أثناء حكم الرئيس الأمريكي "جورج كيندي"
في الستينات من القرن الماضي، أُعطيت الأقليات العرقية في الولايات المتحدة حقوقاً
أكثر من أي وقت مضى، بعد رحلة كفاح طويلة ضد قوانين التمييز والعنصرية، ونتيجة
لذلك طفت على السطح حالات من الغضب والاضطرابات والعنف، لقد انطلقت فجأة كل
المشاعر المكبوتة في داخل هذه الأقليات، مما أدخل البلاد في موجة عارمة من
الاضطرابات والعنف المتبادل، لقد بدا واضحاً أن مشاكل الماضي التي لم تُحل قفزت
الى الواجهة من جديد.
قام علماء الاجتماع
بدراسة هذه الظاهرة، وأسموها " أزمة
التوقعات المتزايدة"، وهي الحالة التي تصيب
المجتمع حين تلوح له فرصة التعبير عن مشاعره المدفونة بعد فترة طويلة من القمع
والكبت، وهذا ما يحصل تماماً في مجتمعاتنا العربية بعد اندلاع ثورات الربيع العربي
وما صاحبها من فوضى عارمة وانفلات في المشاعر الدفينة والمحبوسة. وأنا هنا أتحدث
عن حالات العنف المجتمعي ولا أتحدث عن ظاهرة الجماعات المتطرفة والارهابية، فذلك
موضوع آخر يحمل في طياته أبعاداً أخرى.
مخطىء من يظن أن ظاهرة العنف
المتزايد الذي تعاني منه مجتمعاتنا هي ظاهرة دخيلة أو مستحدثة، بل هي حالة مُتأصلة
والذي تغير هو توزيع الأدوار فقط أو
بالأحرى تبادل الأدوار في معظم الحالات، كما أن حالات التمرد والعصيان ضد
كافة أشكال السلطة ما هي سوى ردة فعل عكسية لسنوات الخنوع والذل التي عاشتها
الشعوب العربية في ظل حكم الحزب الواحد والجريدة الواحدة والصوت الواحد، أما حالات
التناحر السياسي والحرب الضروس التي تخوضها الأحزاب السياسية من أقصى اليمين الى
أقصى اليسار للاستئثار بالسلطة، فما هي سوى نتاج طبيعي لحالة التهميش التى عاشتها
هذه الأحزاب خلال العقود الماضية.
وهنا يتبادر الى الأذهان
سؤال مهم، هل هذا يعني أننا ندور في حلقة مُفرغة، وأن دوامة العنف هذه ستستمر الى
ما لا نهاية ؟!، وكيف هو السبيل للخروج من عنق الزجاجة، دعونا نعود الى أزمة
الأقليات العرقية، صحيح أن هذه الأزمة استمرت لعدة سنوات وتواصلت الى عهد الرئيس
"ليندون جونسون" ولكنها في النهاية انتهت، ولم يعد لها أي أثر، لقد تم
تجاوز هذه الأزمة باعطاء المزيد من الحريات ورفع سقف الآمال والطموحات، وترسيخ
مبادىء المساواة والعدالة الاجتماعية، مع تحمل المجتمع بكافة أطيافه مسؤولية
الوصول الى بر الأمان، لم تحصل سوى ردة فعل محصورة للأغلبية، وبدورها استوعبت
الأقليات حالة "التنفيس"
التي يعيشونها وأرتقوا بأنفسهم فوق مستوى الأحداث وما لبثوا أن عادوا للانصهار في
المجتمع من جديد، ليتمتعوا بالحرية التي نالوها بعد صراع طويل.
يقول علماء النفس أن
الانسان حين يتعرض لأزمات وضغوطات نفسية، وحين يجد صعوبة في الموازنة بين الرغبات
الداخلية والمُحدّدات الخارجية، يقوم بتخزين هذه المشاعر المكبوتة في منطقة "
اللاوعي" وحين تحين له الفرصة يقوم
بالتعبير عن هذه المشاعر المكبوتة لا
شعورياً أو بطريقة لا ارادية، والطريقة الوحيدة للتخلص من هذه المشاعر
ومعالجتها، هي محاولة استحضارها مجدداً ومواجهتها ومن ثم التخلص منها. ما يحدث
حالياً في مجتمعاتنا لا يعدو كونه حالة تقمّص لشخصية الجلاّد التي عانينا منها
جميعاً، ما تلبث أن تخبو وتزول بمجرد مواجهتنا الجريئة والصريحة لأنفسنا،
واعترافنا بكل مشاكل الماضي وترسباته، وعزمنا على المضي قدماً بالتسامي فوق جراح
الماضي، أملاً في مستقبل مشرق، وغد أفضل لأبنائنا، بعد أن نتجاوز حالة الانسداد الحضاري
والأخلاقي التي نعاني منها حالياً.
أيمن أبولبن
09-09-2014