال العراق والقضاء على النظام هناك.
أما محاولة استجداء التعاطف لأن من نفذ العملية هي القوات الأمريكية، فهي حجة واهية لا تؤكد سوى سذاجة منطق هؤلاء، والذي يتمثل في ثبات البوصلة مع الأشخاص لا مع الحق، فمن يُقتل بواسطة «درون» أمريكي هو شهيدٌ ومقاوم، ومن يُقتل على يد ميليشيات إيران في المنطقة هو إرهابي ملعون!
سُئل الامام علي ابن أبي طالب في زمن الفتنة عن أصحاب الحق، فقد أصابت أتباعَه الحيرةُ وسرى الشكُ في نفوسهم حين وجدوا أنفسهم في مواجهة أتباع معاوية وهم يرفعون المصاحف وفيهم حفظة القرآن وصحابة الرسول، فقال لهم سيدنا علي بكل ثقة وسكينة بما مفاده: ابحثوا عن الحق واتبعوه تكونوا أصحابه، ولا تنحازوا للأشخاص بحثاً عن الحق.
فالبوصلة الحقيقية في النهاية، تعبّر عن الضمير الإنساني الذي يعتمد في الأصل على معايير الحق والباطل والقيم الإنسانية العليا، ومحلّها العقل والفؤاد والقلب وليس مع هذا الشخص أو ذاك.
يقول الله تعالى: (فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْـمَى الْقـُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّـدُورِ).
ومن السذاجة الاعتقاد أن أحداً أو جماعةً ما تحتكر الحق في جعبتها، وتمنح الصلاحية لأتباعها بدمغ الناس بختم الحق والباطل، كمن يمهر توقيعه على شيكات الصرف!
لقد ضل صاحبكم سليماني طريقه، فقائد فيلق «القدس» قُتل في العراق البلد العربي المسلم الذي احتلته إيران وميليشياتها بمساعدة الأمريكان أنفسهم، ولم يُقتل على أبواب القدس أو موانئ غزة، وبدلاً من العمل على تحرير القدس، قام بقمع المظاهرات الشعبية التي طالبت بحقوقها الأساسية، والتحرّر من قمع الأنظمة السلطوية، إذ شاءت الأقدار أن تلتقي مصالح أسياد هذا الجندي مع تلك الأنظمة السلطوية.
أرجوكم، احترموا عقولكم أولاً ثم عقولنا ثانياً ودعوكم من محاولات احتكار الحق، وتوزيع صكوك الغفران ومفاتيح الجنة، ومن باب أولى دعوكم من وصم من يختلف معكم بالعمالة والضلال عن البوصلة المقدّسة التي تعطّل مغناطيسها منذ أن قررتم الدوس على أحلام الشعوب إرضاءً لتحالفاتكم العبثيّة!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
7-1-2020
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق