الجمعة، 20 أغسطس 2021

مقاهي الفلاسفة والديكتاتوريون الجُدد


 من المعضلات الأخلاقية التي فرضتها علينا الحياة البشرية، منذ عهد قابيل وهابيل، هي الخيار بين المواقف الصداميّة التي تقود إلى العنف، وكل أشكال التطرّف والانقسام، وبين أن تكوّن ليّنا ديبلوماسيّاً، وتختار التعايش والسلام.

وفي خضم صراعات كثيرة ومريرة طويلة مرّت علي في حياتي الشخصية والعمليّة، كنت دائماً ما أجد نفسي بين هذين الخيارين، أن تكون حليماً ليّناً أو أن تثأر لرغباتك الأساسية وتكون صدامياً نزقاً. وباستثناء حالات نادرة ومعدودة كنت أختار ان أكون هابيل.

وهذه المعضلة، عادة ما يتبعها تقييم متأخر بعد شهور أو سنوات، أو لعله يتأخر إلى مرحلة الحكمة الأربعينيّة، إلا أن الملاحظ أنني كلما مارست ذلك التقييم وسألت نفسي إن كنت قد ندمت على ما فعلته من لين وتغاضٍ، أو إن كنت قد ندمت على ما لم أفعله من حسم وتصعيد، كانت النتيجة دوماً ما تميل إلى رضاي التام عن اتخاذي سبيل اللين والسلاسة.

 

ترشدنا الفلسفة أيضاً، إلى ضرورة أن يتحكم الفرد بمشاعره السلبية؛ الخوف والغضب والكره والبغض، والانحياز والتكبّر....الخ. فإذا أفلح في ذلك كان هو هو، وبات المسيطر على تصرفاته وسماته الشخصية، وإن فشل ولو جزئيا فقد السيطرة على ذاته وبات رهينة لتلك المشاعر التي تسوقه دون عناء!

 

أما في علم النفس، فإن الانسان مسؤول عن تصرفاته في الأساس، وعن شخصيته "الواعية"، ولكن الانسان مسؤول أيضاً بشكل أو بآخر، عن أفكاره اللاواعية، أي عن مشاعره السلبية التي يكتمها، فإن فشل في كتمها وظهرت للعلن، فهي مسؤوليته وحده، ولن يُقبل منه أن يلومنّ أحدا!

 

كان لا بد من هذه المقدمة، كي أدخل في صلب الموضوع، وهو ما بات لافتاً في السنوات الأخيرة من سجال وخصام، واستقطاب غير مسبوق، في عالمنا العربي، وعلى كافة الأصعدة، وكأنه داء معدٍ لا سبيل لوقف زحفه، ولا حتى بالمطاعيم المحسنة!

 

في تونس، إنقلابٌ على الديمقراطية، وأجراسٌ تقرع منذرة بانتكاسة أخرى لكل ما اكتسبه الشارع التونسي في ثورته ضد الديكتاتورية، تماهياً مع ما حصل في بلدان أخرى، ومع ذلك ترى النشطاء والمثقفين الذين كانوا يمجدون الديمقراطية واحترام الرأي والرأي الآخر، يرقصون في الشوارع والميادين وعلى أسطح العالم الافتراضي احتفاءّ بالثورة ضد الديمقراطية والحرية!

وما هذا إلا نكايةً بالآخر، واستشفاءّ به!

 

وفي مصر، محاكمات واقصاء وتكفير لجماعة معينة، ذنبها أنها وصلت للحكم من خلال الصناديق، وتلك جريمة لا تغتفر، فباتت هي الشمّاعة لكل فشل، والمعوّق للتقدم والتطور وتحقيق العدالة والديمقراطية!

ومع ذلك ترى الثورجيين والأحرار سعداء، يدقّون الكؤوس على مذبحة التعددية والحوار والوفاق الوطني!

