من منّا لم يمر بمرحلة البحث عن الذات،
أو محاولة الاجابة عن الأسئلة الوجودية عن ذاته، لوجوده كإنسان، عن غاياته العظمى
في هذه الحياة؟
أكاد أقول أن جُلُّنا قد مرّ بهذه المرحلة
من الوعي الذاتي، أو القفزة التنويرية، التي نقلته إلى مرحلة فكرية واعية متقدمة
عن سابقتها، ربما بسبب حالة من التجلّي الفكري، أو البحث والتأمل، أو بسبب تجربة
صعبة وصادمة مثل الحرب والمرض أو فقد عزيز، أو لقاءٍ مع أحد الأشخاص الذين كان
يخبأهم القدر لنا، لإحداث تغيير جذري في حيواتنا، أو لسبب آخر خطر على بال القارىء
وهو يقرأ هذه السطور، وغاب عن ذهن الكاتب!
لقد تناول الفيلسوف ورائد التحليل النفسي
الشهير كارل يونج فكرة "الصحوة الروحيّة Spiritual Awakening" وقال عنها بأنها الجزء الجوهري
لوجودنا الإنساني، إذ بدون هذه القفزة الروحية، والارتقاء الفكري، وما يتبعهما من
تغيرات في أسلوبنا الحياتي ومراجعةٍ لقيمنا العليا، فإن حياتنا الانسانية ستبقى
تراوح مكانها، وستكرر البشرية نفسها من جديد، بلا تحديث أو إضافة حضارية.
مفهوم الصحوة الروحية ورد في الثقافات القديمة
كذلك بل وحتى في الأديان حول العالم، بصورة أو بأخرى، ويتلخص هذا المفهوم في تغير
نظرة الفرد إلى ذاته وعلاقته بالعالم والكون المحيط به، وكأنه يعيد النظر في هذا الوجود
من جديد، وفي دوره فيه.
وتترافق هذه الرحلة الفكرية، بشعور الفرد بالرغبة
في العزلة، والتأمل الفردي بعيداً عن الدوائر المحيطة به، حيث يبدأ بمراجعة كل
مسلّماته في الحياة، والتشكيك في كل الثوابت وبدء مرحلة "البحث عن
الحقيقة"، ورحلة البحث هذه لن تبدأ سوى بالبحث عن حقيقة ذاته أولاً!
ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية سيبدأ هذا
الفرد بالابتعاد "ولو معنوياً" عن الأشياء والأشخاص الذين اعتاد الاستماع
لهم والاستمتاع برفقتهم، لرغبته الشديدة في تكوين مفاهيم جديدة تمس كينونته، وتنبت
من أصوله هو.
ومن شأن هذا أن يؤثر على الأشخاص المحيطين
به، الذين قد لا يكترثون للأمر، أو لربما يزعجهم هذا التغيير والتحوّل إذا صح
التعبير، وهنا تبدأ مرحلة جديدة تتمثّل في إعادة ترتيب علاقاته وإعادة النظر فيها
من جديد، وقد يضطر إلى اتخاذ قرارات مفصلية في التخلي عن البعض، وإقحام البعض
الآخر، وهذه قصة أخرى، يطول الحديث عنها، ولعل مكانها في مقال آخر!
ثم يشرع بمراجعة معتقداته وقيمه الروحية ومناقشتها،
والبناء عليها، أو تبني معتقدات جديدة، سواء تجلّى هذا الأمر بالارتباط بشكل عميق
بالدين أو بالارتباط بمعتقد جديد، أو تغيير مجاله المهني والوظيفي، أو السعي وراء
موهبة كامنة، بحثاً عن ذاته أو كما يتم ترديده كثيراً هذه الأيام بحثاُ عن "شغفه
الحقيقي".
ومع استمرار هذه الحالة النقدية،
والمراجعة المستمرة، يبدأ الشخص بإعادة ترتيب أولوياته في الحياة، وتحديد أهدافه
بشكل أوضح وأكثر تحديداً، رغم أنه في البداية سيشعر بأنه تائه وسط طود عظيم من
الأفكار، التي تعصر به وتقذف به يميناً وشمالاً، إلا أنه سيكتسب الثقة يوماً بعد
يوم، وسيتمكن من فلترة تلك الأفكار، للوصول إلى أهدافه الحقيقية التي تتماشى مع
طبيعته.
ولعل هذه هي أخطر مراحل الصحوة الروحيّة
إذ أن غالبنا لا يتجاوزها بنجاح، بل يغرق في موج الأفكار هذه، ثم لا يلبث أن يجد
نفسه تائهاً في الصحراء، دون مرشدٍ، أو نجمٍ يهتدي به، وسرعان ما يعود إلى وتيرة
حياته السابقة، مُحملاً بخيبة الأمل!
ولكنه إذا ما عبر هذه المرحلة بنجاح، فإنه
وبالتأكيد سيتمكن من الحصول على تلك الانفراجة في الرؤية، تلك الطاقة الروحية التي
فتحت نافذتها لهذا الشخص ليبصر من جديد، وحينها لن يعود هو كما كان ذات يوم، كما أن
العالم الذي عرفه لن يعود ذاته أبداً، وهنا بالذات سيكون قد تجاوز نقطة اللاعودة
إلى الأبد!
إعادة إكتشاف الذات، تعني إعادة اكتشاف
قدراتنا، وحدسنا، وشغفنا، وشخصيتنا، سنشعر بطاقتنا الروحية من جديد، وسنكتشف قدرات
ومواهب جديدة كانت مدفونة تحت غلافنا الخارجي، ولربما طمسناها لنتماهى مع من
حولنا، ومع هذه الاكتشافات والطاقات الجديدة المنبعثة فينا، سنشعر ولأول مرة ربما،
أننا بتنا أكثر انسجاماً مع أنفسنا، على عكس ما كنا نظن في السابق!
ولعلّ أهم نتائج هذه الرحلة هي الوصول إلى
التوافق الروحي؛ أن نصبح نسخة أفضل من أنفسنا، قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة
التي كانت تؤرقنا، بل إننا نكون قد أسّسنا لعهد جديد، لقفزة فكرية وروحيّة ستفتح
لنا آفاقاً جديدةً، وورؤية أكثر اتساعاً وجمالاً وحيويةً!
وهذا التوافق الروحي سينعكس علينا إيجاباً
في الانصهار في المجتمع بشكل أفضل وأكثر سلاسة، فاليقظة الروحية لا تعني ممارسة
حياة النسّاك، بل على العكس تماماً، فهي تزيد من وعينا المجتمعي وتعاطفنا مع
القضايا العامة والانسانية.
وهي رحلة لا شك طويلة وشائكة، بل ومستمرة،
ومن أجل الاستمرارية علينا أن نجد الأجوبة المناسبة، وملءَ الفراغات الروحية، وفي
سبيل ذلك علينا أن نتخلى عن خداع الذات، فاليقظة الروحية تتطلب تنظيف الجسد أولاً
والفكر ثانياً، من أجل بناء شخصيتنا من جديد، ومن ثم البدء بتغيير واقعنا، والعالم
من حولنا، إن استطعنا، ولن نتمكن من هذا إلا إذا واجهنا أنفسنا بالحقيقة، وتخلّينا
عن كل الأعذار والتسويفات، وعن كل القيود التي تحدّ تفكيرنا، وتشلّ حركتنا.
هي رحلة مستمرة، قد تستغرق عمراً طويلاً،
يتخلّله صعودٌ وهبوط، ولكن بغض النظر عن مدى الصعوبات التي تواجهنا، والاخفاقات
التي تحدث لنا في بعض الفترات، علينا دائماً النهوض والمحاولة من جديد، للوصول إلى
الهدف، للوصول إلى ذواتنا، إلى أعماق أعماق ذواتنا، هي رحلة إلى الذات، يدفعنا
لها، ذلك الحنين، الحنينُ إلى الذات!
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب
ومُدوّن من الأردن
24-3-2023