"هيرو أونودا" كان ضابطاً في الاستخبارات
العسكرية اليابانية قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية، وقد تلقّى تدريبات مكثفة
في حرب العصابات والاستطلاعات العسكرية خلف خطوط العدو، وفي خضم الحرب العالمية
الثانية تم إرسال أونودا مع مجموعة من الجنود الى إحدى جزر الفلبين لتنفيذ عمليات
نوعية ضد القوات الأمريكية وجنود التحالف، بمعزل عن القيادة العسكرية ودون اتصال
مباشر، مع التقيّد بشرط واحد فقط (عدم الانسحاب وعدم الاستسلام أو الانتحار مهما
كانت الظروف!)
توزّع الجنود إلى فرق صغيرة وانتشروا في الجزيرة التي
يسيطر عليها الحلفاء وما لبثت ان انقطعت الاتصالات فيما بين تلك الفرق، وبقي
أونودا معزولاً مع ثلاثة جنود آخرين.
لاحقاً قصفت الولايات المتحدة اليابان بالقنابل النووية
واستسلم امبراطور اليابان، وأعلن هزيمة الجيش، ولكن أونودا وجنوده استمروا في
مناوشة العدو وإسقاط القتلى.
قامت الطائرات الأمريكية بإسقاط منشورات تُعلم الجنود
المتبقين على الجزيرة بانتهاء الحرب واستسلام اليابان ولكن أونودا ورفاقه لم يصدّقوا
وتمسّكوا بالعقيدة التي تربّوا عليها وبالميثاق الذي أُخذ منهم (لا تراجع ولا
استسلام مهما كانت الظروف!)
وبعد عام كامل من العمليات العسكرية على الجزيرة، أسقطت
الطائرات الأمريكية منشورات موجهة من قيادة الجيش الياباني وبالذات القائد الذي
أوكل لهم المهمة يناشدهم فيها بالاستسلام ويعلمهم بخسارة الحرب، بل قاموا أيضاً ببث
تسجيلات صوتية عبر مكبرات الصوت من عائلاتهم تستجديهم فيها بالعودة، وأبداً لم يفت
في عضدهم هذا الكلام، كما لم يغيّر من عقيدتهم!
استمر هذا الوضع
ثلاثين عاماً بالكمال والتمام، نعم ثلاثون عاماً مضت، لم يتبقّ بعدها على قيد
الحياة سوى أونودا، الذي تحوّل إلى أسطورة في مخيّلة اليابانيين ووسائل الاعلام.
انطلقت حملات كثيفة تبنّاها ناشطون وحقوقيون للعثور على
هذا الضابط الأسطورة أو تأكيد مقتله، وبالفعل نجح أحد الطلاب الجامعيين من محبي
المغامرة بالعثور عليه، وإقناعه بالاستسلام والعودة الى اليابان.
في عام 1975 عاد أونودا إلى اليابان بعد أن سلّم سيفه
"الساموراي" الى رئيس الفلبين، ولكن مأساة أونودا لم تتوقف عند هذا
الحد، بل استمرت إثر فشله في الانسجام والتأقلم مع قيم المجتمع
"الجديدة" وعدم قدرته على الانخراط في مجتمع اليابان الحديث.
غادر أونودا الى البرازيل وقام بنشر كتاب عن سيرته
الشخصية، وكان مهتماً في أواخر حياته في التعليم والتبرع للمدارس في اليابان ونشر
قيمه الوطنية بين أبناء الجيل الجديد، إلى أن توفي عام 2014.
يبدو أونودا وهو يقاتل وحيداً على تلك الجزيرة معزولاً
عن العالم الخارجي أنه قد تحوّل إلى دون كيشوت حقيقي يصارع طواحين الهواء. نعم
يبدو ذلك وصفاً دقيقاً إلى حد كبير.
عندما حدّثنا معلّم المدرسة الإعدادية عن قصة دون كيشوت
لم تُثر القصة عندي (على خلاف زملائي) السخرية من البطل بقدر ما أثارت تعاطفي
وإحساسي بالمأساة التي يعيش، فقد عاش دون كيشوت تناقضاً مُرّاً بين واقعه البسيط كمزارع
فقير هامشي، وبين أحلامه وأفكار الفروسية العظيمة.
يمكننا القول بشكل أو بآخر، إن أونودا عاش ذات المأساة وهو
يحاول الالتزام بعقيدته وعدم الحنث بولائه لوطنه رغم كل التغيّرات التي شهدها
العالم من نحوه، ورغم الهزيمة التي مُنيت بها بلاده، ومأساة متجدّدة تتمثل في
العيش في واقع لا يمت بصلة لعقيدة الفرد وقناعاته
ومبادئه، بشكل يدفعه إما للانخراط في المجتمع الحقيقي-المأساوي أو الاستمرار في
العيش في عالمه المثالي البعيد عن الواقع!
في هذه الأيام التي نعيش، لا أبالغ إذا قلت بأن كل من
يؤمن بالقضايا الوطنية وبالأخص القضية الفلسطينية إيماناً صادقاً وكاملاً، يعيش
مأساة أونودا أو دون كيشوت بشكل أو بآخر، فمع ما نسمعه من دعوات للتعايش مع العدو
الصهيوني والقبول بالتنازلات وإرهاصات صفقة القرن والوطن البديل، يكاد يكون كل ذلك
متناقضاً وبشكل مبدئي مع كل ما تربّينا عليه من قيم وعقيدة تقضي بعدم التنازل عن
ذرة تراب واحدة من الوطن، وبضرورة تحريره من البحر الى النهر.
ذاتُ القيادات العربية التي خرجت باللاءات الثلاث
الشهيرة في مؤتمر الخرطوم 1967 (لا سلام لا اعتراف لا مفاوضات) إما أنها قد فاوضت
أو وقّعت أو اعترفت أو أعلنت قبولها بمبادئ المفاوضات والسلام.
ومع الانقلاب المأساوي الذي أصاب منظمة التحرير
الفلسطينية وأدى إلى تحوّلها من حركة ثورية إلى سلطة محلية تمارس القمع والتجسس
والتعاون الأمني مع العدو الصهيوني، أصبح الفرد فينا في معزل عن هذا العالم
الخارجي، وتحوّل هو الآخر، إلى دون كيشوت جديد يُصارع طواحين الهواء، أو أونودا
جديد يمارس عمليات الاستطلاع بعد انتهاء الحرب!
في الأمس القريب، عندما تابعت عملية عمر أبو ليلى ربطت
في ذهني بين أسطورة أونودا وبين واقع الحال في فلسطين وعالمنا العربي. عمر أبو ليلى
وُلد في زمن الانبطاح، نعم زمن ما بعد أوسلو، فهو لم يولد من رحم عقيدة الثورة وشعارات
العاصفة، كما أنه لا ينتمي إلى أي حزب سياسي (رغم محاولات التسييس الإعلامية بعد
الحادثة) ولم يخضع لأي برنامج عسكري في أي فصيل، وهو أيضاً ليس من المتشددين
الأصوليين.
المفترض في شاب في عمر الورود نشأ في هذه الظروف أن تكون
اهتماماته مُنصبّة على ألعاب الفيديو والكرة العالمية، وأخبار النجوم، وأن يعتبر أن
المفاوضات والتنازلات هي السبيل الوحيد لتأمين العيش بسلام مع جيرانه، وأن تكون
أمنيته العمل لدى السلطة "الوطنية" في مكافحة "الإرهاب"، ولكن
الذي حصل أن عمر أبو ليلى أثبت للعالم أن الشعب الفلسطيني ما زال يؤمن بعقيدة الثورة
حتى النصر ويرفض الاستسلام، وأن هذه العقيدة تنتقل بالوراثة وعن طريق الدم دون أي
مجهود خاص بل إنها تنمو وتزدهر ضد كل محاولات التغيير والتهجين المستمرة، فترى
الوليد يولد فلسطينيا ثوريا على الفطرة!
ما أقلق مضاجع العدو وكل من يروّج لصفقة القرن
وإرهاصاتها، من عملية أبو ليلى، أن هذا الجيل الجديد، ما زال يرفض السلام
والاستسلام وتسليم الراية رغم أن زعماءه قد أعلنوا خسارتهم للحرب، ورغم أن القادة
الثوريين قد خلعوا لباسهم العسكري وارتدوا ملابس السهرة ووجّهوا نداءاتهم لكل
المقاتلين حول العالم، أن الحرب قد انتهت، ولكن أونودا الفلسطيني يرفض أن يُسلّم
بندقيته!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
7-4-2019