وضع الباحثون الاقتصاديون نظرية مفادها أن الانسان العاقل هو براغماتي في طبعه، وأنه حين يواجه خيارات اقتصادية مُحرجة تنطوي على القبول بربح آني عاجل أو خسارة كاملة، فإنه سيختار الربح القليل ولو كان غير عادل.
وقد وضعوا هذه النظرية قيد الاختبار في واحدة من أهم تجارب علم الاجتماع والسلوك الاقتصادي، حيث قاموا بتنظيم مسابقة تضم شخصين في كل مرة، حيث يُعرض على أحدهم مبلغ مائة دولار ويُطلب منه أن يقتسم المبلغ مع المشارك الآخر بأي طريقة يريدها، سواء كان بقسمتها إلى نصفين أو أخذ النصيب الأكبر.
في حين يُعرض على المتسابق الآخر حق القيام بأحد أمرين: قبول التقسيم المقترح، أو رفضه، وفي حالة الرفض فلن يحصل أحد على شيء من المبلغ!
كانت النظريات الاقتصادية الكلاسيكية تفترض أن البشر العاقلون يعتمدون على الحسابات المنطقية، بمعنى أن المتسابق الثاني سيقبل بالحصول على عشرة دولارات ولا يقيم اعتباراً لما يحصل عليه الطرف الآخر، ففي النهاية عشرة دولارات أفضل من لاشيء!!
ولكن المفاجأة أن معظم المشاركين رفضوا القسمة غير العادلة وآثروا الخسارة على الغُبن، وحين تم سؤالهم أجابوا أنهم لا يستطيعون القبول بفكرة الضيْم، كما أنهم لا يقبلون أن يظهروا بمظهر المُغفّل!
بعد مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 خاض الفلسطينيون مفاوضات مباشرة لأول مرة مع دولة الاحتلال الاسرائيلي سعياً للوصول إلى حل عادل وسلمي لقضية فلسطين، تُفضي في النهاية إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة.
وكان المفاوضون الفلسطينيون وعلى رأسهم د حيدر عبد الشافي و فيصل الحسيني وحنان عشراوي، يحاولون بكل جهدهم ترسيخ مبادىء الحل العادل وإقامة دولة فلسطينية حرّة بكل معنى الكلمة، ولكن قيادة منظمة التحرير الفلسطينية كان لها رأي آخر، فقد بدأت بخوض مسار مفاوضات سري مع الاسرائيليين برعاية نرويجية وبمعزل عن المسار الرسمي، ودون وجود أي فريق قانوني أو أكاديمي أو وطني مختص، إيماناً من هذه القيادة بأن أي شيء هو أفضل من لا شيء، تماماً كما افترض علماء السلوك الاقتصادي قبل عدة سنوات!!
ففي الوقت الذي هدمت فيه نتائج تلك التجربة كل نظريات المدارس الاقتصادية والاجتماعية الكلاسيكية وقوّضت أفكارها وساهمت في تشكيل فكر اقتصادي جديد وفهم أعمق لحاجات الانسان الاجتماعية ولطرق تفكيره، أعادت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية الانسان الفلسطيني إلى صندوق الانسان البدائي العاجز المتهافت على الفتات والخانع للهزيمة، والفاقد للأمل!
لقد تحولت منظمة "التحرير" وحركة النضال المُسلّح "فتح" إلى سلطة مُهجّنة لا تتعدى مسؤولياتها حدود الحكم المحلي الذي تقوم به في العادة البلديات والسلطات القروية، وقبلت (على عكس طبيعة البشر التي أثبتتها التجارب السلوكية) بأن تظهر بمظهر "المُغفّل"، في سبيل أن تحصل على كرسي السلطة حتى ولو كان زائفاً!
إن معاناة الفلسطينيين اليوم في غزة والضفة الغربية هو نتيجة منطقية بل وحتمية للانبطاح الفلسطيني في أوسلو، وإن أي حل عادل للقضية الفلسطينية لن يتم دون نقض هذه السلطة وإسقاطها، وإلغاء اتفاقية أوسلو وجميع تبعاتها.
إن أهم ما حققته المقاومة الفلسطينية صباح السابع من أكتوبر أنها أثبتت ولأول مرة في تاريخ القضية الفلسطينية، بعد عقود من اللهاث وراء الحلول العبثية، أن العدل لا يتجزأ، وأن من يهُن يسهل الهوان عليه، وأن موت الانسان في سبيل قضية نبيلة لهو أشرف وأجلّ من أن يعيش نصف حياة أو يقبل بربع وطن، وعُشر كرامة، وبعض الفكّة من الحريّة!
إن الحل الوحيد لقضية فلسطين هو استعادة الأرض من البحر إلى النهر، فلا سلام يُرتجى من دولة احتلال عنصرية متطرفة تؤمن بأن اليهود وحدهم لهم حق الحياة والوجود على هذه الأرض، وأن الفلسطيني هو حيوان بشري يجب قتله بغض النظر عن جنسه وعمره.
ولا فائدة تُرجى من العالم الدولي العاجز حيناً والمتورط أحياناً، ولا أمل يُرجى من الدول العربية طالما بقيت قيادة السلطة الفلسطينية ممثلاً شرعياً ووحيداً للشعب الفلسطيني وهي التي لا همّ لها سوى أن تعيش بسلام في الكانتونات التي رضيت بها، وأن تكفّ أيدي المقاومين عن إزعاج الاحتلال!.
لقد كشفت دولة الاحتلال اليوم عن حقيقتها التي استثمرت كثيراً في إخفائها، فقد نجحت في السابق بأن تخدع العالم وتقنعه بأنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة، وأنها الدولة الحضارية المتقدمة تكنولوجياً ومعرفياً، وأنها دولة لا تقهر عسكرياً واستخباراتياً، ولكن ما حصل بعد السابع من أكتوبر أظهر للعالم كلّه أنها دولة نازيّة دمويّة، فاشلة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، وأنها قائمة على فكرة صهيونية كاذبة لا تمت للواقع بصلة، تحكمها مجموعة من المتطرفين الذين يُقصون الآخر، ولا يتحرّجون من قتله بدم بارد، دون أن يشعروا بوخزٍ في الضمير، بل على العكس يعتقدون أنهم يتقربّون إلى الله في ذلك، وأن الله قد أعطاهم رخصة القتل تلك، وأن على العالم كلّه الخضوع لإرادتهم إما بالتأييد أو الصمت!
ولعلّ هذا تدبير ربانيّ لكشف حقيقتهم أمام العالم، لأنه سيأتي اليوم الذي تنتصر فيه هذه المقاومة الفلسطينية، وتقضي على كل متعصب ومتطرف من دولة الاحتلال، وليس أمام الصهاينة حينها سوى الموت أو الاستسلام – كما يدّعي نتنياهو اليوم أن مقاتلي غزة ليس أمامهم سوى الموت أو الاستسلام – ولن يبقى على هذه الأرض الفلسطينية من اليهود سوى أؤلئك الذين يُدعون اليوم "اليهود كارهي أنفسهم" أو من يتنصّل من جرائم هذه الدولة، ويُعارض الفكر الصهيوني، ويطلب الغفران عن جرائم هذه الدولة.
(فاصبر صبراً جميلاً إنهم يرونه بعيداً ونراه قريباً).
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-12-2023
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق