الأحد، 24 مارس 2024

خط الدفاع الأخير

 



 

 

في طفولتي، كان همّي الأكبر  في كل ليلة أن استغرق في النوم قبل باقي أفراد العائلة، كان هاجساً مخيفاً لي أن أبقى مستيقظاً فيما يخلد الآخرون إلى النوم، كانوا بالنسبة لي خط الدفاع الأخير، وبدونهم أشعر أني، بكل بساطة.... "وحدي"!

 

ذات ليلة خلت وقبل فترة وجيزة، تأهبت للنوم بعد أن نام أفراد أسرتي الصغيرة، وتفقّدت أبواب المنزل قبل الذهاب إلى النوم -كعادتي كل ليلة – فوجدت أن أحد الأبواب غير مقفل بالمفتاح. للوهلة الأولى فكّرت في معاتبتهم على ذلك في اليوم التالي، ولكني تداركت سريعاً أنني عادةً ما أتفقد الأبواب قبل النوم، وعلى عاتقي أنا تقع تلك المسؤولية.

 

وحين خلدت إلى النوم في تلك الليلة، استذكرت طفولتي وكم كنت أخاف من الوحدة، ومن قضاء الليل وحدي في البيت، ثم تسارعت الأفكار مثل كرة الثلج في رأسي، ورسمت في مخيّلتي صورة أبنائي وهم يستغرقون في النوم مُطمّأنين، لا يساورهم القلق، ولا الخوف، لأنهم يعتمدون على وجودي بينهم، وكم كان هذا الشعور  -رغم حلاوته- مُحمّلاً بالمسؤولية!

 

كل واحد فينا هو خط الدفاع الأخير  في حياة شخص آخر، أو مجموعة من الأفراد، ولربما مجتمعٍ كاملٍ، وهو بذلك يلعب دوراً أساسياً في حياة الآخرين ويكون مانحاً حقيقياً للشعور بالأمان والطمأنينة لمن حوله.

إن وجودنا يكتسب بعداً آخر بالنظر إلى موقعنا في حياة الآخرين، رغم أننا نادراً ما ندرك ذلك، أو نحاول إدراك ذلك. وبناءً عليه، فعلى كل واحد فينا تقع مسؤوليات كبيرة، قد تكون ماديةً وقد تكون معنويةً ونفسيةً أو كليهما معاً، ولكنها تمتد لتشمل مجالاً أوسع بكثير مما نعتقد.

إن مشاركتنا في بعض الأحداث والمناسبات وتواجدنا – مجرد تواجدنا – هو عامل مفصلي ومهم للآخرين للشعور بالأمان والطمأنينة بل والسعادة والرضى، ومن أجل ذلك، لو كان فقط من أجل ذلك، فعلينا أن ندعو الله ليلاً ونهاراً أن يحفظنا لأحبابنا، ويحفظ أحبابنا لنا!

 

أثناء خدمتي الاجبارية في الجيش العربي، مرّ علينا أحد الأعياد وكان لا بد لبعض أفراد الكتيبة أن يقضوا المناوبة خلال أيام العيد في المعسكر، وكان نصيبي أن أكون من ضمن أؤلئك المناوبين، وفي صبيحة يوم العيد اجتمع بنا قائد الكتيبة في الطابور الصباحي، وما زلت أذكر كلماته إلى يومنا هذا، قال لنا من الطبيعي أن تشعروا بالغصّة لأنكم لستم بين أهلكم في هذا اليوم، ولكن عليكم أن تعلموا أن وجودكم هنا، هو ما يجعل لهذا العيد معنىً وطعماً، إذ لولا وجودكم هنا في هذا الوقت، لما شعر أهلكم بالأمان والطمأنينة، ولما استمتعوا بهذا العيد!

 

نعم، كل جندي يقف على حدود الوطن هو خط الدفاع الأخير للوطن، وكلٌّ منّا في موقعه هو خط الدفاع الأخير لأحدهم، هكذا هي الحياة، ومن هنا أقول إن واجبنا ألا نخذل من يعتمد علينا، ومن عقد الأمل على وجودنا!

