الأربعاء، 1 يناير 2025

الخوف من القادم، ماذا بعد الأسد؟!

 



 

 

على طول سنوات الثورة السورية، استمر القومجيون والوطنيون العرب في تكرار الأسطوانة المشروخة؛ ماذا بعد الأسد؟ وكيف يمكن ضمان أن "العهد الجديد" سيكون خيراً من سلفه؟!

ولعل هذه المغالطة -غير المنطقية- التي تُستخدم من أجل الجدال لا الحوار، استمرت -على غير ما يفرضه المنطق- إلى ما بعد سقوط الأسد، فتعالت الأصوات فجأة مُذكّرةً بأن الجولان محتلٌ ، وأن النفوذ التركي يمتد إلى شمال سوريا، وأن العدو الصهيوني يقصف المطارات والمنشآت السورية، دون أن يحرك الثوّار ساكناً.

ولكن هؤلاء لم ينتبهوا أنهم يدينون أنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فالجولان السوري محتلٌ منذ عام 1967 أي منذ سبعةٍ وخمسين عاماً، والشمال السوري لا يخضع للنظام منذ نحو عشر سنوات، وأن الضربات الصهيونية مستمرّةٌ منذ عهد الأسد البائد، بل إن الشعوب العربية كانت وما تزال تتندّر على تصريحات حزب البعث والقيادة السورية "سنرد في الزمان والمكان المُناسبين" وكانت مشيئة الله أن يبقى هذا التهديد حبيس الأدراج والمؤتمرات الصحفيّة وكتب التاريخ، ليكون شاهداً على هذا النظام المُتخاذل الذي استخدم ماكينته الإعلاميّة للترويج لوطنيتّه المزعومة وبطولاته الوهميّة على غرار "دون كيشوت"، ولتسجّل ذاكرة الشعوب بأن هذا النظام الذي صدّع رؤوسنا بالمقاومة والممانعة ومواجهة الإمبريالية، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل أو أمريكا وحلفائها طوال واحدٍ وخمسين عاماً!!.

 

بوصلةٌ لا تشير إلى القدس مشبوهة

 

لم يكن مظفّر النوّاب - رحمة الله عليه – يعلم أن مقولته الشهيرة هذه ستصبح مطيّة لكل الطواغيت العرب، يُجيّرونها لمصلحتهم، ويستغلونها أبشع استغلال، لدرجة أن سئمت منها منتديات الحوار ومنابر الإعلام.

 

لقد تم رهن كل مشاريع النهضة في البلاد العربيّة، وكل مشاريع التحرّر وإرساء الديمقراطيّات والتعدّدية الحزبيّة، بتلك البوصلة، والتعلّل بأن الأولوية بل الأولوية القصوى هي السعي لتحرير القدس، وإفشال المشروع الصهيوني!

 

رزحت سوريا تحت خط الفقر وتم احتكار الساحة السياسية بيد أوليغارشيا البعث الحاكم، وتم مصادرة الحريّات، وتكميم الأفواه، ورمي الأبرياء في السجون والمعتقلات، وتعذيبهم وسلخهم، وكبسهم في مكابس الإعدام، والتخلّص من جثثهم، بحجّة البوصلة المشبوهة!

 

اغتصبت النساء، ويُتّم الأطفال، واقتلعت الحناجر، ومزّقت الأشلاء، لأن بوصلةً تشير إلى "الله، حريّة، سوريا وبس!" هي بوصلة مشبوهة!

 

لم يكن طريق القدس يوماً مُعبّداً للطغاة والديكتاتوريين، بل على العكس تماماً، من يسعى للحريّة ونُصرة أهل القدس، عليه أن يكون مؤمناً أصلاً بحريّات الشعوب، وبقيم العدالة والحريّة والمساواة، وكل من لا يتحلّى بهذه الصفات ويدّعي أنه سائرٌ على طريق القدس، ما هو إلا مخادعٌ ومنافق.

إن طريق القدس مشروطٌ ببناء دولٍ ديمقراطيّة تراعي التعدّدية وتضمن حرية الرأي وحريّة الفكر، ولا يخشى مواطنوها من العقاب أو السجن أو التعذيب، تمارس فيها الشعوب حرية التعبير ويتمتعون بسلطات دستورية لانتخاب من يحكمهم.

أما أكذوبة الحكم بالنار والحديد، من أجل الحفاظ على بوصلة القدس، فما هي إلا عذرٌ أقبح من ذنب!

 

آن لنا أن نفهم تلك الخدعة، التي ما عادت تنطلي على أحد، لن يحرّر القدس سوى أبناؤها والأحرار من إخوانهم، وكل من يستغل القضية الفلسطينيّة -الأسمى والأنقى على مرّ كل العصور- لمآربه الخاصة، سيكون مصيره الذل والخنوع، والهزيمة، ولن يذكره التاريخ إلا بأبشع الصور!

 

أعود إلى عنوان المقال والحديث عن مرحلة ما بعد الأسد. فأقول ليس مهماً اليوم البحث عن كيفية سقوط نظام الأسد بهذه السرعة، والسلاسة، أو عن أجندة الثوّار، وتاريخهم، ليس هذا هو المهم بقدر أهميّة الحديث عن دور الشعب السوري والمخلصين من أبنائه في قيادة هذه المرحلة، والعبور منها إلى مرحلة الأمان والاستقرار، وصولاً إلى مرحلة الدولة المدنيّة التي تنعم بالتعدّدية السياسية وحرية الرأي والفكر، والعدالة والمساواة.

 

ولعل من المهم الإشارة، إلى أن أي مرحلة تجديد وتغيير يرافقها الكثير من المصاعب، والتحديّات، وهذا لا يعني أن خياراتنا كانت خاطئة، أو أن يغزونا اليأس مبكّراً، على عكس ما يردّده المُرجفون والخوّافون هذه الأيام، فالتاريخ أثبت لنا أن التضحيات والعطاء والصبر، هو السبيل الوحيد لنجاح الثورات والنهضات الحضارية على مر العصور، ولولا صبر الفئة المؤمنة القليلة، وبأسها لما انتشر دين الله والرسالات السماوية، في بقاع الأرض.

