الاثنين، 23 مايو 2022

الشهيدة التي لا يجوز الترحم عليها!


لم تكن واقعة استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة مريرة بواقع اغتيال الكلمة فقط، بل باغتيال الانسانية ومفاهيم المواطنة والتعايش في مجتمعاتنا العربية، فما كاد الناشطون والمثقفون يبدأون برثاء شيرين وذكر "استشهادها" والدعاء بالرحمة لها، حتى انبرى البعض مُذكراً بعدم جواز الرحمة والدعاء لغير المسلم!
ولعلني أبدأ مقالي هذا بالقول إن كل حراك فكري هو حوار إيجابي حتماً، وإن تحريك المياه الراكدة سيدفع بالرواسب والعوالق إلى السطح مما يسهل من عملية تنظيفها.
ولكن عتبي الأكبر على كل من حاول الدفاع عن موقفه بالترحّم على شيرين من مبدأ "شيرين غير" أو مبدأ الوحدة في وجه العدو الصهيوني، لأن الفكر يُرد عليه بالفكر والأدلة وليس بالعواطف.

بدايةً أود القول أنه حان الأوان لتصحيح عدة مفاهيم خاطئة متوارثة، بل متأصلة في العقيدة التي درسناها وحفظناها، وللأسف فإن ذات العقيدة التراثية ما زالت تُدرّس في جميع بلداننا وتحظى بمباركة وقبول مجتمعاتنا.
إن المسؤولية اليوم تقع على عاتق الأفراد أنفسهم، لأن المؤسسات الدينية هي التي تحرص كل الحرص على تقديس التراث وتحارب كل من يتجرأ على مناقشته وطرح أي رأي مخالف.

من هم المسلمون

في حين يستأثر التراثيون بوصف أتباع سيدنا محمد (ص) بالمسلمين، فإن الله سبحانه وتعالى قال صراحة ودون لبس في كتابه العزيز أن الاسلام هو دين الله وأن كل الموحدين من أتباع الرسالات كافة هم مسلمون من عهد سيدنا آدم إلى سيدنا محمد (ص)، وأن الاسلام هو التوحيد بالله والايمان باليوم الآخر والعمل الصالح (العبادات والمعاملات أو الأخلاق)، في حين وصف أتباع سيدنا محمد بالمؤمنين أو الذين آمنوا، وأتباع الرسالات الأخرى بأهل الكتاب.
وهذا المفهوم الشامل للاسلام من شأنه أن يضع جانباً كل الاختلافات والاتهامات التي يرمي بها أصحاب الرسالات السماوية بعضهم بعضاً بل وأصحاب الرسالة الواحدة!

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 62

هل طُلب منا إطلاق الأحكام على البشر؟

لقد حرص الله سبحانه وتعالى على توضيح ان الحساب بيده وحده، وأن الثواب والعقاب متروك له وحده، كي لا يتألّه أحد على الله ويدّعي انه يملك مفاتيح الجنة والنار وتوزيع صكوك الغفران، ووضح لنا أن المطلوب منا هو الدعوة الحسنة وترك ما لا يعنينا

(أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (

هل الرحمة مختصة برسالة معينة؟

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لرَّحِيمُ)

في محاولاتنا لفهم كتاب الله عز وجل علينا أن نستوعب أن هذا الكتاب هو من عند الله سبحانه وتعالى وأن نظمه وتفصيله وتوقيع معانيه ومصطلحاته تستلزم دقة الفهم والوعي من المتلقي، وأن جُلّ مشاكلنا في التفسير صادر عن قناعتنا بوجود المترادفات ونسخ الآيات بعضها لبعض، في حين أنه لا يوجد تعارض بين آية وأخرى إلا في عقول التراثيين.

يقول الله سبحانه وتعالى لعباده وليس لطائفة محددة ولا أتباع رسالة محددة، بأنه يغفر الذنوب جميعا، ويدعوهم إلى عدم اليأس من رحمته، فيما نحن نقسّم رحمة الله فنختص بها أنفسنا ونحرم غيرنا منها!
بل إن الله سبحانه وتعالى قد لام على الأقوام السابقين بأنهم كانوا يقولون أنهم أحباب الله وأن أحدا غيرهم لن يدخل الجنة، وبعد أن منّ الله علينا بالايمان أخذنا منهم تلك الدعيّة وأطلقناها على أنفسنا!