ولذلك كلّه أقول أن هدفنا في الحياة لا يجب أن يقتصر على رؤيتنا الشخصية، أو أهدافنا الفردية، فنحن في النهاية جزء من منظومة اجتماعية متكاملة، ووظيفتنا لا تقتصر على أدوارنا الفردية، بل على شبكة علاقاتنا ومواقع تأثيرنا على الآخرين؛ وللنجاح في الحياة علينا إظهار التعاطف والتضامن مع من حولنا، وتقديم العون والنصح لهم، ومداومة التواجد الايجابي في حياتهم، وبث السرور والطمأنينة وافشاء السعادة، ومساعدتهم على عمل الخير، وان نكون أنموذجاً لهم في هذه الحياة ومرجعية يستمدون منها القوة، والعون، ويسترشدون بفكرنا ونصيحتنا، لاخراج أفضل ما فيهم ودفعهم للنجاح والتميز.

 

وحين نتحدث عن التجربة الانسانية فعلينا أن ندرك أن كل إنسان على وجه هذه البسيطة هو فارسٌ لحلم ما، أو بطلٌ في رواية أحد آخر، في مسرحية تدور  رحاها في بقعة ما على هذه الأرض، قد تكون بعيدة عنا، ولا ندرك منها سوى النزر اليسير، وأنه مهما فعلنا كي ندرك حقيقة هذا الشخص ومحنته، والمصاعب التي يواجهها فإننا لن ندرك ذلك ولو حاولنا جاهدين، وصدق الله العظيم حين قال في تصوير متعاطف مع محنة الوجود الانساني والعمل الدؤوب الذي يتحتّم على الانسان المداومة عليه في هذه الدنيا ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾.

 

ولعل المحنة والظروف الصعبة والتجارب القاسية كفيلةٌ بتغيير سلوكنا الانساني وجعلنا أكثر تعاطفاً وتفهماً للآخرين، وأكثر تسامحاً معهم؛ مع كل تجربة فقدانٍ لعزيز نصبح أكثر قرباً من أحبابنا وأكثر حناناً وارتباطاً بهم، ومع كل تجربة صعبة يتخلّى فيها عزيزٌ على قلبنا عنّا ويخذلنا، نصبح أكثر حملاً للمسؤولية وأكثر عوناً للآخرين، ومع كل شعورٍ مريرٍ بالوحدة "يا وحدنا!" نصبح أكثر حرصاً على أن نكون نحنُ خط الدفاع الأخير لأحد ما، رغم أن ظهرنا مكشوف وقلبنا موجوع!

 

وأختم بالقول إن بعض الناس في هذا الوقت بالذات، هم خط الدفاع الأخير عن شرف الأمة وكرامتها ووجودها، ولولا مقاومتهم وصبرهم وشدة بأسهم، وتضحياتهم، لركعت هذه الأمة لجلاّدها، ولما قامت لنا قائمة.

 

تحية إجلال وتقدير، لكل إنسانٍ شامخٍ في هذه الحياة، يفرد ظلّه على من حوله، ويحيطهم بالحنان والستر، ويمدّهم بالحب والقوة.

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-2-2024

رسائلُ ليلى

 



 

تتسلل ليلى خلسة إلى حقيبة الطالب المشاغب أمجد، الذي تكن له مشاعر حب مجنونة دون أن يدري، تريد أن تعبّر عن حبها المكنون، ولكنها في ذات الوقت تحاول جاهدة ألا تكشف هويتها. هي تعتقد أن هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، جسر العبور إلى داخله، أو ربما هي رحلة اكتشاف الذات بالنسبة لها.

 

ليلى شابة خجولة مفعمة العواطف ذات بصيرة لا تخفى على أحد، في حين ان أمجد هو شاب أرعن ذاع صيته في الكلية الجامعية بسبب مشاكساته وازدرائه للآخرين، يقود حفنة من الشباب الذين يمارسون هوايتهم في السخرية من الطلاب الأقل حظا، ومن الفتيات تعيسات الحظ، بل ومن الهيئة التدريسية.

 

في كل يوم تزرع رسالة في حقيبته وترفقها بوردة، وتنجح بشكل لافت في ان لا تلفت انتباه أحد، وأن تبقى بعيداً عن الشبهات، تتحدث في رسائلها عن أمور الحياة، وتطلعه على دواخلها، وتناقش معه تصرفاته الطائشة، وترسم له صورة عنه مخالفة لواقعه.

في بداية الأمر، يستخف أمجد بتلك الرسائل وتلك المشاعر، ولكنه مع مرور الوقت يعتاد على نظامه الحياتي الجديد، بل إنه يسابق الزمن حتى يعود إلى غرفته ويفتح حقيبته ويبعثر أشياءها باحثاُ عن تلك الورقة الخفيّة وتلك الوردة التي يتجدد لونها وعبيرها باختلاف فصول السنة، وتجعل ليومه طعماً آخر.

 

كانت هذه الرسائل نافذة له يبصر من خلالها حقيقة ذاته، ويتفهّم من خلالها تصرفاته وهفواته وخيباته، وطبيعة مشاعره.

وكانت لها نافذة تبصر من خلالها النور، وتعبر فيها عن ذاتها، بالطريقة التي لا تجرؤ فيها أن تعبّر عنها في العلن.

وهكذا كانت هذه الرسائل هي جسر التعارف بينهما، ولهما، يفهمان من خلالها الحياة بطريقة أخرى، ويغوصان في أعماق ذاتهما أكثر وأكثر.

 

في صبيحة يوم ماطر تتعرض ليلى لمشاكسة رفاق أمجد وهي في طريقها إلى قاعة المحاضرات، يُسقطون حقيبتها ويتقاذفونها فيما بينهم، ويتبادلون الضحكات وهي تجمع أغراضها المبعثرة على الأرض المبللة، تمتد يدٌ مجهولة تعاونها، وحين ترفع عينيها تجد أمجد وهو يجثو على ركبتيه قبالتها، لم تتمالك نفسها من المفاجأة وبقيت يدها معلقة في الهواء، وما ان أكمل أمجد جمع أغراضها حتى توجه إلى رفقائه المشدوهين وانهال عليهم بكلمات التوبيخ والتقريع!

شكرته ليلى على موقفه، وهي تتلعثم خجلاً، مدّ أمجد يده لها قائلاً هل تقبليني صديقاً؟، محاولاً نجدتها من خجلها ورفع الحرج عنها.

ومنذ ذلك اليوم، افترق أمجد عن رفاقه، كانت هذه هي نقطة التحوّل في سلوك أمجد، كانت الشرارة التي طال انتظارها، كي يبدأ عملية التحوّل، من أمجد الأرعن، إلى أمجد المتعاطف والمتفهّم لمشاعره ومشاعر من حوله، كانت هذه الخطوة هي النتيجة الحتمية للرحلة التي خاضها وهو يعيد اكتشاف ذاته عبر رسائل ليلى.

 

وبدأت صفحة جديدة بين أمجد وصديقته الجديدة ليلى، بات يحدثها عن نفسه، وعن أحلامه ورحلته المتخبطة في الحياة، حدثها عن الفتاة الغامضة وعن رسائلها، حدثها عن رحلة اكتشاف الذات التي خاضها، وأخبرها بأن هذه الفتاة هي وحدها التي عرفته على حقيقته، أو بالأصح هي من قادته لفهم ذاته، هي التي أخرجت كل شيء جميل مدفون فيه، وساعدته كي يصبح شخصاً "أفضل"، قال لها بان هذه الرسائل علمته أن من يحب ليس هو الشخص الذي يقبل الآخر بنواقصه وعيوبه فقط، بل هو الشخص الذي يخرج أفضل ما فيه، ويدعوه دوماً لأن يكون جميلاً دون أن يشعر، ودون أن يطلق الأحكام، ويلقي المحاضرات، ويشعره بالنقص أو تأنيب الضمير، ودون أن يحاول تغييره رغماً عنه!

 

كانت سعادة ليلى على اتساعها، مدعاةً للأسى، وباتت تعيش في تناقض شائك لا يخلو من سخرية القدر، فعلى الرغم من سعادتها بكل تلك المشاعر التي يكنّها لها، والشعور بالعرفان والتقدير، إلا أنها في ذات الوقت، تشعر بأن هذه المشاعر لا تعنيها بشيء، بل تخص تلك الفتاة الغامضة السريّة!

تعيش ليلى في تلك الحالة المتناقضة، وتستمر في لعب دور الصديقة، والحبيبة السرية، وكأنهما شخصيتان مستقلتان تماماً!

تستمر في كتابة الرسائل ليلاً، وزرعها خلسة في حقيبته نهاراً، والاستماع إلى أمجد وانطباعاته عن تلك الرسائل، بل واسداء النصح له كصديقة محايدة!

 

سألته ذات يوم، لماذا لا تكتب لها؟ قال لا أجيد الكتابة ولا أعرف ماذا أكتب، قالت اكتب أي شيء يخطر على بالك، أكتب لها ما تقوله لي، ولكن أمجد لم يكتب شيئاً.

استمرت ليلى في خوفها من كشف حقيقتها، وعجزها عن مصارحة أمجد بمشاعرها خوفاً من ان تخسره، واستمر أمجد في الادمان على رسائل الحب، التي باتت المتنفس الوحيد له في هذه الحياة.

 

وفي أحد الأيام، أخبرها أمجد بأنه يريد ان يتكلم معها في موضوع مهم، أخبرني ما الذي حصل؟

 لقد كتبت لها رسالة مساء أمس، ولكني أريد ان أقرأها لك قبل أن أدسها في حقيبتي

تستغرب ليلى بعض الشيء وتشعر في تلك اللحظة بنوبة المتناقضات التي تغشاها كل مساء، تتحامل على نفسها وتقول كلي آذان صاغية!

يقرأ أمجد عليها رسالته التي يطلب فيها من فتاته الغامضة، بأن تتوقف عن الكتابة له، ويشكرها على كل تلك المشاعر الايجابية، وكل ذلك الحب الذي غمرته به، ويوضح لها بأنه قد قرر بأن يعيش واقعه، وأن يعيش حياته الطبيعية، خاتماً رسالته بأن قصة الحب هذه لا بد وأن تترجم إلى الواقع، وأن هذا الحب إذا كُتبت له الحياة فإنه لا بد أن تتقاطع طريقهما يوماً ما، ولا بدّ له أن يتعرّف عليها، وأن يرشده قلبه إليها!

 

اغرورقت عينا ليلى بالدموع، ولم تقو على الكلام، صمت الكون في تلك اللحظة، ولم تعد تسمع سوى شهيقها وزفيرها، تراقب شفتي أمجد وهي تتحرك بلا صوت، وترصد الأشخاص حولها، وكأنهم شخوص مسرحية صامتة!

 

يمسك أمجد بيدها، ويربّت على كتفها، ما بكِ ؟!

تصحو من حالة انعدام الوزن تلك، ترسم ابتسامة على وجنتيها المخضبتين بالدموع، هل هي دموع الفرح، أم ابتسامة الحزن، لا تدري، ولكنها تتوجه بسؤال خارج المألوف، تقول وهي تمدّ يدها له، هل تقبلني رفيقة أبديّة وصديقة صدوقةً لك؟

أدركت ليلى بفطنتها، أنها في اللحظة التي تكشف فيها لأمجد عن شخصية الفتاة الغامضة، سينهار كل شيء بينهما، فاختارت أن تكسب صداقة أمجد، وأن يبقى حبها حبيساً لدفاتر أشعارها!

يقبض أمجد على يدها، ويهزّها بشدة، بل توأم روحي!

في ذلك اليوم تسللت ليلى إلى حقيبة امجد، ولكنها هذه المرة لم تضع رسالةً له، بل التقطت رسالته وزرعتها في حقيبتها، ودسّت آخر وردة قطفتها مكانها، كتذكار أخير!

 

ينهي أمجد وليلى دراستهما الجامعية وينخرطان في حياتهما المهنيّة، ولكنهما لا يفترقان أبداً، يلتقيان ليتبادلا الحديث في كل شيء وأي شيء، يبوحان لبعضهما البعض بكل صغيرة وكبيرة في أعماقهما، وكأنهما نفسٌ واحدة تعيش في جسدين، نُفخت فيهما روح واحدة، لم يعرف أمجد هوية فتاتة السريةُ، كما أن ليلى لم تخبره بمشاعر الحب المترعة في داخلها إلى آخر حياتها، وبقي هو يحنّ إلى حبيبته الأولىى، تلك التي علّمته كيف يُحب!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

1-1-2024