على طول سنوات الثورة
السورية، استمر القومجيون والوطنيون العرب في تكرار الأسطوانة المشروخة؛ ماذا بعد
الأسد؟ وكيف يمكن ضمان أن "العهد الجديد" سيكون خيراً من سلفه؟!
ولعل هذه المغالطة -غير
المنطقية- التي تُستخدم من أجل الجدال لا الحوار، استمرت -على غير ما يفرضه
المنطق- إلى ما بعد سقوط الأسد، فتعالت الأصوات فجأة مُذكّرةً بأن الجولان محتلٌ ،
وأن النفوذ التركي يمتد إلى شمال سوريا، وأن العدو الصهيوني يقصف المطارات
والمنشآت السورية، دون أن يحرك الثوّار ساكناً.
ولكن هؤلاء لم ينتبهوا
أنهم يدينون أنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فالجولان السوري محتلٌ منذ عام
1967 أي منذ سبعةٍ وخمسين عاماً، والشمال السوري لا يخضع للنظام منذ نحو عشر
سنوات، وأن الضربات الصهيونية مستمرّةٌ منذ عهد الأسد البائد، بل إن الشعوب
العربية كانت وما تزال تتندّر على تصريحات حزب البعث والقيادة السورية "سنرد
في الزمان والمكان المُناسبين" وكانت مشيئة الله أن يبقى هذا التهديد حبيس
الأدراج والمؤتمرات الصحفيّة وكتب التاريخ، ليكون شاهداً على هذا النظام المُتخاذل
الذي استخدم ماكينته الإعلاميّة للترويج لوطنيتّه المزعومة وبطولاته الوهميّة على
غرار "دون كيشوت"، ولتسجّل ذاكرة الشعوب بأن هذا النظام الذي صدّع
رؤوسنا بالمقاومة والممانعة ومواجهة الإمبريالية، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل
أو أمريكا وحلفائها طوال واحدٍ وخمسين عاماً!!.
بوصلةٌ لا تشير إلى القدس
مشبوهة
لم يكن مظفّر النوّاب -
رحمة الله عليه – يعلم أن مقولته الشهيرة هذه ستصبح مطيّة لكل الطواغيت العرب، يُجيّرونها
لمصلحتهم، ويستغلونها أبشع استغلال، لدرجة أن سئمت منها منتديات الحوار ومنابر
الإعلام.
لقد تم رهن كل مشاريع
النهضة في البلاد العربيّة، وكل مشاريع التحرّر وإرساء الديمقراطيّات والتعدّدية
الحزبيّة، بتلك البوصلة، والتعلّل بأن الأولوية بل الأولوية القصوى هي السعي
لتحرير القدس، وإفشال المشروع الصهيوني!
رزحت سوريا تحت خط الفقر
وتم احتكار الساحة السياسية بيد أوليغارشيا البعث الحاكم، وتم مصادرة الحريّات،
وتكميم الأفواه، ورمي الأبرياء في السجون والمعتقلات، وتعذيبهم وسلخهم، وكبسهم في
مكابس الإعدام، والتخلّص من جثثهم، بحجّة البوصلة المشبوهة!
اغتصبت النساء، ويُتّم
الأطفال، واقتلعت الحناجر، ومزّقت الأشلاء، لأن بوصلةً تشير إلى "الله،
حريّة، سوريا وبس!" هي بوصلة مشبوهة!
لم يكن طريق القدس يوماً مُعبّداً
للطغاة والديكتاتوريين، بل على العكس تماماً، من يسعى للحريّة ونُصرة أهل القدس،
عليه أن يكون مؤمناً أصلاً بحريّات الشعوب، وبقيم العدالة والحريّة والمساواة، وكل
من لا يتحلّى بهذه الصفات ويدّعي أنه سائرٌ على طريق القدس، ما هو إلا مخادعٌ
ومنافق.
إن طريق القدس مشروطٌ
ببناء دولٍ ديمقراطيّة تراعي التعدّدية وتضمن حرية الرأي وحريّة الفكر، ولا يخشى
مواطنوها من العقاب أو السجن أو التعذيب، تمارس فيها الشعوب حرية التعبير ويتمتعون
بسلطات دستورية لانتخاب من يحكمهم.
أما أكذوبة الحكم بالنار
والحديد، من أجل الحفاظ على بوصلة القدس، فما هي إلا عذرٌ أقبح من ذنب!
آن لنا أن نفهم تلك
الخدعة، التي ما عادت تنطلي على أحد، لن يحرّر القدس سوى أبناؤها والأحرار من
إخوانهم، وكل من يستغل القضية الفلسطينيّة -الأسمى والأنقى على مرّ كل العصور-
لمآربه الخاصة، سيكون مصيره الذل والخنوع، والهزيمة، ولن يذكره التاريخ إلا بأبشع
الصور!
أعود إلى عنوان المقال
والحديث عن مرحلة ما بعد الأسد. فأقول ليس مهماً اليوم البحث عن كيفية سقوط نظام
الأسد بهذه السرعة، والسلاسة، أو عن أجندة الثوّار، وتاريخهم، ليس هذا هو المهم
بقدر أهميّة الحديث عن دور الشعب السوري والمخلصين من أبنائه في قيادة هذه
المرحلة، والعبور منها إلى مرحلة الأمان والاستقرار، وصولاً إلى مرحلة الدولة
المدنيّة التي تنعم بالتعدّدية السياسية وحرية الرأي والفكر، والعدالة والمساواة.
ولعل من المهم الإشارة،
إلى أن أي مرحلة تجديد وتغيير يرافقها الكثير من المصاعب، والتحديّات، وهذا لا
يعني أن خياراتنا كانت خاطئة، أو أن يغزونا اليأس مبكّراً، على عكس ما يردّده
المُرجفون والخوّافون هذه الأيام، فالتاريخ أثبت لنا أن التضحيات والعطاء والصبر،
هو السبيل الوحيد لنجاح الثورات والنهضات الحضارية على مر العصور، ولولا صبر الفئة
المؤمنة القليلة، وبأسها لما انتشر دين الله والرسالات السماوية، في بقاع الأرض.
ومن هنا أقول إن الكثيرين
للأسف من مثقفي هذه الأمة، ومنذ اليوم الأول للثورات العربيّة، استكانوا إلى وضعهم
القائم، وردّدوا جوراً وبهتاناً أن الذي تعرفه خيرٌ ممّن تجهله، وأن الإبقاء على
الأنظمة -البوليسيّة الديكتاتورية- هو أفضل من المجهول!
ولعمري لو عاش هؤلاء في أي
زمن آخر من أزمان الثورات الكبرى، أو الدعوة لدين جديد، لكانوا من الخوالف
والمرجفين والمنافقين!
اليوم هو عهدٌ جديد في
المنطقة، وعصر لا مكان فيه للمتشككين والمتخوّفين، والمنظّرين، وأصحاب الشعارات،
والأبواق الإعلاميّة، بل هو عصر الجد والبذل والتضحية والعطاء، والبناء، والتأسيس
لنهضة جديدة، قد لا يكون لجيلنا نصيبٌ أن يعيشوا هذا الحلم لنهايته، ولكننا اليوم
مسؤولون عن تأسيسه، وبنيان قواعده.
ولنا في سيرة الأنبياء
وعظماء التاريخ أسوةٌ حسنة، فسيدنا محمد وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة،
بشّر صاحبه بمُلك كسرى، رغم أنه في تلك اللحظة لم يكن يأمن على حياته!
أما عمر المُختار فقد تم أسره
ثم شنقه على أيدي الاستعمار الإيطالي، ولكنه زرع بذرة النصر في الثوّار، والرغبة
في التحرير، فكان له ما أراد.
هذه هي الرؤية وهذا هو
الحلم الذي علينا أن نتمسك به، ونبشّر به الأجيال القادمة.
إن المستقبل و "القادم"
لسوريا مرهون بقدرة الشعب السوري على التعافي من حقبة الأسد الدمويّة، وسرعة
التحوّل إلى ثقافة البناء والإصلاح، وتأسيس الدولة، ومشروطٌ كذلك بقدرة الدول
والشعوب العربيّة على دعم السوريين في تجربتهم الجديدة، وإن كان هناك مؤامرة على
سوريا والسوريين، فلا يوجد أخطر من تلك المؤامرة التي تحاول إيهام السوريين بأن
الماضي أفضل!
أيمن
يوسف أبولبن
كاتب
ومُدوّن من الأردن
13-12-2024