القول بشرك أهل الكتاب وكفرهم

لقد وضح الله سبحانه وتعالى الضلال الذي وقع فيه (بعض) أهل الرسالات السماوية الأخرى وبيّنه لنا كي نستوعب الدين الصحيح على النحو الذي ينبغي ولا نقع في الشرك بأن نشرك سيدنا محمد في الألوهية مثلا أو نقع في شرك تجسيد الله وغيره من الأمور ولكن الله سبحانه وتعالى كان دقيقاً في وصف هذا الشرك والكفر في "بعض" أهل الكتاب ولم يعمّم هذا الأمر عليهم، ومن باب أولى أن لا نحكم على بواطن الأمور وعلى إيمان البشر وما في قلوبهم، والأحرى بنا أن نتحلّى بصفات الاسلام ونلتزم بالقيم الانسانية العظمى، وندعو بالرحمة التي كتبها الله على نفسه (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء)

وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب بما يليق بهم من إنسانية، ووضعهم في مكانهم الصحيح من البشرية، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون كبقية البشر 

((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)) آل عمران 

الغريب أن المفسرين الأوائل عندما عجزوا عن تفسير هذه الآيات نتيجة تعارضها مع مفهومهم المتوارث، قالوا إن المقصود بهذه الآيات هم أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد، ولا أعلم كيف تم إقحام الايمان بسيدنا محمد (ص) في هذا النص!
كما يلاحظ من النص استخدام الفعل المضارع (يؤمنون يأمرون يفعلوا) للتأكيد على حضور واستمرار هذا العمل وأنه لا يخص مدة زمنية محددة، وهذا ينفي بعض التفسيرات التي تقول ان المقصود هم أهل الكتاب قبل بعثة سيدنا محمد فحسب.

هل هناك فئة أو طائفة ستدخل الجنة بدون حساب

يقول الله سبحانه وتعالى في نص صريح وواضح: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)) سورة النساء

فالقاعدة العامة تقول إن كل فرد سيجازى على ما سيعمل، ولو كان من أتباع سيدنا محمد (ص)، وأن شرط قبول الأعمال الحسنة هو الايمان بالله واليوم الآخر، وهو أمر ليس محصورا في أمّة بذاتها، لاحظوا أن النص تحدث عن الأفراد وليس الأمم (من ذكر أو أنثى).
 
طلب الرحمة والمغفرة

في أواخر سورة المائدة هناك حوار جليل بين الله سبحانه وتعالى وسيدنا عيسى عن النصارى الذين أشركوا السيدة مريم والسيد المسيح في الألوهية، وفي نهاية هذا الحديث يقول سيدنا عيسى (إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ).

وأنهي حديثي بالقول بأننا لا نقول سوى ما قاله عيسى في حضرة الله سبحانه وتعالى (وقول الله الغيب هو قول واقع) وعُلمنا لا يتجاوز علم رسول من الرسل، ولو كان قد حقّ العذاب على هذه الفئة (رغم أنها أشركت في الألوهية) لما تجرأ سيدنا عيسى على جعل المغفرة خياراً مطروحاً ولكان ذلك مخالفة لأوامر الله، ويأتي جواب الله لعيسى مصداقاً لهذا القول) قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ) فبقي باب المغفرة والرحمة مفتوحاً والأمر كله لله.
فما علينا اليوم سوى طلب الرحمة لأخوتنا في الانسانية وإخوتنا في الاسلام دين الله الشامل، و الله رحيم واسع المغفرة، وسيبقى كذلك في أذهاننا ووجداننا، مهما صوره البعض بخلاف ذلك، وهو الذي أباح لنا الزواج من أهل الكتاب، فكيف نتزوج ممّن لا نرجو رحمة الله لها!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
22-5-2022

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق