بات حلم التحرير أقرب من أي وقت مضى، وباتت بشائره تلوح في الأفق، حتى أن نشطاء تويتر أطلقوا وسماً (غرّد كأنها حرّة) لوصف مشاعرهم لمرحلة "ما بعد التحرير" في خطوة رمزية عميقة المعنى والتأثير.
والسؤال الذي يطرح نفسه، لماذا كل هذه المشاعر الايجابية وماذا تغيّر؟
لكي نستوعب ما يحصل حالياً علينا أن نعود إلى جذور الأزمة ونفهم أسباب نشوئها بعيداً عن العواطف وإرهاصات نظريات المؤامرة والخيانة.
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وإطلاق وعد بلفور بدأت الحركة الصهيونية بالعمل على إنشاء وطن قومي لليهود مستفيدة من الصراعات السياسية الدولية، والتحالفات الاقليمية. ليس هذا فحسب بل واستغلال التعاطف الشعبي واللعب على وتر الدين -الكتاب المقدس، والهجرة الأولى للعبرانيين إلى الأرض المقدسة. بل إن الدعاية الصهيونية كانت تتعمد استخدام مصطلح العبرانيين وليس اليهود في حملتها.
وبذلك استطاعوا نشر كل أكاذيبهم وادعاءاتهم من خلال كل الوسائل المتاحة، ومن خلال استغلال المشاهير والنجوم للدعاية لمشروعهم الصهيوني.
أين كنا نحن؟
في تلك المرحلة ووسط إزدهار المشروع الصهيوني، كان الشرق العربي في أدنى مراحل الحضارة الاسلامية ونفوق الدولة العثمانية، وكان العرب قد دخلوا للتو معركتهم نحو الاستقلال، فخرجوا من عباءة الخلافة العثمانية ليستظلوا بظل الانتداب الاستعماري للمنطقة.
تلك اللحظة الفارقة في تاريخ بلادنا العربية شهدت صراعاً سياسياً بين قوتين عظمتين بريطانيا وفرنسا، وللأسف فإننا ولغاية هذه اللحظة لم نستطع أن نقرأ تلك المرحلة التاريخية الفارقة، ونستوعبها على شكلها الصحيح، وبدلاً من ذلك تقوقعنا خلف متاريس نظرية المؤامرة والخيانة كي نبعد عن أنفسنا شُبهة الفشل والهزيمة!
لقد خسرنا المعركة السياسية والعسكرية ولكن الأهم من ذلك أننا خسرنا المعركة الثقافية والحضارية، وهذا ما نخجل من قوله إلى يومنا هذا!
لكم أن تتخيلوا أن الوكالة اليهودية قد أنشأت لها أذرعاً إعلامية ومكاتب ميدانية في معظم العواصم الغربية وبدأت بنشر أفكارها باستخدام رموز ثقافية ومشاهير من الغرب، حيث كان لها من الداعمين والمتعاطفين ما يكفي لهزم كل المثقفين والساسة العرب مجتمعين، حتى أن أحد السياسيين البريطانيين وصف الساسة العرب على خلفية مناقشة قرار التقسيم عام 1947 ب "الدرجة الثانية" مقارنة بالوفد الصهيوني.
ولكم أن تتخيلوا الزخم الثقافي للحركة الصهيونية إذا علمت أن فيلسوفا وأديباً بحجم "سارتر" كان من أشد الداعمين والمدافعين عن ذلك المشروع في فرنسا، ولك أن تستوعب مقدار العجز العربي، حين يخاطب الرئيس ترومان الوفد العربي الذي حاول أن يثنيه عن دعم قرار التقسيم بقوله: (آسف، لستم من صناع القرار في الانتخابات الأمريكية وعلي أن أقلق على مئات الآلاف من الأصوات اليهودية والمتعاطفين معهم!)، ثم أضف إلى ذلك أن مُمّثلاً بحجم مارلون براندو قد تم تسخيره لبطولة مسرحية للتبشير بعودة العبرانيين إلى أرض أجدادهم وجمع التبرعات لدعم الهجرة اليهودية، جمعت من خلالها الوكالة اليهودية ملايين الدولارات في ذلك الوقت.
عندما نشبت حرب عام 48 كانت البلدان العربية قد استقلت عن الانتدابين البريطاني والفرنسي لتوها، ولم يكن هناك ما يمكن تسميته بالجيوش العربية باستثناء الجيش الأردني (الجيش العربي) الذي حرصت بريطانيا على تسليحه وتدريبه، وهذا ما أهله للحفاظ على أراضي الضفة الغربية عام 1948 في حين تآلفت الوكالة اليهودية مع العصابات الصهيونية وكانت قد بدأت بالفعل حرب عصابات ضد القوات البريطانية بغية إجبارها على الانسحاب من فلسطين في الوقت الذي كانت فيه بريطانيا "على عكس ما نتداوله" حريصة على استمرار نفوذها في فلسطين بالذات وعدم الانسحاب منها.