 

ومن هنا أقول إن الكثيرين للأسف من مثقفي هذه الأمة، ومنذ اليوم الأول للثورات العربيّة، استكانوا إلى وضعهم القائم، وردّدوا جوراً وبهتاناً أن الذي تعرفه خيرٌ ممّن تجهله، وأن الإبقاء على الأنظمة -البوليسيّة الديكتاتورية- هو أفضل من المجهول!

ولعمري لو عاش هؤلاء في أي زمن آخر من أزمان الثورات الكبرى، أو الدعوة لدين جديد، لكانوا من الخوالف والمرجفين والمنافقين!

 

اليوم هو عهدٌ جديد في المنطقة، وعصر لا مكان فيه للمتشككين والمتخوّفين، والمنظّرين، وأصحاب الشعارات، والأبواق الإعلاميّة، بل هو عصر الجد والبذل والتضحية والعطاء، والبناء، والتأسيس لنهضة جديدة، قد لا يكون لجيلنا نصيبٌ أن يعيشوا هذا الحلم لنهايته، ولكننا اليوم مسؤولون عن تأسيسه، وبنيان قواعده.

 

ولنا في سيرة الأنبياء وعظماء التاريخ أسوةٌ حسنة، فسيدنا محمد وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة، بشّر صاحبه بمُلك كسرى، رغم أنه في تلك اللحظة لم يكن يأمن على حياته!

أما عمر المُختار فقد تم أسره ثم شنقه على أيدي الاستعمار الإيطالي، ولكنه زرع بذرة النصر في الثوّار، والرغبة في التحرير، فكان له ما أراد.

هذه هي الرؤية وهذا هو الحلم الذي علينا أن نتمسك به، ونبشّر به الأجيال القادمة.

 

إن المستقبل و "القادم" لسوريا مرهون بقدرة الشعب السوري على التعافي من حقبة الأسد الدمويّة، وسرعة التحوّل إلى ثقافة البناء والإصلاح، وتأسيس الدولة، ومشروطٌ كذلك بقدرة الدول والشعوب العربيّة على دعم السوريين في تجربتهم الجديدة، وإن كان هناك مؤامرة على سوريا والسوريين، فلا يوجد أخطر من تلك المؤامرة التي تحاول إيهام السوريين بأن الماضي أفضل!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

13-12-2024

رسالة السنوار الأخيرة، قاوم ولو بعصا!

 



 

 

يستمر العدو الصهيوني في غبائه الإعلامي المستمر، الذي إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على عقليته السيكوباتيّة المريضة!

فقد حاول أن يُظهر يحيى السنوار بأنه مكسورٌ منهزم ذليل في آخر لحظاته، محاصرٌ في مبنى مهجور، ثم جثةً هامدة بعد أن قُصف المبنى الذي حوصر فيه.

ولكن الحقيقة أن هذه الصور قد خلّدت صورة السنوار  في ذهنية الشارع العربي، في أبهى صور المقاومة وعدم الاستسلام.

لقد أعتقل يحيى السنوار وعمره سبع وعشرون عاماً فقط، ثم خرج وهو على أعتاب العقد الخامس، ولكنه طوال الفترة التي قضاها في السجن كان دائم التفكير في الوطن وكيفية تحريره من الاستعمار الصهيوني، فقام بدراسة المجتمع الإسرائيلي واستطاع ان يفهم عقليته بل وتمكّن من تعلّم اللغة العبريّة وبدأ التحدث بها بطلاقة، وكان حريصاً على استثمار الوقت، وكأنه في سباق مع الزمن، وقد تحدّث الكثيرون عن حرصه على ارتداء ساعة يده حتى وهو في المعتقل، رغم ان الوقت لا معنى له خلف القضبان، فما بالكم بسجينٍ حُكم بالمؤبد أربعة مرات مع خمس وعشرين عاماً إضافية!

 

خرج السنوار من السجون الإسرائيلية بعد اثنين وعشرين عاماً، وهنا بدأ سباقه الحقيقي مع الزمن، وكان أول أمر استدعى انتباهه هو ذلك السياج الذي يحيط بغزة ويحاصرها، فسأل رفاقه قائلاً لماذا لا تكسرون هذا السياج؟! قالوا له إن الأمر معقد أكثر مما تظن، فقال "سأكسر هذا السلك!!"

 

هل كان من باب الصدفة أن صور استشهاده أظهرت لنا بكل وضوح ساعة يده التي يحرص على ارتدائها دائماً مراعياً الوقت، جاهداً لاستغلاله في أفضل صورة، حتى وهو محاصر في غزة، تحت الأرض وفوق الأرض، وحتى وهو يخوض معركته الأخيرة!

وهل كان من باب المصادفة، أنه في اشتباكه الأخير مع العدو، "كسر السلك" وربطه على ذراعه اليمنى التي أصيبت إصابة خطيرة حتى يوقف النزيف، كي تترسّخ صورته في اذهان أجيال كاملة، بأنه من "كسر السلك" في مواجهة الصهاينة مرتين، مرّة حين حطّم السياج وكسر صورة "الجيش الذي لا يُهزم"، ومرّة حين حاصره جنود العدو المدججين بالسلاح، فلم يفقد رباطة جأشه، واستطاع رغم كل الجراح التي أثخنت في جسده، من أن يحاول ترميم ذراعه ووقف نزيفها، حتى لا يفارق الحياة، قبل ان يرمي بآخر ما في جعبته!

 

لا أعتقد أنها من باب المصادفة، فرسولنا الكريم قال من عاش على شيء مات عليه، وهذه النهاية بهذه التفاصيل، وكل هذه الرمزيات في المشهد، لم تكن عفويّة بالمرة، بل هي نتيجة عقيدة ومنهج عاش عليهما حياته كلها، واستشهد في سبيلهما.

 

هناك صورة شهيرة جدا للسنوار وهو يتحدّى الاحتلال جالساً على أريكة ممزقة على أنقاض منزله الذي دمّر من القصف الإسرائيلي، مبتسماً، ولسان حاله يقول هنا باقون ما دام الزعتر والزيتون!.

وفي لحظاته الأخيرة، لجأ السنوار إلى منزل آيل للسقوط، يلتصق الغبار فيه بأنفاس الهواء، كانت يده اليمنى معطّلة عن الحركة، مربوطة بسلك كي لا تسقط، بكل معنى الكلمة، وقدمه اليسرى مصابة إصابة شديدة، تمنعه من الوقوف، فكان أن توجه إلى أريكةٍ ممزقة أكل عليها الدهر  وشرب، فجلس عليها، متحدياً جنود الاحتلال مرة أخرى، متسلّحاً بحُطامٍ من أثاثٍ مكسور، ألقاه على مسيّرة إسرائيلية أرسلها جنود جبناء، لم تمدّهم ترسانتهم بالثقة اللازمة لاقتحام المبنى بأنفسهم!

كانت رسالة السنوار الأخيرة لنا جميعاً: قاوم ولو بعصا، قاوم ولو بحجر، بكلمة إن لم يكن برصاصة!

 

في بداية حياتي الوظيفيّة اشتركت في دورة متقدمة لتعلّم المحادثة باللغة الإنجليزية، في المعهد الثقافي الأمريكي في عمّان، وقد طُلب منا في إحدى النشاطات أن نكتب مقالاً عن أحد الأفلام الأجنبية التي أثارت اهتمامنا وأن نقرأه أمام الطلاب الآخرين.

قررت ان أكتب عن فيلم "القلب الشجاع" للمخرج والممثل ميل جيبسون، وقد كان رائجاً في ذلك الوقت، وبعد أن بدأت في الكتابة تساءلت لماذا لا أكتب عن فيلم يخص قضايانا العربية، ثم خطرت لي فكرة أن أكتب عن فيلم "عمر المختار"، وبالفعل كتبت عن ذلك الفيلم وعن الصراع العربي مع الاستعمار الغربي في المنطقة، وأنهيت كلمتي بالجملة التالية، (سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر سجّاني).

هذه الجملة بالتحديد قفزت إلى ذهني وأنا أتابع الأخبار وأتفحّص الصور التي انتشرت مثل النار في الهشيم بعد إعلان استشهاد السنوار.

 

لقد خاض السنوار معركته الأخيرة فألقى ما في جعبته من ذخيرة وأطلق رصاصته الأخيرة، وجلس على الكنب لأنه صاحب البيت متحدياً سجّانه، وقاتِلَهُ، ثم تسلّح بما أمكن له ان يلتقط من الأرض، ورمى عدوّه به، لم يستسلم بعد أن تعطّلت ذراعه وقدمه، حتى بعد ان أدرك أنه ملاقٍ حتفه لا محالة، لم يُهادن ولم يُفاوض ولم يستسلم!

من أجل هذا كلّه، سيعيش السنوار في ذاكرة ومخيّلة الفلسطينيين والعرب والشرفاء في هذا العالم، وسيعيش في كتب التاريخ إلى الأبد، أما سجّانيه وقاتليه، فلن يأتِ على ذكرهم إلا النزر القليل!

 

لقد بكيتك يا أبا إبراهيم، نعم بكيتك، وأنا لا اذكر أني قد بكيت على موت شخصية عامة من قبل!

بكيتك لأني شعرت بالانكسار، لم أكن أتمنى أن أكتب كلماتي هذه في رثائك بل كنت امنّي النفس أن أكتبها احتفالاً بالنصر ، أي نصر، حتى ولو كان ناقصاّ أو مرحليّاً، أما الشهادة فهي تنفع صاحبها، ماذا نفعل نحن من بعدك، وقد كانت شهادتك شهادةً علينا!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

19-10-2024

لماذا أسقطتَ البٌندقية!

 



 

 

(جئتكم يا سيادة الرئيس وبندقيّة الثّائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي). كانت هذه، خاتمة كلمة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، وما لا يعرفه الكثيرون أن كاتب هذه الكلمة هو الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

 

كتب محمود درويش، في ذات الخطاب (إن الجانب الذى يقف فيه حامل السلاح هو الذى يميز بين الثائر والإرهابى، فمن يقف فى جانب قضية عادلة، ومن يقاتل من أجل حرية وطنه واستقلاله ضد الغزو والاحتلال والاستعمار، لا يمكن أن تنطبق عليه بأى شكل من الأشكال صفة إرهابى).

 

ساعد هذا الخطاب التاريخي في تكريس صورة "أبو عمار القائد"، رغم محدودية ثقافته، وعدم إتقانه للّغة العربية وضعف لغته الانجليزية، وضبابية تاريخه النضالي، فكان أن ازداد نفوذه داخل الفصائل الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح الزعيم الأوحد، الذي يمسك بزمام السلطة، والخزينة، والاعلام، والسياسة الداخلية والخارجية، وقد استغل كل تلك السلطات، لخدمة مشروع "تحصيل ما يمكن تحصيله"، مقابل التنازل عن ثوابت الميثاق الفلسطيني، وعلى رأس تلك التنازلات، التنازل عن حق العودة، والقدس، الاعتراف بدولة الاحتلال، ونبذ المقاومة الشرعية، والتخلّي عن سيادة الدولة (لا حدود ولا مطار ولا ميناء ولا جيش)، بل والتخابر لمصلحة جيش الاحتلال!

 

لقد طالب عرفات المجتمع الدولي ألاّ يُسقط غصن الزيتون من يده، ولكنه قام طوعاً بإلقاء بندقيته وتحويل القضية الفلسطينية من مشروعٍ للتحرير، إلى مشروعٍ للسلطة والزعامة، مما دعا كاتب تلك الكلمات نفسه "محمود درويش" إلى أن يُعبّر عن أساه الداخلي، في قصيدته الشهيرة (لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً!).

 

في عام 1988 تم اغتيال أبو جهاد خليل الوزير ، المسؤؤول الأول عن قيادة الانتفاضة الشعبية الأولى التي انطلقت قبل ذلك بعام، وفي شهر يناير 1991، تم اغتيال أبو إياد صلاح خلف، صاحب العبارة الشهيرة "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر!"، وفي  خريف ذلك العام، توجهت منظمة التحرير تحت قيادة أبو عمار وشريكه أبو مازن -الذي خطى  على خطاه بعد ذلك-، إلى مؤتمر مدريد للسلام، الذي اعترفت فيه منظمة التحرير باسرائيل، بعد أن أصبحت الظروف الموضوعية مواتية لاعلان الثورة على النضال المُسلّح، وتصفية مشروع الثورة الفلسطينية!

 

هذا التسلسل الزمني لا يحدث سوى في أفلام هوليوود أو بوليوود!

 

تصفية الزعماء الرافضين لفكر الاستسلام والقبول بالشروط االأمريكية الاسرائيلية، كان يجري بوتيرة متصاعدة منذ نشوء دولة الاحتلال، وحده أبو عمار وخليفته أبو مازن، بقيا سالمين إلى حين تحقيق حلمهما وحلم اسرائيل، كان حلمهما كرسي السلطة ولقب رئيس دولة، و كان حلم اسرائيل أكبر من ذلك بكثير، وقف العمليات العسكرية، والتخلّص من الضغوطات الدولية بإعطاء الفلسطينيين دولة على الورق، يكون ولاؤها وتبعيتها لدولة الاحتلال، نَمِرٌ على ورق!

 

خشية أبو إياد من أن تتحوّل الخيانة إلى وجهة نظر، تحقّقت بصورةٍ أبشعَ من ذلك بكثير، حين أصبحت الخيانة "رؤية وطنية" بينما الثورة "إضرارٌ بالمصالح الوطنيّة!".

تناقض آخر لا نراه سوى في الأفلام، بين حركة ثورية اتخذت من الكفاح المسلح ميثاقاً لها، ثم تحوّلت قيادتها "الأوليغارشيا الحاكمة" إلى مجلس بلدي، يخدمُ غاصبيه!

 

محمود عباس كان أول من اخترق الصف الفلسطيني بإجراء لقاءات – تحوّلت فيما بعد إلى مفاوضات – مع قوى اسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي، بحجة الانفتاح على اليساريين المؤمنين بحقوق الفلسطينيين، وشجّعه على ذلك أبو عمار نفسه.

وقد ساهمت هذه اللقاءات في تبلور الأفكار حول إتفاق يرضي الطرفين، تم تتويجه باتفاقية أوسلو سيئة الذكر، التي هندسها أبو مازن وأشرف على الفريق المُفاوض فيها. تلا ذلك ما يُعرف بتفاهم عبّاس – بيلين 1995، الذي يُعدّ الحروف الأولى لصفقة القرن التي يجري الحديث عنها مؤخراً.

 

في سلسة وثائقية عن اتفاقية أوسلو، قال أحد المسؤولين الفلسطينيين، أنه في بداية الثمانينات حين كانت منظمة التحرير تسيطر عسكرياً على جنوب لبنان، احتاجت القوات النرويجية العاملة ضمن قوات حفظ السلام، إلى ضمان أمن جنودها، وضمان العبور الآمن من مناطق نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، وقد وافق أبو عمار على إعطائهم الأمان، ولكنه اشترط شرطاً غريباً، لم يدرك كنهه أحدٌ في ذلك الوقت، قال لمسؤول الخارجية النرويجي، ستأتي لحظة تاريخية لتسوية القضية الفلسطينية على طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين، حين تحين تلك اللحظة، أريدكم أن ترعوا هذه المفاوضات وتساعدونا على إتمامها.

 

بعد نحو خمسة عشر عاماً، وقّعت منظمة التحرير على اتفاقية السلام برعاية النرويج.

 

هذا دليلٌ على رؤية القائد أبو عمار  التاريخية لحل القضية الفلسطينية عن طريق التفاوض – التنازل، وهو ما حقّقه على أرض الواقع، دون مرجعية شرعية من الشعب الفلسطيني، ودون تصويت أو انتخابات أو أي صفة شرعية، سوى شرعية "القائد الرمز!"

 

يقول إبراهام لينكولن يمكنك أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، ولكن لا يمكنك ان تخدع كل الناس طوال الوقت!

لقد استطاعت هذه الزمرة الحاكمة من ترسيخ مكانتهما وزعامتها على خارطة كبار الشخصيات وأصحاب النفوذ، عن طريق استغلال نُبل ونزاهة القضية الفلسطينية، وقد تمكنوا من الوصول إلى مفاصل الحكم، واستغلال الثروات والثورات، على حساب المناضلين والفدائيين الشرفاء من شعبنا، الذين بذلوا أرواحهم خدمة للقضية الأسمى في العالم المعاصر، قضية فلسطين، على مدار عقود من الزمان.

 

ولكني كلي إيمان بأن التاريخ سيضع هؤلاء في مكانهم المناسب، وأن هذا الشعب الواعي قادرٌ على إدراك أن الخطوة الأولى نحو التحرير، هي التحرّر من تقديس الرموز ، وإعادة فهم التاريخ، كي نتمكن من صنع المستقبل!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

13-9-2024

الجمعة، 6 سبتمبر 2024

مُعضلةُ العالمِ الحرّ

 



 

 

أثناء الاحتجاجات الأخيرة والحراك الطلاّبي في الولايات المتحدة، قالت الكاتبة والصحفية الاستقصائية الشهيرة نعومي كلاين – الكندية من أصل يهودي - في كلمة ألقتها في نيويورك وسط الحشود المناهضة لحرب الإبادة في غزة ، أن اليهود في العصر الحديث عادوا لصنع صنمٍ جديد لهم على غرار العجل الذي عبده أجدادهم في عصر موسى، وهذا الصنم أو الطاغوت الجديد هو "الصهيونية".

 

نعومي كلاين هي ناشطة حقوقية معروفة، وهي صاحبة كتاب "عقيدة الصدمة" الذي وثّقت فيه جرائم الحرب الأمريكية-البريطانية على العراق مطلع هذا القرن، وربطته بالعقيدة العسكرية الأمريكية المتأصلة والقائمة على الصدمة والرعب، والتعذيب الممنهج، وانتهاك حقوق المدنيين والضرب بعرض الحائط بكل المواثيق الدولية والانسانية.

 

وقد ربطت بشكل موثق وبالأدلة بين جرائم الحرب السابقة التي ارتكبها الجيش الأمريكي – بما في ذلك انتهاك حقوق الأمريكان أنفسهم – وبين جرائم الحرب على العراق، بل واستشهدت بالكتيّبات العسكرية، والتدريبات التي يتم تنظيمها لتطبيق هذه "العقيدة"!!

 

ومن جهة أخرى، يقول د علي الوردي في كتابه "مهزلة العقل البشري": ( إن كل دين يبدأ على يد النبي ثورة ثم يستحوذ المُترفون عليه بعد ذلك فيحولونه إلى أفيون وعندئذ يظهر نبي جديد فيعيدها شعواء مرة أخرى)

بمعنى أن الدين عندما يبدأ يقوم بثورة تجديدية قائمة على تصحيح المفاهيم المغلوطة، وإعادة تنظيم المجتمع بما يضمن الحرية والعدالة والمساواة. ثم ما يلبث أن يدخل في مرحلة ركود، فيستولي عليه أصحاب السلطة والنفوذ (الأوليغارشية ) فيقوموا بحرفه وطمس روحانياته وجوهره، فيصبح عادةّ أكثر منه منهج حياة، ثم لا تلبث أن تختفي القيم الثورية وتتحول إلى أدوات سياسية هدفها السيطرة على الشعوب من خلال إدمانهم على الحركات ومظاهر العبادة، دون عمل مؤثر أو جاد.

 

ولا شك أن هذا صحيح ودقيق وثابت في تاريخ الانسانية، ولكن الأهم من ذلك أن هذه القاعدة تنطبق أيضاّ على باقي الثورات في العالم والحركات الفكرية.

فلنأخذ على سبيل المثال الشيوعية الاشتراكية التي جاءت لنصرة العمال والنضال من أجل نيل الانسان الكادح حقوقه المشروعة، فتحولت إلى نظام قمعي تعسفي لا يؤمن بالتعددية ولا بالحرية ولا بحقوق الانسان، وتم وصمه على مر التاريخ بأنه أكثر الأنظمة الحديثة قمعاً للشعوب ومناهضة للحريات، بل وتم تجسيده في الأدب العالمي بصورة "الأخ الأكبر" الذي أصبح رمزاً للطغاة على مر العصور.

 

وكنت قد كتبت من قبل عن مبادىء الثورة الفرنسية والتي قامت عليها فكرة "اللائكية – الدولة المدنيّة" في فرنسا وتوّجت بقانون عام 1905، الذي يشدّد على حق الفرد في الانتماء الى أي مجموعة يختارها في حين تبقى الدولة بلا دين رسمي وليس لها أن تفرض أي انتماء على المجتمع الأمر الذي سيقود إلى التعايش السلمي بين مختلف الديانات، ثم ما لبثت أن أصبحت هذه المبادىء، هي الشعار البرّاق للعالم الحرّ الجديد.

 

ولكن معضلة الحضارة الغربية "العالم الحر" أنها تحوّلت إلى "إنتماء" بحد ذاتها، أي أنها أصبحت ديناً جديداً غير خاضعٍ للعقل أو للمنطق ولا يقبل النقد، وبالتالي أصبحت هذه الدول اليوم (أمريكا وفرنسا وبريطانيا وألمانيا) دول ديكتاتورية تفرض انتماءاتها على الأفراد، وهذه هي المفارقة الكبرى!!

 

وهذا تفسير ما قالته نعومي كلاين عن الدين الجديد "الصهيونية" الذي أصبح الإله الجديد الذي لا يسع العالم الحر عصيان أمره أو الدوران في فلكٍ غير فلكه، وهذا ما يتفق في المضمون والجوهر أيضاً مع ما قاله د علي الوردي عن الثورات الدينيّة التي تبدأ بفكرة ثورية صادقة وجميلة، ولكنها سرعان ما تتحول إلى كابوس إذا ما استأثرت عليها الأقلية المتنفذة.

 

لقد تحولت دول العالم الحر في القرن العشرين إلى دول استعمارية تُبرّر الاحتلال والقتل والتدمير بحجة نشر "المعرفة وقيم الحرية"، وتحوّلت اليوم إلى ديكتاتوريات عظمى تدعم جرائم اسرائيل في حق الفلسطينيين واستعمار أراضيهم وطردهم من بيوتهم، بحجة إرضاء الرب وتحقيق نبوءة الكتاب المقدّس، أي عالمٍ حرٍّ هذا؟!

 

لقد وصل الأمر إلى مناقضة كل المواثيق الدولية والقوانين والأعراف، وتهديد المؤسسات الحقوقية تهديدات مباشرة إذا قامت بدورها وأدّت المسؤوليات المنوطة بها، وإلى قمع حريات مواطني هذه الدول وطلاب الجامعات والهيئات التدريسية والعاملين في وسائل الاعلام.

