حمل هذا الفيلم "لا تنظر إلى الأعلى" مفاجأة سارة لعشّاق السينما الهادفة، ولمناصري قضايا البيئة والحفاظ على الطبيعة. وعلى عكس المتوقع من شبكة "نت فليكس" وصنّاع السينما بشكل عام، فقد سلّط الفيلم الضوء على تابوهات سياسية واجتماعية وبيئية تم تهميشها عن عمد، وبقيت في طي النسيان لسنوات طويلة.
حبكة الفيلم الظاهرية تدور حول فريق أكاديمي يكتشف نيزكاً عملاقاً متجها إلى الأرض مما يهدد بحدوث تسونامي هائل يهدد وجود البشرية، فيما يكمن محور الفيلم الأساسي في كيفية تعامل البشر على مختلف ثقافاتهم مع هذا التحدي الجديد لوجودهم، وكيفية تعامل "السلطة" مع هذا الأمر ومحاولتها تطويع الرأي العام لخدمة مبتغاها بعيداً عن مصلحة الأرض وأهلها.
يركز الفيلم على السلطات الثلاث الأهم في عصرنا، السلطة السياسية، السلطة الإعلامية، وسلطة التكنولوجيا ورجال الأعمال. ففي حين ترى السلطة السياسية في هذا التحدي فرصة لكسب الأصوات وحشد الجماهير لتقوية مركزها في السلطة عن طريق الاستعراض والتلاعب بالعواطف، يتجه رجال الأعمال إلى تسخير هذه "الفرصة" لزيادة ثرواتها وملكياتها واضعين مصلحة الشعوب والكرة الأرضية في أدنى قائمة اهتماماتهم، فيما تقوم السلطة الإعلامية بخدمة السلطتين الأخريين بما يخدم مصلحتها هي، من خلال التعتيم الإعلامي على القضايا الجوهرية والتركيز على التفاهات الإعلامية وأخبار النجوم، بما يؤدي في النهاية إلى السيطرة على الشعوب من خلال تجهيل البشر وترويج نظريات المؤامرة.
هذه الحالة الفوضوية تنجح في النهاية في إقناع سكان الأرض بعدم وجود أي خطر على حيواتهم أو على الكرة الأرضية، وأن ما يقوله العلماء هو محض هراء نابع من أشخاص مضطربين عقلياً، أو مؤامرة دنيئة تهدف إلى تهديد العيش السلمي.
ويأتي عنوان الفيلم "لا تنظر إلى الأعلى" لتسليط الضوء على المفارقة الكبرى التي يطرحها الفيلم، فحين يطرح العلماء نظريتهم حول وجود المُذنّب، ينقسم البشر بين مشكّك، أولا مبالٍ، أو جاهل غير متابع للتطورات. وعند ظهور المُذنّب واضحاً جلياً في سماء الأرض، يُفترض أن يُحسم الجدل، فكل ما يتطلبه الأمر هو فقط "النظر الى الأعلى" لرؤية الخطر جلياً ووشيكاً، وهذا ما يحاول العلماء قوله للشعوب: بكل بساطة انظروا إلى أعلى، إلا أن السلطات الثلاث تبدأ الترويج لنظرية المؤامرة، وتدعو الشعوب إلى النظر "إلى الأمام" حتى تستمر المسيرة، في حين أن النظر إلى الأعلى سيعيق التقدم البشري!!
على الرغم من أن هذه الصورة الدرامية تحمل من الكوميديا السوداء الشيء الكثير، ورغم أننا نراها مجرد مشهد سينمائي قد يثير الاستغراب أو الضحك، إلا ان الحقيقة المرّة أنها تمثل الواقع بكل تفاصيله، وتعكس حقيقة جهل الشعوب ولا مبالاتها وحالة الإنكار التي تعيشها!
كم منا يتابع أو يهتم بأخبار الكرة الأرضية وما يحدق فيها من أخطار؟ بدءاً من عملية التغيير المناخي وذوبان الجليد وارتفاع منسوب المياه، وحالات التصحّر وانحسار الغابات المطيّرة، وحرائق الغابات؟
كم منّا يكترث لأخبار التسلّح النووي وأسلحة الدمار الشامل؟
كم منّا يكرّس من يومه بعض الوقت لمتابعة أخبار التلوث البيئي واتباع الارشادات للمحافظة على البيئة في المنزل والعمل والسيارة...الخ
من منّا يقوم بتشجيع الصناعات التي تعمل على الطاقة البديلة، أو اقتناء الملابس التي يتم تصنيعها عن طريق إعادة التدوير؟
من منّا يشجع الشركات والعلامات التجارية التي تناصر قضايا البيئة وتلتزم بمعايير المحافظة على البيئة؟
من منّا يشجع الصناعات والعلامات التجارية التي تخصص جزءا من ريعها لتشجيع المجتمعات المحلية وتقوم بالخدمات الطوعية والتوعوية للمجتمعات؟
من منّا يحاول ترشيد استهلاك الطاقة والمياه ونشر التوعية حول هذه المواضيع؟
الاجابة بكل اختصار قلة قليلة جداً والأغلبية العظمى إما جاهلة وغير واعية أو غير مبالية البتّة!
نحن بحاجة فقط إلى النظر إلى ما حولنا كي ندرك حجم المعاناة والخطر المحدق فينا وفي الأجيال القادمة، ولكننا كما في شخوص هذا الفيلم لا نكترث!
دعونا لا نذهب بعيداً، انظروا كيف تعاملنا مع جائحة كورونا خلال العامين الماضيين، فرغم كل ما شهدناه من أزمة صحية وانسانية، إلا ان هناك من لا يزال يُشكّك في وجود الوباء أو خطورته، وهناك من يحرّض على عدم أخذ المطعوم والاستجابة للاجراءات الاحترازية!
في هذا العام وصلت الزيادة في درجات الحرارة الى 1.2 درجة مئوية فوق المعدل، وارتفعت درجة الحرارة في المناطق القطبية بأكثر من ثلاث درجات. يعاني نحو 700 مليون شخص حول العالم من نقص الغذاء، وخلال العقد الماضي نزح أكثر من أربعين مليون شخص بسبب الكوارث الطبيعية.
في العراق وحدها تحولت نحو 160 كم من الأراضي الزراعية إلى صحراء جافة في عام 2021.
أما بالنسبة للمياه فإن نسبة المياه الصالحة للشرب لا تتعدى 0.3 بالمئة من نسبة المياه على سطح الكرة الأرضية، وهناك نحو مليار انسان حول العالم يفتقرون لمصادر مياه عذبة. ورغم أن الشرق الأوسط يشكل نحو 5 بالمائة من سكّان العالم إلا أن حصته المائية لا تتجاوز واحد بالمئة من اجمالي المياه العذبة.
هل تعلم عزيزي القارىء أن هناك يوماً عالمياً لدورات المياه، وأن نصف سكان العالم لا يتمتعون بنظام صرف صحي فعّال، وأن نحو 700 مليون شخص لا يمتلكون نظام صرف صحي خاص أو عام ويقضون حاجاتهم في الغابات والمناطق المهجورة؟
كل هذه المعلومات هي حقائق واقعية تعكسها الأرقام ولا تستدعي منّا سوى "النظر إلى أعلى"، فهل نستمر في النظر إلى الأمام؟!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
2-1-2022
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق