عانت أوروباً قديماً من التطرف الديني ومن تحكّم الكنيسة في الشؤون العامة
للدولة، والذي وصل ذروته مع انشاء الكنيسة الكاثوليكية لما يُسمّى ب"محاكم
التفتيش " التي راح ضحيتها عشرات الألوف على رأسهم عدد كبير من
الفلاسفة ودعاة الحداثة الدينية، وأمتد الصراع بين الظلاميين وحركات التنوير الى
ما يزيد عن قرنين من الزمان لغاية انطلاق الثورة الفرنسية والتي كانت المعركة
الفاصلة التي جيّرت الأمور لصالح الحداثيين وحركة التنوير الفكري، ومما يذكر أن
الثورة الفرنسية استمرت لما يزيد عن عشر سنوات وسقط فيها ما يزيد عن ثلاثين الف ضحية،
وشهدت مدّاً وجزراً بين الثورة والثورة المُضادة،
في نهاية الأمر وصلت
أوروبا الى مُبتغاها بوضع حد لما يُعرف بمرحلة "الحُكم
المُطلق" وتحرّرت من قيود الكنيسة ثم انطلقت جاهدة في رحلة البحث عن
التحضر والمدنيّة أملاً في تحقيق الحرية والعدالة لمواطنيها وفصل الدين عن
السياسة، والنتيجة هي ما نراها الآن من ازدهار وتطور على جميع الأصعدة ، أو كما
قال شيخنا الجليل "محمد عبده" (وجدتُ في
الغرب اسلام بلا مسلمين)، فجميع الشعارات النبيلة التي يدعو
الاسلام الى تحقيقها موجودة بالفعل ولكن دون مسلمين.
من الطبيعي لأي باحث في
قضية الساعة "الربيع العربي"
أن يسترجع ما مرت به أوروبا في آتون رحلتها في البحث عن هويتها الفكرية، ومقارنته
بما نمر به الآن في عالمنا العربي في ظل الثورات العربية، ولكن من الخطأ الاعتقاد
أننا نستطيع أن نبني نهضتنا بناءً على تجارب الآخرين حتى لو كانت ناجحة ومُبهرة،
فالاختلافات بيننا كبيرة وعميقة، فالثورات العربية انطلقت نتيجة أزمات تتعلق
بالظروف الاقتصادية الصعبة التي تعيشها شعوب المنطقة عدا عن الظلم والاستبداد الذي
تعرضت له هذه الشعوب باسم الوطنية تارة والقومية العربية تارة أخرى، كما أنه لم
يسبق الثورات العربية ثورة فلسفية كما كان الحال في أوروبا ولم يكن هناك أي صراع حضاري
بين المجتمع والسلطة الدينية كما كان الوضع في أوروبا،
من الملاحظ في الفترة
الأخيرة، تنامي تيار يساري مُتطرّف في منطقتنا العربية، في محاولة لمُحاكاة حركة
التنوير الاوروبية بالدعوة الى الحداثة والتنوير الفكري في مواجهة التطرف الديني، بمعنى
آخر محاولة تكرار الثورة التنويرية في أوروبا والانسلاخ من كافة الروابط الدينية تحت
شعار " لا يوجد تقدم فكري الا من خلال هدم كافة أشكال التديّن وبناء دولة
مدنية تحترم حرية الأفراد من منظور انساني بحت "، ومن سخرية القدر، أن يتحالف
هذا التيار مع الحُكم الديكتاتوري البوليسي في مواجهة الاسلام السياسي كما هو حاصل
في مصر وفي سوريا - مع بعض الاختلافات هنا وهناك – مما أدى في النهاية الى انحسار
الثورة الشعبية الحقيقية واختزال مطالبها الجوهرية الأساسية في هذين البلدين،
لا بد من الاعتراف بأننا
بحاجة الى مراجعة عقيدتنا وازالة كل الشوائب التي تراكمت عليها خلال قرون من
الزمن، وأننا في أشد الحاجة الى اعادة تشكيل المفاهيم الدينية لدينا واعادة
صياغتها بشكل حضاري معاصر يضمن في النهاية الفصل بين جوهر الدين و قشوره الظاهرية،
ولكن الهدف النهائي من هذا هو التجديد والوصول الى منهج اسلامي وسطي تنويري معتدل
يضم كافة الطوائف على اختلافاتها ويضمن المواطنة للجميع على اختلاف مذاهبهم
وطوائفهم ودياناتهم وانتماءاتهم، وليس خلع عباءة الدين والتديّن كما حصل في
أوروبا.
المنهج الديني الوسطي والاسلام السمح هو من سيقف في وجه التطرف
الديني، وليس المنهج العلماني اليساري الذي يدعو الى التحلل من "قيود"
الدين لمواكبة العصر، التعصب الديني يتم القضاء عليه بالفكر وبالاعتدال وبانتهاج
سنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي تعتمد على الوسطية يقول الله تعالى ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا ) ،أما محاولة تجريد الدين من جوهره
وانتاج دين "مودرن"
يتلاءم مع تطلعاتنا وأهوائنا البشرية، فهو كمن يحاول أن يصب النار على الزيت.
بالنظر الى النتائج التي آلت لها الثورات العربية ، يبدو جلياً
أننا على أعتاب ثورة فكرية عاصفة من أقصى اليمين الى أقصى اليسار ، الى جانب
صراعنا المرير ضد رموز الظلم والاستبداد في المنطقة، واذا أردنا أن نعبر الى بر
الأمان فعلينا أن نخوض هذه المعركة بأنفسنا وننتصر بها، ولا سبيل لهذا سوى بتحقيق
غايات الاسلام العليا المتمثلة باعتدال المنهج ونشر العدل والمساواة وتحقيق العدل
والتحلي بالأخلاق الحميدة، والحرص على بناء المجتمع، ولن تتحقق هذه الغايات ان لم
تنبع من داخلنا نحن الأفراد، وتنعكس بعد ذلك على مجتمعاتنا.
لسنا بحاجة الى حركة
تنوير أوروبية، بقدر ما نحن بحاجة الى ثورة تصحيح داخلية في المفاهيم الدينية
تُفضي الى نبذ التعصب والتشدد الديني، بالاضافة الى نبذ الارهاب والتطرف الديني مع
التمسك بثوابت الدين وجوهره.
أيمن أبولبن
31-5-2014