 

هذه المعضلة التي وقعت فيها دول العالم الحر، ورغم مساوئها إلا أنها قد أدّت إلى خسارتها لعامل جوهري ومؤثر غفلت عنه، لقد خسرت ثقة الجماهير بها وبمبادئها التي أدّعت أنها قامت من أجل تحقيقها، وبالأخص الجيل زد Z Generation  وهذه الخسارة برأيي ستكون المسمار الأخير في نعش العالم الحر الجديد، وستؤدي إلى ثورة تصحيحية داخلية، تقضي على كل الأقليات الحاكمة، والطغمة السياسية التي تتلاعب بالشعوب، وستؤدي بالتالي إلى تغيير وجه العالم بعد سقوط الصهيونية العالمية.

 

هل لعاقلٍ أن يتصور أن الدولة العظمى في هذا العالم الحر المزعوم يحكمها رجل مُسنٍ، تتحكم في قراراته وتصرفاته مؤسسات الصهيونية العالمية، فيجازف بسلامة مواطنيه واستقرار أمنه، ووضعه الاقتصادي، بل ويضع على المحك كل مبادىء الحريات في سبيل دعم دولة مارقة خارجة عن القانون تفصله عنها قارات العالم!

والأنكى من ذلك أن من ينافسه على الرئاسة هو فاسدٌ آخر ، لا يؤمن أصلا بمبادىء الحرية والعدالة والمساواة!!

 

ومن خلف هذه الدولة، تأتي فرنسا بلد الحريات، التي تحولت إلى دولة تعتنق دين "الإلحاد" فتقمع الأديان، وتجبر الطالبات على خلع الحجاب، وتمجّد الصحفيين الذين يسيئون للأنبياء وللأديان، وتشرعن المثليّة الجنسية، وتُملي تعليمات طاغوتها الجديد على شعبها بل وتريد أن تفرضه على العالم أجمع، بحجّة صون الحريات!! هل هناك كوميديا سوداء في هذا العالم أكثر من هذا!!

 

ولكن، وبرغم سوداوية المشهد، وتناقضاته العبثية، ومفارقاته المؤلمة، إلا أني أنظر بعين من التفاؤل إلى المستقبل القريب، وإلى هذا الجيل الجديد، الذي خرج من عباءة أنظمته الفاسدة، وأعلن كفره بكل هذه التناقضات السافرة، وقام بحمل راية الثورة من جديد، لإعادة تصحيح المفاهيم، وترسيخ مبادىء الثورة الأساسية، وإني أدعو كل حرٍّ ، وكل حرّةٍ، للوقوف مع الحق في هذه الفتنة التي يقف فيها القانون والشرطي في صف الغاصب، وتسخّر وسائل الاعلام كل أسلحتها لتشويه الحقائق، فيما تقف الانسانية عاجزة عن اتخاذ أي موقف داعم وحقيقي لنصرة المظلوم، فإن الاصطفاف مع الحق ولو بكلمة أو بنشر صورة، أو إعلان موقف، أو الخروج في مظاهرة لهو فعل مؤثر رغم بساطته، أو ضآلة حجمه.

 

((وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فَبَشِّرْ عِبَادِ))

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-5-2024

في إنتظار الرد الإيراني!

 



 

 

ما زلنا في إنتظار الرد الإيراني على إغتيال قائد حركة حماس في إيران منذ نحو شهر، وكما قال السيد حسن نصر الله فإن هذا الإنتظار هو نوع من العقاب، ولكن السؤال عقابٌ لمن بالضبط؟!

 

في سبعينات القرن الماضي كان شاه إيران، يلُقّب ب "شرطي أمريكا في المنطقة"، ومع قيام الثورة الخمينية في عام 1979 استقبل العالم العربي والأوساط السياسية تلك الثورة بحيرة وريبة، فمن جهة رأت بعض الحركات الوطنية أن الانقلاب على نظام شاه إيران هو إيجابي في كل الأحوال، وأنه سيغير قواعد اللعبة، في حين رأى البعض الآخر، أن مسار الحريات والديمقراطية في المنطقة والوقوف في وجه الديكتاتوريات، لا يتوافق مع توجهات تيار ديني متشدد، قائم على قمع الحريات في الأساس.

 

بدأ نظام الخميني في إعلان معاداته للرأسمالية والامبريالية وبدا ذلك واضحاً في حادثة احتجاز الرهائن في السفارة الأمريكية في طهران عام 1980، تلا ذلك الصراع مع العراق -البوابة الشرقية للعالم العربي- والذي تأجج وصولا إلى الحرب العراقية الايرانية التي خسرتها إيران في الميدان، ولكنها عملت جاهدة بعد ذلك على حصار العراق والتحالف مع الولايات المتحدة (الشيطان الأكبر) لإسقاط النظام العراقي والتخلص من تهديدات هذا الجار العربي، ناهيك عن القول أن إيران لعبت على خط التناقضات والصراعات بين جناحي حزب البعث الاشتراكي، وتحالفت مع سوريا (وشركائها) للقضاء على حزب البعث العراقي، وكان لهما ما أراداه.

 

المفارقة هنا تكمن في أن إيران دعمت أمريكا (عدوها الأول المزعوم) ومهّدت لها هزيمة العراق وتدمير مقدراته (غزو العراق عام 2003)، وتحالفت مع اسرائيل أثناء الحرب العراقية الايرانية، فيما يعرف ب (إيران-غيت أو إيران كونترا) لكسر حصار التسليح الذي فرضه عليها الغرب، وهي الآن تدّعي أنها الدولة المُناصرة للقضية الفلسطينية والمُعادية للامبريالية والصهيونية!

 

اعتمدت إيران في بسط نفوذها في المنطقة على مبدأ الحرب بالوكالة، فهي لا تدخل في نزاع مباشر مع أعدائها أو خصومها، ولكنها تتحالف مع جيوب المعارضة وبعض الحركات المسلحة وتدعمها للقيام بهذا الدور، خذ على سبيل المثال الميليشيات الشيعية في العراق، حزب الله في لبنان، الحوثيين في اليمن، وللأسف المقاومة الفلسطينية التي تستخدمها لمناكفة إسرائيل وأمريكا، وللحصول على أوراق ضغط في المنطقة تستخدمها حين تشاء.

 

إيران لم تدخل في حرب مباشرة سوى مع بلد عربي هو العراق، وهذه الحرب فرضت عليها وخسرتها عسكرياً، ولكن مع كل هذه الجعجعة التي نسمعها، فإن إيران لم تقتل جنديا اسرائيلياً أو أمريكياً واحداً بشكل مباشر!

 

السؤال الذي يطرحه بعض النشطاء حالياً: ما المطلوب من إيران، ولماذا تزاودون عليها؟!

في الحقيقة، علينا قبل أن نجيب على هذا السؤال أن نقول وبمنتهى الصراحة والتجرّد، أن اللوم الأساسي في هذه الإشكاليّة يقع على القيادة الفلسطينية -سلطة التنسيق الأمني- ومن خلفها كل القيادات العربية التي خذلت فلسطين والفلسطينيين، وربطت سياساتها واقتصاداتها بالولايات المتحدة والغرب، وبالتالي أصبحت في شراكة استراتيجية مع رأس الحربة الأمريكية في المنطقة – دولة الاحتلال – بشكل مباشر أو غير مباشر، برضاها أو رغماً عنها!

وعلينا أيضاً أن نلوم القيادة السورية التي كانت تدّعي الوطنية ومعاداة الامبريالية، ثم وقعت في شرك إيران وروسيا بعد أن حرقت الشجر والحجر في سبيل البقاء في السلطة.

وعلينا أن نلوم النظام المصري، والسلطة العسكرية العميقة التي وقفت في وجه الثورة المصرية، وحولت البلد إلى وكالة مفتوحة لكل من يرغب بالدخول في المزاد على مقدراتها.

وأخيراً علينا أن نلوم إيران ذاتها على شق الصف العربي، وتدمير العراق من الداخل ثم تسليمها للمتشددين والمتعصبين الموالين لها.

ولولا هذه المأساة التي نعيش في ظل غياب العراق وسوريا ومصر، وقمع الثورات الشبابية العربية، وتكميم الأفواه، والتهديد بالفقر والفوضى والحروب الأهلية، ولولا خيانة فتح الثورة، وتحوّلها إلى سلطة قمع وتدجين، لما وصلنا إلى هذا الحال الذي نحن فيه.

ولو وجدت الفصائل الفلسطينية، من يدعمها عسكريا وسياسيا واقتصاديا، لما ارتمت في أحضان القمقم الايراني ولما تجرأت إيران على استغلال القضية الفلسطينية في البروباجاندا الخاصة بها.

وللإجابة على السؤال المطروح آنفاً، لا نريد شيئاً من إيران سوى أن تترك القضية الفلسطينية للفلسطينيين وأن تقلع شوكها بيدها!

 

القضية الفلسطينية ومعاناة الفلسطينيين وأهل غزة لا تعني إيران في شيء، تماماً كما أن معاناة الأوكرانيين لا تعني شيئا لأمريكا وللغرب، ولكنها المصالح السياسية ولعبة التناقضات! ولهذا نقول إن إيران وما يقال عنه محور المقاومة، لا يعوّل عليه، ولكنها المصالح الآنيّة. بل إني سأذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن إيران لا ترغب في تحرير فلسطين -ولو نظرياً-، إذ لا يوجد لإيران أية مصلحة استراتيجية في القضاء على اسرائيل، إلا في حالة واحدة فقط، أن تكون هي الوكيل على فلسطين!

 

من ينتظر أن تقوم إيران بردٍ ساحق وماحق، لاسترداد ماء الوجه أو لنُصرة أهل غزة، هو واهمٌ، ففلسطين لن ينصرها سوى الله وبأيدي المخلصين من أبنائها، ولن يُكتب هذا النصر لأي مُدّعٍ أو منافق أو طامعٍ، وأختم بالقول إن طريق القدس حتماً ويقيناً لا يمر بكربلاء ولا بحمص ولا بحلب!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

03-9-2024


رابط المقال على القدس العربي

الأحد، 24 مارس 2024

خط الدفاع الأخير

 



 

 

في طفولتي، كان همّي الأكبر  في كل ليلة أن استغرق في النوم قبل باقي أفراد العائلة، كان هاجساً مخيفاً لي أن أبقى مستيقظاً فيما يخلد الآخرون إلى النوم، كانوا بالنسبة لي خط الدفاع الأخير، وبدونهم أشعر أني، بكل بساطة.... "وحدي"!

 

ذات ليلة خلت وقبل فترة وجيزة، تأهبت للنوم بعد أن نام أفراد أسرتي الصغيرة، وتفقّدت أبواب المنزل قبل الذهاب إلى النوم -كعادتي كل ليلة – فوجدت أن أحد الأبواب غير مقفل بالمفتاح. للوهلة الأولى فكّرت في معاتبتهم على ذلك في اليوم التالي، ولكني تداركت سريعاً أنني عادةً ما أتفقد الأبواب قبل النوم، وعلى عاتقي أنا تقع تلك المسؤولية.

 

وحين خلدت إلى النوم في تلك الليلة، استذكرت طفولتي وكم كنت أخاف من الوحدة، ومن قضاء الليل وحدي في البيت، ثم تسارعت الأفكار مثل كرة الثلج في رأسي، ورسمت في مخيّلتي صورة أبنائي وهم يستغرقون في النوم مُطمّأنين، لا يساورهم القلق، ولا الخوف، لأنهم يعتمدون على وجودي بينهم، وكم كان هذا الشعور  -رغم حلاوته- مُحمّلاً بالمسؤولية!

 

كل واحد فينا هو خط الدفاع الأخير  في حياة شخص آخر، أو مجموعة من الأفراد، ولربما مجتمعٍ كاملٍ، وهو بذلك يلعب دوراً أساسياً في حياة الآخرين ويكون مانحاً حقيقياً للشعور بالأمان والطمأنينة لمن حوله.

إن وجودنا يكتسب بعداً آخر بالنظر إلى موقعنا في حياة الآخرين، رغم أننا نادراً ما ندرك ذلك، أو نحاول إدراك ذلك. وبناءً عليه، فعلى كل واحد فينا تقع مسؤوليات كبيرة، قد تكون ماديةً وقد تكون معنويةً ونفسيةً أو كليهما معاً، ولكنها تمتد لتشمل مجالاً أوسع بكثير مما نعتقد.

إن مشاركتنا في بعض الأحداث والمناسبات وتواجدنا – مجرد تواجدنا – هو عامل مفصلي ومهم للآخرين للشعور بالأمان والطمأنينة بل والسعادة والرضى، ومن أجل ذلك، لو كان فقط من أجل ذلك، فعلينا أن ندعو الله ليلاً ونهاراً أن يحفظنا لأحبابنا، ويحفظ أحبابنا لنا!

 

أثناء خدمتي الاجبارية في الجيش العربي، مرّ علينا أحد الأعياد وكان لا بد لبعض أفراد الكتيبة أن يقضوا المناوبة خلال أيام العيد في المعسكر، وكان نصيبي أن أكون من ضمن أؤلئك المناوبين، وفي صبيحة يوم العيد اجتمع بنا قائد الكتيبة في الطابور الصباحي، وما زلت أذكر كلماته إلى يومنا هذا، قال لنا من الطبيعي أن تشعروا بالغصّة لأنكم لستم بين أهلكم في هذا اليوم، ولكن عليكم أن تعلموا أن وجودكم هنا، هو ما يجعل لهذا العيد معنىً وطعماً، إذ لولا وجودكم هنا في هذا الوقت، لما شعر أهلكم بالأمان والطمأنينة، ولما استمتعوا بهذا العيد!

 

نعم، كل جندي يقف على حدود الوطن هو خط الدفاع الأخير للوطن، وكلٌّ منّا في موقعه هو خط الدفاع الأخير لأحدهم، هكذا هي الحياة، ومن هنا أقول إن واجبنا ألا نخذل من يعتمد علينا، ومن عقد الأمل على وجودنا!

ولذلك كلّه أقول أن هدفنا في الحياة لا يجب أن يقتصر على رؤيتنا الشخصية، أو أهدافنا الفردية، فنحن في النهاية جزء من منظومة اجتماعية متكاملة، ووظيفتنا لا تقتصر على أدوارنا الفردية، بل على شبكة علاقاتنا ومواقع تأثيرنا على الآخرين؛ وللنجاح في الحياة علينا إظهار التعاطف والتضامن مع من حولنا، وتقديم العون والنصح لهم، ومداومة التواجد الايجابي في حياتهم، وبث السرور والطمأنينة وافشاء السعادة، ومساعدتهم على عمل الخير، وان نكون أنموذجاً لهم في هذه الحياة ومرجعية يستمدون منها القوة، والعون، ويسترشدون بفكرنا ونصيحتنا، لاخراج أفضل ما فيهم ودفعهم للنجاح والتميز.

 

وحين نتحدث عن التجربة الانسانية فعلينا أن ندرك أن كل إنسان على وجه هذه البسيطة هو فارسٌ لحلم ما، أو بطلٌ في رواية أحد آخر، في مسرحية تدور  رحاها في بقعة ما على هذه الأرض، قد تكون بعيدة عنا، ولا ندرك منها سوى النزر اليسير، وأنه مهما فعلنا كي ندرك حقيقة هذا الشخص ومحنته، والمصاعب التي يواجهها فإننا لن ندرك ذلك ولو حاولنا جاهدين، وصدق الله العظيم حين قال في تصوير متعاطف مع محنة الوجود الانساني والعمل الدؤوب الذي يتحتّم على الانسان المداومة عليه في هذه الدنيا ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.

 

ولعل المحنة والظروف الصعبة والتجارب القاسية كفيلةٌ بتغيير سلوكنا الانساني وجعلنا أكثر تعاطفاً وتفهماً للآخرين، وأكثر تسامحاً معهم؛ مع كل تجربة فقدانٍ لعزيز نصبح أكثر قرباً من أحبابنا وأكثر حناناً وارتباطاً بهم، ومع كل تجربة صعبة يتخلّى فيها عزيزٌ على قلبنا عنّا ويخذلنا، نصبح أكثر حملاً للمسؤولية وأكثر عوناً للآخرين، ومع كل شعورٍ مريرٍ بالوحدة "يا وحدنا!" نصبح أكثر حرصاً على أن نكون نحنُ خط الدفاع الأخير لأحد ما، رغم أن ظهرنا مكشوف وقلبنا موجوع!

 

وأختم بالقول إن بعض الناس في هذا الوقت بالذات، هم خط الدفاع الأخير عن شرف الأمة وكرامتها ووجودها، ولولا مقاومتهم وصبرهم وشدة بأسهم، وتضحياتهم، لركعت هذه الأمة لجلاّدها، ولما قامت لنا قائمة.

 

تحية إجلال وتقدير، لكل إنسانٍ شامخٍ في هذه الحياة، يفرد ظلّه على من حوله، ويحيطهم بالحنان والستر، ويمدّهم بالحب والقوة.

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-2-2024