الأربعاء، 1 يناير 2025

الخوف من القادم، ماذا بعد الأسد؟!

 



 

 

على طول سنوات الثورة السورية، استمر القومجيون والوطنيون العرب في تكرار الأسطوانة المشروخة؛ ماذا بعد الأسد؟ وكيف يمكن ضمان أن "العهد الجديد" سيكون خيراً من سلفه؟!

ولعل هذه المغالطة -غير المنطقية- التي تُستخدم من أجل الجدال لا الحوار، استمرت -على غير ما يفرضه المنطق- إلى ما بعد سقوط الأسد، فتعالت الأصوات فجأة مُذكّرةً بأن الجولان محتلٌ ، وأن النفوذ التركي يمتد إلى شمال سوريا، وأن العدو الصهيوني يقصف المطارات والمنشآت السورية، دون أن يحرك الثوّار ساكناً.

ولكن هؤلاء لم ينتبهوا أنهم يدينون أنفسهم من حيث يعلمون أو لا يعلمون، فالجولان السوري محتلٌ منذ عام 1967 أي منذ سبعةٍ وخمسين عاماً، والشمال السوري لا يخضع للنظام منذ نحو عشر سنوات، وأن الضربات الصهيونية مستمرّةٌ منذ عهد الأسد البائد، بل إن الشعوب العربية كانت وما تزال تتندّر على تصريحات حزب البعث والقيادة السورية "سنرد في الزمان والمكان المُناسبين" وكانت مشيئة الله أن يبقى هذا التهديد حبيس الأدراج والمؤتمرات الصحفيّة وكتب التاريخ، ليكون شاهداً على هذا النظام المُتخاذل الذي استخدم ماكينته الإعلاميّة للترويج لوطنيتّه المزعومة وبطولاته الوهميّة على غرار "دون كيشوت"، ولتسجّل ذاكرة الشعوب بأن هذا النظام الذي صدّع رؤوسنا بالمقاومة والممانعة ومواجهة الإمبريالية، لم يطلق رصاصة واحدة على إسرائيل أو أمريكا وحلفائها طوال واحدٍ وخمسين عاماً!!.

 

بوصلةٌ لا تشير إلى القدس مشبوهة

 

لم يكن مظفّر النوّاب - رحمة الله عليه – يعلم أن مقولته الشهيرة هذه ستصبح مطيّة لكل الطواغيت العرب، يُجيّرونها لمصلحتهم، ويستغلونها أبشع استغلال، لدرجة أن سئمت منها منتديات الحوار ومنابر الإعلام.

 

لقد تم رهن كل مشاريع النهضة في البلاد العربيّة، وكل مشاريع التحرّر وإرساء الديمقراطيّات والتعدّدية الحزبيّة، بتلك البوصلة، والتعلّل بأن الأولوية بل الأولوية القصوى هي السعي لتحرير القدس، وإفشال المشروع الصهيوني!

 

رزحت سوريا تحت خط الفقر وتم احتكار الساحة السياسية بيد أوليغارشيا البعث الحاكم، وتم مصادرة الحريّات، وتكميم الأفواه، ورمي الأبرياء في السجون والمعتقلات، وتعذيبهم وسلخهم، وكبسهم في مكابس الإعدام، والتخلّص من جثثهم، بحجّة البوصلة المشبوهة!

 

اغتصبت النساء، ويُتّم الأطفال، واقتلعت الحناجر، ومزّقت الأشلاء، لأن بوصلةً تشير إلى "الله، حريّة، سوريا وبس!" هي بوصلة مشبوهة!

 

لم يكن طريق القدس يوماً مُعبّداً للطغاة والديكتاتوريين، بل على العكس تماماً، من يسعى للحريّة ونُصرة أهل القدس، عليه أن يكون مؤمناً أصلاً بحريّات الشعوب، وبقيم العدالة والحريّة والمساواة، وكل من لا يتحلّى بهذه الصفات ويدّعي أنه سائرٌ على طريق القدس، ما هو إلا مخادعٌ ومنافق.

إن طريق القدس مشروطٌ ببناء دولٍ ديمقراطيّة تراعي التعدّدية وتضمن حرية الرأي وحريّة الفكر، ولا يخشى مواطنوها من العقاب أو السجن أو التعذيب، تمارس فيها الشعوب حرية التعبير ويتمتعون بسلطات دستورية لانتخاب من يحكمهم.

أما أكذوبة الحكم بالنار والحديد، من أجل الحفاظ على بوصلة القدس، فما هي إلا عذرٌ أقبح من ذنب!

 

آن لنا أن نفهم تلك الخدعة، التي ما عادت تنطلي على أحد، لن يحرّر القدس سوى أبناؤها والأحرار من إخوانهم، وكل من يستغل القضية الفلسطينيّة -الأسمى والأنقى على مرّ كل العصور- لمآربه الخاصة، سيكون مصيره الذل والخنوع، والهزيمة، ولن يذكره التاريخ إلا بأبشع الصور!

 

أعود إلى عنوان المقال والحديث عن مرحلة ما بعد الأسد. فأقول ليس مهماً اليوم البحث عن كيفية سقوط نظام الأسد بهذه السرعة، والسلاسة، أو عن أجندة الثوّار، وتاريخهم، ليس هذا هو المهم بقدر أهميّة الحديث عن دور الشعب السوري والمخلصين من أبنائه في قيادة هذه المرحلة، والعبور منها إلى مرحلة الأمان والاستقرار، وصولاً إلى مرحلة الدولة المدنيّة التي تنعم بالتعدّدية السياسية وحرية الرأي والفكر، والعدالة والمساواة.

 

ولعل من المهم الإشارة، إلى أن أي مرحلة تجديد وتغيير يرافقها الكثير من المصاعب، والتحديّات، وهذا لا يعني أن خياراتنا كانت خاطئة، أو أن يغزونا اليأس مبكّراً، على عكس ما يردّده المُرجفون والخوّافون هذه الأيام، فالتاريخ أثبت لنا أن التضحيات والعطاء والصبر، هو السبيل الوحيد لنجاح الثورات والنهضات الحضارية على مر العصور، ولولا صبر الفئة المؤمنة القليلة، وبأسها لما انتشر دين الله والرسالات السماوية، في بقاع الأرض.

 

ومن هنا أقول إن الكثيرين للأسف من مثقفي هذه الأمة، ومنذ اليوم الأول للثورات العربيّة، استكانوا إلى وضعهم القائم، وردّدوا جوراً وبهتاناً أن الذي تعرفه خيرٌ ممّن تجهله، وأن الإبقاء على الأنظمة -البوليسيّة الديكتاتورية- هو أفضل من المجهول!

ولعمري لو عاش هؤلاء في أي زمن آخر من أزمان الثورات الكبرى، أو الدعوة لدين جديد، لكانوا من الخوالف والمرجفين والمنافقين!

 

اليوم هو عهدٌ جديد في المنطقة، وعصر لا مكان فيه للمتشككين والمتخوّفين، والمنظّرين، وأصحاب الشعارات، والأبواق الإعلاميّة، بل هو عصر الجد والبذل والتضحية والعطاء، والبناء، والتأسيس لنهضة جديدة، قد لا يكون لجيلنا نصيبٌ أن يعيشوا هذا الحلم لنهايته، ولكننا اليوم مسؤولون عن تأسيسه، وبنيان قواعده.

 

ولنا في سيرة الأنبياء وعظماء التاريخ أسوةٌ حسنة، فسيدنا محمد وهو في طريق هجرته من مكة إلى المدينة، بشّر صاحبه بمُلك كسرى، رغم أنه في تلك اللحظة لم يكن يأمن على حياته!

أما عمر المُختار فقد تم أسره ثم شنقه على أيدي الاستعمار الإيطالي، ولكنه زرع بذرة النصر في الثوّار، والرغبة في التحرير، فكان له ما أراد.

هذه هي الرؤية وهذا هو الحلم الذي علينا أن نتمسك به، ونبشّر به الأجيال القادمة.

 

إن المستقبل و "القادم" لسوريا مرهون بقدرة الشعب السوري على التعافي من حقبة الأسد الدمويّة، وسرعة التحوّل إلى ثقافة البناء والإصلاح، وتأسيس الدولة، ومشروطٌ كذلك بقدرة الدول والشعوب العربيّة على دعم السوريين في تجربتهم الجديدة، وإن كان هناك مؤامرة على سوريا والسوريين، فلا يوجد أخطر من تلك المؤامرة التي تحاول إيهام السوريين بأن الماضي أفضل!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

13-12-2024

رسالة السنوار الأخيرة، قاوم ولو بعصا!

 



 

 

يستمر العدو الصهيوني في غبائه الإعلامي المستمر، الذي إن دلّ على شيء فإنما يدلّ على عقليته السيكوباتيّة المريضة!

فقد حاول أن يُظهر يحيى السنوار بأنه مكسورٌ منهزم ذليل في آخر لحظاته، محاصرٌ في مبنى مهجور، ثم جثةً هامدة بعد أن قُصف المبنى الذي حوصر فيه.

ولكن الحقيقة أن هذه الصور قد خلّدت صورة السنوار  في ذهنية الشارع العربي، في أبهى صور المقاومة وعدم الاستسلام.

لقد أعتقل يحيى السنوار وعمره سبع وعشرون عاماً فقط، ثم خرج وهو على أعتاب العقد الخامس، ولكنه طوال الفترة التي قضاها في السجن كان دائم التفكير في الوطن وكيفية تحريره من الاستعمار الصهيوني، فقام بدراسة المجتمع الإسرائيلي واستطاع ان يفهم عقليته بل وتمكّن من تعلّم اللغة العبريّة وبدأ التحدث بها بطلاقة، وكان حريصاً على استثمار الوقت، وكأنه في سباق مع الزمن، وقد تحدّث الكثيرون عن حرصه على ارتداء ساعة يده حتى وهو في المعتقل، رغم ان الوقت لا معنى له خلف القضبان، فما بالكم بسجينٍ حُكم بالمؤبد أربعة مرات مع خمس وعشرين عاماً إضافية!

 

خرج السنوار من السجون الإسرائيلية بعد اثنين وعشرين عاماً، وهنا بدأ سباقه الحقيقي مع الزمن، وكان أول أمر استدعى انتباهه هو ذلك السياج الذي يحيط بغزة ويحاصرها، فسأل رفاقه قائلاً لماذا لا تكسرون هذا السياج؟! قالوا له إن الأمر معقد أكثر مما تظن، فقال "سأكسر هذا السلك!!"

 

هل كان من باب الصدفة أن صور استشهاده أظهرت لنا بكل وضوح ساعة يده التي يحرص على ارتدائها دائماً مراعياً الوقت، جاهداً لاستغلاله في أفضل صورة، حتى وهو محاصر في غزة، تحت الأرض وفوق الأرض، وحتى وهو يخوض معركته الأخيرة!

وهل كان من باب المصادفة، أنه في اشتباكه الأخير مع العدو، "كسر السلك" وربطه على ذراعه اليمنى التي أصيبت إصابة خطيرة حتى يوقف النزيف، كي تترسّخ صورته في اذهان أجيال كاملة، بأنه من "كسر السلك" في مواجهة الصهاينة مرتين، مرّة حين حطّم السياج وكسر صورة "الجيش الذي لا يُهزم"، ومرّة حين حاصره جنود العدو المدججين بالسلاح، فلم يفقد رباطة جأشه، واستطاع رغم كل الجراح التي أثخنت في جسده، من أن يحاول ترميم ذراعه ووقف نزيفها، حتى لا يفارق الحياة، قبل ان يرمي بآخر ما في جعبته!

 

لا أعتقد أنها من باب المصادفة، فرسولنا الكريم قال من عاش على شيء مات عليه، وهذه النهاية بهذه التفاصيل، وكل هذه الرمزيات في المشهد، لم تكن عفويّة بالمرة، بل هي نتيجة عقيدة ومنهج عاش عليهما حياته كلها، واستشهد في سبيلهما.

 

هناك صورة شهيرة جدا للسنوار وهو يتحدّى الاحتلال جالساً على أريكة ممزقة على أنقاض منزله الذي دمّر من القصف الإسرائيلي، مبتسماً، ولسان حاله يقول هنا باقون ما دام الزعتر والزيتون!.

وفي لحظاته الأخيرة، لجأ السنوار إلى منزل آيل للسقوط، يلتصق الغبار فيه بأنفاس الهواء، كانت يده اليمنى معطّلة عن الحركة، مربوطة بسلك كي لا تسقط، بكل معنى الكلمة، وقدمه اليسرى مصابة إصابة شديدة، تمنعه من الوقوف، فكان أن توجه إلى أريكةٍ ممزقة أكل عليها الدهر  وشرب، فجلس عليها، متحدياً جنود الاحتلال مرة أخرى، متسلّحاً بحُطامٍ من أثاثٍ مكسور، ألقاه على مسيّرة إسرائيلية أرسلها جنود جبناء، لم تمدّهم ترسانتهم بالثقة اللازمة لاقتحام المبنى بأنفسهم!

كانت رسالة السنوار الأخيرة لنا جميعاً: قاوم ولو بعصا، قاوم ولو بحجر، بكلمة إن لم يكن برصاصة!

 

في بداية حياتي الوظيفيّة اشتركت في دورة متقدمة لتعلّم المحادثة باللغة الإنجليزية، في المعهد الثقافي الأمريكي في عمّان، وقد طُلب منا في إحدى النشاطات أن نكتب مقالاً عن أحد الأفلام الأجنبية التي أثارت اهتمامنا وأن نقرأه أمام الطلاب الآخرين.

قررت ان أكتب عن فيلم "القلب الشجاع" للمخرج والممثل ميل جيبسون، وقد كان رائجاً في ذلك الوقت، وبعد أن بدأت في الكتابة تساءلت لماذا لا أكتب عن فيلم يخص قضايانا العربية، ثم خطرت لي فكرة أن أكتب عن فيلم "عمر المختار"، وبالفعل كتبت عن ذلك الفيلم وعن الصراع العربي مع الاستعمار الغربي في المنطقة، وأنهيت كلمتي بالجملة التالية، (سوف تأتي أجيال من بعدي تقاتلكم، أما أنا فإن عمري سيكون أطول من عمر سجّاني).

هذه الجملة بالتحديد قفزت إلى ذهني وأنا أتابع الأخبار وأتفحّص الصور التي انتشرت مثل النار في الهشيم بعد إعلان استشهاد السنوار.

 

لقد خاض السنوار معركته الأخيرة فألقى ما في جعبته من ذخيرة وأطلق رصاصته الأخيرة، وجلس على الكنب لأنه صاحب البيت متحدياً سجّانه، وقاتِلَهُ، ثم تسلّح بما أمكن له ان يلتقط من الأرض، ورمى عدوّه به، لم يستسلم بعد أن تعطّلت ذراعه وقدمه، حتى بعد ان أدرك أنه ملاقٍ حتفه لا محالة، لم يُهادن ولم يُفاوض ولم يستسلم!

من أجل هذا كلّه، سيعيش السنوار في ذاكرة ومخيّلة الفلسطينيين والعرب والشرفاء في هذا العالم، وسيعيش في كتب التاريخ إلى الأبد، أما سجّانيه وقاتليه، فلن يأتِ على ذكرهم إلا النزر القليل!

 

لقد بكيتك يا أبا إبراهيم، نعم بكيتك، وأنا لا اذكر أني قد بكيت على موت شخصية عامة من قبل!

بكيتك لأني شعرت بالانكسار، لم أكن أتمنى أن أكتب كلماتي هذه في رثائك بل كنت امنّي النفس أن أكتبها احتفالاً بالنصر ، أي نصر، حتى ولو كان ناقصاّ أو مرحليّاً، أما الشهادة فهي تنفع صاحبها، ماذا نفعل نحن من بعدك، وقد كانت شهادتك شهادةً علينا!

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

19-10-2024

لماذا أسقطتَ البٌندقية!

 



 

 

(جئتكم يا سيادة الرئيس وبندقيّة الثّائر في يدي، وفي يدي الأخرى غصن الزّيتون، فلا تُسقطوا الغصن الأخضر من يدي). كانت هذه، خاتمة كلمة الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، وما لا يعرفه الكثيرون أن كاتب هذه الكلمة هو الشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش.

 

كتب محمود درويش، في ذات الخطاب (إن الجانب الذى يقف فيه حامل السلاح هو الذى يميز بين الثائر والإرهابى، فمن يقف فى جانب قضية عادلة، ومن يقاتل من أجل حرية وطنه واستقلاله ضد الغزو والاحتلال والاستعمار، لا يمكن أن تنطبق عليه بأى شكل من الأشكال صفة إرهابى).

 

ساعد هذا الخطاب التاريخي في تكريس صورة "أبو عمار القائد"، رغم محدودية ثقافته، وعدم إتقانه للّغة العربية وضعف لغته الانجليزية، وضبابية تاريخه النضالي، فكان أن ازداد نفوذه داخل الفصائل الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، وأصبح الزعيم الأوحد، الذي يمسك بزمام السلطة، والخزينة، والاعلام، والسياسة الداخلية والخارجية، وقد استغل كل تلك السلطات، لخدمة مشروع "تحصيل ما يمكن تحصيله"، مقابل التنازل عن ثوابت الميثاق الفلسطيني، وعلى رأس تلك التنازلات، التنازل عن حق العودة، والقدس، الاعتراف بدولة الاحتلال، ونبذ المقاومة الشرعية، والتخلّي عن سيادة الدولة (لا حدود ولا مطار ولا ميناء ولا جيش)، بل والتخابر لمصلحة جيش الاحتلال!

 

لقد طالب عرفات المجتمع الدولي ألاّ يُسقط غصن الزيتون من يده، ولكنه قام طوعاً بإلقاء بندقيته وتحويل القضية الفلسطينية من مشروعٍ للتحرير، إلى مشروعٍ للسلطة والزعامة، مما دعا كاتب تلك الكلمات نفسه "محمود درويش" إلى أن يُعبّر عن أساه الداخلي، في قصيدته الشهيرة (لماذا تركتَ الحصانَ وحيداً!).

 

في عام 1988 تم اغتيال أبو جهاد خليل الوزير ، المسؤؤول الأول عن قيادة الانتفاضة الشعبية الأولى التي انطلقت قبل ذلك بعام، وفي شهر يناير 1991، تم اغتيال أبو إياد صلاح خلف، صاحب العبارة الشهيرة "أخشى ما أخشاه أن تصبح الخيانة وجهة نظر!"، وفي  خريف ذلك العام، توجهت منظمة التحرير تحت قيادة أبو عمار وشريكه أبو مازن -الذي خطى  على خطاه بعد ذلك-، إلى مؤتمر مدريد للسلام، الذي اعترفت فيه منظمة التحرير باسرائيل، بعد أن أصبحت الظروف الموضوعية مواتية لاعلان الثورة على النضال المُسلّح، وتصفية مشروع الثورة الفلسطينية!

 

هذا التسلسل الزمني لا يحدث سوى في أفلام هوليوود أو بوليوود!

 

تصفية الزعماء الرافضين لفكر الاستسلام والقبول بالشروط االأمريكية الاسرائيلية، كان يجري بوتيرة متصاعدة منذ نشوء دولة الاحتلال، وحده أبو عمار وخليفته أبو مازن، بقيا سالمين إلى حين تحقيق حلمهما وحلم اسرائيل، كان حلمهما كرسي السلطة ولقب رئيس دولة، و كان حلم اسرائيل أكبر من ذلك بكثير، وقف العمليات العسكرية، والتخلّص من الضغوطات الدولية بإعطاء الفلسطينيين دولة على الورق، يكون ولاؤها وتبعيتها لدولة الاحتلال، نَمِرٌ على ورق!

 

خشية أبو إياد من أن تتحوّل الخيانة إلى وجهة نظر، تحقّقت بصورةٍ أبشعَ من ذلك بكثير، حين أصبحت الخيانة "رؤية وطنية" بينما الثورة "إضرارٌ بالمصالح الوطنيّة!".

تناقض آخر لا نراه سوى في الأفلام، بين حركة ثورية اتخذت من الكفاح المسلح ميثاقاً لها، ثم تحوّلت قيادتها "الأوليغارشيا الحاكمة" إلى مجلس بلدي، يخدمُ غاصبيه!

 

محمود عباس كان أول من اخترق الصف الفلسطيني بإجراء لقاءات – تحوّلت فيما بعد إلى مفاوضات – مع قوى اسرائيلية في سبعينيات القرن الماضي، بحجة الانفتاح على اليساريين المؤمنين بحقوق الفلسطينيين، وشجّعه على ذلك أبو عمار نفسه.

وقد ساهمت هذه اللقاءات في تبلور الأفكار حول إتفاق يرضي الطرفين، تم تتويجه باتفاقية أوسلو سيئة الذكر، التي هندسها أبو مازن وأشرف على الفريق المُفاوض فيها. تلا ذلك ما يُعرف بتفاهم عبّاس – بيلين 1995، الذي يُعدّ الحروف الأولى لصفقة القرن التي يجري الحديث عنها مؤخراً.

 

في سلسة وثائقية عن اتفاقية أوسلو، قال أحد المسؤولين الفلسطينيين، أنه في بداية الثمانينات حين كانت منظمة التحرير تسيطر عسكرياً على جنوب لبنان، احتاجت القوات النرويجية العاملة ضمن قوات حفظ السلام، إلى ضمان أمن جنودها، وضمان العبور الآمن من مناطق نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية، وقد وافق أبو عمار على إعطائهم الأمان، ولكنه اشترط شرطاً غريباً، لم يدرك كنهه أحدٌ في ذلك الوقت، قال لمسؤول الخارجية النرويجي، ستأتي لحظة تاريخية لتسوية القضية الفلسطينية على طاولة المفاوضات مع الاسرائيليين، حين تحين تلك اللحظة، أريدكم أن ترعوا هذه المفاوضات وتساعدونا على إتمامها.

 

بعد نحو خمسة عشر عاماً، وقّعت منظمة التحرير على اتفاقية السلام برعاية النرويج.

 

هذا دليلٌ على رؤية القائد أبو عمار  التاريخية لحل القضية الفلسطينية عن طريق التفاوض – التنازل، وهو ما حقّقه على أرض الواقع، دون مرجعية شرعية من الشعب الفلسطيني، ودون تصويت أو انتخابات أو أي صفة شرعية، سوى شرعية "القائد الرمز!"

 

يقول إبراهام لينكولن يمكنك أن تخدع بعض الناس لبعض الوقت، ولكن لا يمكنك ان تخدع كل الناس طوال الوقت!

لقد استطاعت هذه الزمرة الحاكمة من ترسيخ مكانتهما وزعامتها على خارطة كبار الشخصيات وأصحاب النفوذ، عن طريق استغلال نُبل ونزاهة القضية الفلسطينية، وقد تمكنوا من الوصول إلى مفاصل الحكم، واستغلال الثروات والثورات، على حساب المناضلين والفدائيين الشرفاء من شعبنا، الذين بذلوا أرواحهم خدمة للقضية الأسمى في العالم المعاصر، قضية فلسطين، على مدار عقود من الزمان.

 

ولكني كلي إيمان بأن التاريخ سيضع هؤلاء في مكانهم المناسب، وأن هذا الشعب الواعي قادرٌ على إدراك أن الخطوة الأولى نحو التحرير، هي التحرّر من تقديس الرموز ، وإعادة فهم التاريخ، كي نتمكن من صنع المستقبل!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

13-9-2024