 

أما عن اليسار التائه، فحدّث ولا حرج، فكل ما يمت بصلة للتيار الديني فهو رجعي متخلّف يريد أن يعيدنا إلى عصور الجهل والظلام، وهو تبسيط لا يقع فيه إلا جاهل أو متحامل. وما هذا سوى تعبير عن مواقف بائدة عفا عنها الزمن ما زلنا نلوكها ونستمرىء اجترارها!

 

وفي سوريا، إما أن تؤمّن على بركات الرئيس والصورة المقزّمة للتعددية وتلك المسرحية الساخرة التي تُعرض على شاشات التلفزيون ليل نهار، وإما أن تكون عدوّا للوطنية والقوميّة، مأجوراً أو أفاقاً.

وفي سبيل الوقوف ضد الامبريالية، لا بأس من الخوض في مستنقعات الدم، ودهس جماجم الأطفال، وحرق جثث المعارضين الفائضة عن مساحة السجون، وسط تهليلات المُناصرين الوطنيين!

 

هناك فرق كبير بين الاختلاف والحوار، وبين الاقصاء والصدام. ما يحصل اليوم هو نتيجة لكل مشاعرنا السلبية الدفينة فينا من سنوات خلت، هي نتاج لعقلنا اللاواعي، الذي نرفض مواجهته، ونرفض كذلك تحمّل مسؤولياتنا في السيطرة عليه، أو على الأقل تهذيبه، وبدلاً من ذلك نقوم بتحميل ذنب مشاعرنا السلبية تلك للطرف الأخر، فنتهمه بالاقصاء والتشدّد والنفاق والخداع واستغلال السلطة...الخ المسلسل الطويل، بينما في الحقيقة نحن الذين ننقض كل مفاهيم التعددية والديمقراطية ونرفض الحوار، ونتشدد في أحكامنا، ونطلق التعميمات، ونعقد المقارنات، دون أن نأخذ دقيقة واحدة لمراجعة أفكارنا أو التروّي بالحكم، أو ان نعدّ إلى العشرة قبل أن نطلق الرصاص!

 

لم يعد مقبولاً أن نرى طبقة الناشطين والمؤثرين والمثقفين في مجتمعاتنا يمارسون لغة الردح والمماحكة بدلاُ من الوقوف معاُ ضد الظلم والفساد. ولم يعد من المستساغ تبرير الديكتاتورية والقمع وسوء استغلال السلطة، لأن المتضرر هو خصمنا في السياسة.

 

معركتنا نحو الحرية وتحقيق مبادىء العدالة واحترام حقوق الانسان، هي غاية وليست وسيلة لاظهار الذات وتسجيل الانتصارات. وطريقنا طويلة، بل إنها ستطول إلى الأبد إذا ما بقينا نركّز على معاركنا الجانبية بدلاً من التركيز على الهدف!

 

من أساسيات الحضارة والرقي الفكري أن تُبنى ثقافة الانسان على اكتساب العلم والمعرفة، ثم البحث والتقصّي عن الوقائع والحقائق بالمنطق والجدل الفكري، دون التخلّي عن الأخلاق والمحافظة على المثل العليا والقيم الانسانية، وصولاً إلى الحكمة والفلسفة وامتلاك الفكر النقدي البناء. ولعلّي أقول جازماً أن عصر الثورة الالكترونية التي نعيش، وقفزة "مقاهي الفلاسفة الافتراضية" جعلتنا نبني ثورتنا الفكرية بالمقلوب، فجعلت منا رُعاعاً في زمن غابر، إذ لا يكفي أن نتناقش على طاولة في مقهى كي نصبح فلاسفة!

 

قالها من قبل بنجامين فرانكلين Either we hang together or we will hang alone إما أن نتعايش معاً او نُشنق فرادى!. واليوم لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تتمخض أحوالنا المُترعة بالشقاق وإعلاء الذات، سوى إلى الغرق في دوامة الأنظمة السلطوية والديكتاتوريين الجدد!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

17-8-2021