في أغنية الموسيقار فريد الاطرش الخالدة "لحن الخلود" التي كتب كلماتها الشاعر مأمون الشناوي يقول في إحدى مقاطعها (الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام). لعل سامع هذه الكلمات في البداية يشعر بأنها تأتي من عالم رومانسي لا يمت لعالمنا الواقعي بصلة، خصوصاً في هذه الأيام التي بتنا نعيش فيها في عالم السرعة وعالم الطلبات السريعة والوجبات السريعة والمشاعر الآنية الجاهزه تحت الطلب، والتي لا تُسمن ولا تغني من جوع؛ نحن يا سادة بتنا نعيش في عالمٍ خالٍ من الدسم، ليس ذاك الدسم الذي يزيد من وزننا، وإنما ذلك الدسم الذي يجعل لحياتنا معنىً وطعماً.
نعم لقد باتت حياتنا خفيفة الدسم، باتت مشاعرنا مُجمدة مُفرزة لا يوجد فيها عمق ولا دفء، هي مجرد لحظات هاربة نعيش فيها في زمان عابر، كلنا عابرون، كلنا نسابق الزمن، لا أثر للحياة فينا ولا أثر فينا للحياة!
الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام، وما الحب إن لم يكن فيه تضحية من أجل الآخر، تضحية دون انتظار مقابل، أن تقدم كل ما لديك للآخر دون نية انتظار الرد.
في حياتنا أشخاص لا يقبلون القسمة، ولا الاعتبارات ولا المنطق، هم أشخاص فوق كل ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال منطقة الأمور واخضاع تلك العلاقات للمعادلات الحسابية (1 + 1 = 2) بل واحد زائد واحد يساوي الحياة كلها!
إذا أحببنا علينا أن نحب دون حدود، أن نقبل الآخر ونقبل صورتنا لدى الآخر، بجمالها، واكتمالها، بالاضافات التي يضيفها الآخر علينا. حين نحب الآخر نحب أنفسنا فيه، نحن نحب صورتنا التي نراها مع الآخر، لأن صورتنا بذاتها ناقصة مهما بلغت من الكمال.
نسأل أنفسنا دائماً لماذا نحب؟ ولماذا نحب هذا ونقبله دون سؤال ودون منطق؟ عندما نحب بحق نرى امتدادنا في الآخر، نرى مشروعاً لحياة مستقبلية أجمل وأبهى، مع الآخر نرى امتداداً لأحلامنا وتوقعاتنا ورؤيتنا للحياة، مع شريك نحبه ونرتبط به دون ان نحاول ان نجيب عن لماذا، بل نحاول دوماً الإجابة عن كيف، كيف نستمر؟ وما المطلوب منا كي ننجح في الحياة معاً.
نحب أطفالنا لأننا نرى فيهم صورة أخرى عنا، امتداداً لنا ولكن بشخوص مختلفة، أو جزءاً من شخصيتنا انبثقت منا واتخذت سبيلها في الحياة بأفكار مختلفة ووسائل لم تكن متاحة لنا وخيارات لم نضعها في الحسبان، يختلفون عنا ويتخذون قراراتهم بعيداً عنا وعن خلفياتنا الثقافية والحضارية والمعرفية، هم يشقون طريقهم مستفيدين من كل ذلك ومزودين بتشجيعنا وحماسنا لهم، لكي ينجحوا في الطريق الذي اختاروه، وحين نحبهم، نحبهم لذواتهم، نحبهم بخياراتهم، نحبهم بصفاتهم التي قد تُرضينا أو لا تُرضينا، قد نختلف وقد نسدي لهم النصح ولكننا أبداً لن نسأل أنفسنا عن حُبّنا لهم، لأن الاجابة محسومة، ومعروفة سلفاً، نحن نحبهم حتى لو اختلفنا معهم.
وهنا يمكننا القول بأن الحب دون انتظار المقابل، أو دون انتظار الشكر والعرفان هو أجمل معاني الغرام!
نريد لهم النجاح دوماً، نريد لهم الازدهار بالطريقة التي يرغبونها، بالطريقة التي يفضلونها، وبذلك نحن نحبهم، ليس من أجل الاستحواذ عليهم وعلى أحلامهم وعلى أفكارهم، بل نحبهم من أجل استقلاليتهم في ذواتهم.
وحين نتواصل مع المحيطين بنا ونعمل دوماً على اسداء النصح لهم ومشاركتهم من واقع خبرتنا في الحياة ونحاول ارشادهم ومساعدتهم في تخطي العقوبات والنجاح في معاركهم الخاصة لا ننتظر منهم رداً للجميل ولا نضع في الحسبان الربح والخسارة، بل ان الجزاء الذي ننتظره هو اختبارنا للنجاحات التي سيحققونها والازدهار الذي سيعيشونه والحياة الأفضل التي ساعدنا ولو بنزرٍ يسير لتحقيقها، ذلك هو الجزاء الذي ننتظره لا أكثر ولا أقل.
نحن نحب الآخر فينا، ونحب أنفسنا في الآخرين نحب أن نرى أثرنا في الحياة، ونحب أن نتأثر بالآخر، تلك هي المعادلة نجاحنا ليس نجاحاً فردياً، بل نجاحنا مع الآخرين، نجاحنا من خلال الآخرين، نجاحنا من خلال النموذج الذي نقدمه في الحياة من خلال علاقاتنا، ومن خلال تربيتنا لأبنائنا بأن يكونوا الصورة الأفضل منا، ومن خلال ما نقدمه للآخر، ذلك هو النجاح الحقيقي، لم يكن يوماً نجاحاً فردياً ولم يكن الحب كذلك علاقةً فرديةً.
الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام؛ العطاء دون مقابل، الإيثار والتضحية من أجل الآخرين هو أسمى معاني الإنسانية.
قد أكون متشائما إذا ما قلت إن قلةً قليلةً منّا اليوم، تُدرك ذلك، وتطبقه في حياتها، ولكني متفائل بأن فطرتنا الإنسانية دائماً ما تدعونا وتلح علينا للعطاء دون مقابل، وأن كل الصور السلبية التي نراها من انتهازية واستغلال للعواطف وتسلّق على أكتاف الآخرين، هي أشياء عابرة لا تمثل إنسانيتنا، وأن ما يبقى هو الأصل لا الصورة.
في كل تجربة مع الآخرين، نتعرض لامتحانات واختبارات قاسية تعيد علينا دوماً تلك الأسئلة الجوهرية، لماذا؟ وماذا بعد؟ وكيف؟ ندرك حينها أن ليس بمقدورنا دوماً الإجابة عن كل تلك الأسئلة بإجابات شافية أو منطقية، ولكننا سرعان ما نكتشف أننا لربما لم نكن مختلفين إلى تلك الدرجة، وأن كل واحد فينا، يحمل بداخله انكساراته وخيباته، ومخاوفه الخاصة، وأن علينا البدء من جديد، والعطاء من دون مقابل، بالحب، ولو من غير أمل!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
20-6-2022