وقد عملت الوكالة اليهودية على الائتلاف مع فرنسا الجديدة (فرنسا الحرة بقيادة ديغول) للقضاء على نفوذ بريطانيا في المنطقة وكانت تتمتع بالتنسيق الأمني والدعم اللوجستي والتسليح طوال تلك الفترة واستمرت صفقات الأسلحة الفرنسية لعقد من الزمان بعد نشوء دولة الاحتلال، بالتزامن مع الدعم الأمريكي المستمر لهذه اللحظة، وحين شدّدت بريطانيا من إجراءاتها للحد من الهجرة اليهودية، طرقت الوكالة اليهودية أبواب فرنسا وأمريكا وكان لها ما أرادت.
فمن خلال ما يعرف باللوبي الصهيوني استطاعت الوكالة الضغط على الرئيس الأمريكي ووزارة الخارجية لدعم المشروع الصهيوني في فلسطين، إلى الحد الذي فقد فيه الرئيس ترومان صبره وصرّح للمقربين منه (إذا كان المسيح نفسه قد عجز عن إرضاء اليهود فكيف سأتمكن أنا من إرضائهم!).
باختصار هذه هي الحالة التي كنا عليها وقت احتلال فلسطين وما تلا ذلك من نكسات كان استمراراً لذات النهج الفاشل ولم يكن بأفضل حال على الاطلاق.
ومنذ ذلك الوقت وإلى هذه اللحظة ونحن نعيش في كذبة كبرى من النضال والكفاح المسلح وشعارات قومية كاذبة وإدعاءات بمؤامرة كبرى بدلاً من الاعتراف بفشلنا على كافة الأصعدة السياسية والثقافية والحضارية والعسكرية، وعلى كل المستويات من القيادة إلى المواطن البسيط.
ومن هنا نستطيع القول عملياً وبعيداً عن العاطفة وتضخيم الأمور، إن ما حصل خلال العقد الماضي بدءاً من الربيع العربي الذي حاول نفس التيار الفكري الذي قاد الأمة للفشل بتصويره على أنه ربيع عبري ومؤامرة أخرى، وانتهاءً بأحداث القدس وغزة مؤخراً، نقول إن ما حصل هو تغيير حقيقي لوجه العالم العربي، وإعادة صياغة لمفاهيم الحرية والوطنية والشرف والكرامة وصولاً إلى رسم طريق التحرير على أرض الواقع.
الثورة تبدأ من الفكر وبدون فكر وثقافة داعمة، وحضارة قادرة على رفد المعركة بالأسلحة اللازمة، ستقف الجيوش عاجزة، وستصاب العملية السياسية بالشلل.
لقد بدأ مشروع تحرير فلسطين من ميدان التحرير وميادين تونس والجزائر وحمص وسرت والدوار الرابع، وأخذ بعده الثقافي والحضاري من خلال جيل جديد واع استطاع خلال أيام معدودة وبفضل زخم مقاومة أهل فلسطين في الداخل، من غزو الفضاء الاعلامي وكسب المشاهير في صف القضية الفلسطينية وإعادة تعريف القضية الفلسطينية، وإثبات الحق الذي لا يقف في وجهه كذب أو إدعاء.
لقد كان للمحتوى الفلسطيني فعل السحر ليس فقط في التأثير على الشعوب العالمية والتعاطف مع أهل القدس وغزة، بل وفي تغيير المواقف السياسية الداعمة للكيان الصهيوني، والتأثير على صناع القرار، وهذا ما آلم الكيان الغاشم وقيادته.
إن أصداء الهزيمة المدوية للدعاية اليهودية ولعصبة اللوبي الصهيوني ما زالت تدق أجراسها في أصداء دولة الاحتلال.
وعلى صعيد آخر، لقد أثبتت المقاومة الفلسطينية قدرتها العسكرية على الوقوف في وجه العدو وهزيمته من الداخل، دون جيوش أو خطط كلاسيكية، وكما هزمونا أول مرة نستطيع هزيمتهم وقض مضاجعهم، وسيرحلون كما جاءوا على متن سفنهم البحرية وطائراتهم الجوية.
ما نحتاج إليه اليوم هو المزيد من الايمان بأنفسنا وقدراتنا، والتخلي عن فكر نظرية المؤامرة وعن فكرة المُنقذ الأسطوري، فالأسطورة هو هذا الشعب.
وكما هزمونا في مجال القانون الدولي وأروقة الصالونات السياسية، علينا أن نرتقي بأدواتنا وعلومنا لنهزمهم في ذات المجال.
اما كلمة السر فتكمن في الحرية والديمقراطية ودعمها في كل الدول العربية، فلن ننصر القدس ونهزم العدو، بسلطة أوسلو ولا بالطغاة العرب أو بميليشيات إيران، بل سنهزمها بسواعد عربية حرة.
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
6-6-2021
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق