لماذا في كانون؟!
أفاق آدم صباح يوم من أيام كانون، ومخيّلته عبقة برائحة الشتاء وأطياف الأحباب وذكريات اللقاءات الجميلة والمشي تحت المطر وأنغام موسيقى "زيديني عشقاً".
صنع فنجان قهوة صباحيةٍ وارتشفها على بطىء، كان يحتضن كوب القهوة، وأنفاسهُ تستنشق عبير الكافيين المتصاعد من الكوب.
يتساءل آدمُ، لماذا يرتبط كانون وموسم الشتاء بتلك الذكريات الحميمية؟ لماذا مع نهاية كل عام تتقافز إلى ذهنه كل تلك الذكريات والمواقف، ويسترجع ذكرى أصدقاء ورفقاء درب قدامى، منهم من فارق الحياه ومنهم من تقاطعت مساراتهم وتباعدت أسفارهم في الحياة، ومنهم من هو باقٍ ولكنه يفتقد لشيءٍ ما، شيٌ ما لم يعد كما كان.
وفي لحظات التساؤل تلك، تقتحم مخيّلته أطياف من الذكريات، ويُعرض أمام ناظريه ألبومُ صورٍ كأنه فيلم ارشيفي لحقبة زمنية ماضية.
لماذا في كانون؟ هل هي غريزة إنسانية في إجراء جرد حساب سنوي، أم محاولةً لتجديد الديكور الداخلي وإعادة ترتيب صفوف مكتبة الذاكرة من جديد، والتخلص من الأعباء الزائدة؟ أم هي حنين نوستاليجي بحت، مرتبط بالطبيعة وبدورات السبات الشتوي؟
في هذا اليوم بالذات كانت مخيلته تسترجع من الذاكرة صور والدته الراحلة وما جمعهما من ذكريات. كان هناك نسيج غير متجانس من الصور يجمع بين طفولته وبين شيخوخة أمه، كانت الصور تنهالُ والذكريات تنساب ولكن الفرق بين الصورتين عظيم!
في الصورة الأولى، كان يرى نفسه وهو طفل صغير في كنف أمه. كانت أمّه تلك الأم القوية الصابرة التي لا يصدر عنها شكوى ولا لوم، شحيحة حتى في العتاب، وكان هو، ذلك الطفل الشقي العنيد.
الصور الأخرى كانت تأتيه من اللحظات الأخيرة التي جمعتهما، في المراحل الأخيرة من مرضها وتعبها وهزالة جسدها.
إلا أن الشيء المشترك بين الصورتين كان شخصية الأم، تلك الأم الحنون المحبة، القوية رغم ضعفها، تلك التي لم تشتكِ يوما حتى وهي في أمس الحاجه للشكوى!
تذكّر آدم كيف كان يمسك يدها ويمسّدها، يحتضن كفّها بين يديه كما يحتضن فنجان القهوه هذا الصباح وكأنه يتلمّس الدفء فيهما. كان يجلس على جانب السرير ويتمتم بأدعية الشفاء وهي تسرق النظر اليه بصمت مشفقة على حاله، أو ربما على حالها!.
أفاقت ذات مساء من قيلولة مرضيّة، نظرت اليه وأشارت بيدها، تساءل عن مبتغاها، أشار لها بالماء، بغطاء السرير، كانت تنفي، تنفي، وترسل يدها نحوه باسترخاء، أمسك بيدها، احتضنها، قبّلها، ومرّرها على خدّه وجبينه ورأسه، أومأت برأسها ثم عادت تسترسل في قيلولتها.
عندما حان موعد سفره الاضطراري، استأذن في تلك الليلة من الكادر الطبي أن يقضي أطول وقت ممكن معها، سمحوا له بالبقاء في العناية المركزة خارج الأوقات المحدّدة، جلس بقربها وبصوت خافت ممتقع بالحزن قال أنا مضطر للرحيل صباح الغد، يجب ان أعود الى العمل، كانت تبتسم وتومىء برأسها، محاولة التخفيف عن حمله التي تعلم كم هو ثقيل عليه، أن يغادرها في هذه الحالة، كانت تحاول أن تشدّ من أزره على عكس واقع الحال!
قال لها مُودّعاً أريدك أن تعلمي بأني أحبك كثيراً، نحن جميعاً نحبك كثيراً، قبّل يدها ورأسها وحبس ما استطاع حبسه من الدموع وغادر.
هذه الصور كانت تتزاحم في ذهن آدم في ومضات خاطفة، دون سابق إنذار، وكان هذا يدفعه للتساؤل، لماذا يشعر في كانونَ من كل عام بأن الزمن قد تسمّر، وأن عقارب الساعة تتباطىء وكأنها دخلت في حقل مغناطيسي، لماذا يراوده شعورٌ بأنه أصبح خارج هذا الزمن، يستعرض أحداث الماضي وذكرياته وكأنه في بعدٍ زمنيٍ آخر، تتراءى أمامه كل الأحداث، كل الصور وكأنها تحدث الآن، تحدث في هذه اللحظات، تحدث أمامه، ولكنه هو، هو خارج هذا الزمن!
كانت تلك الصور وغيرها من الذكريات تتعربش على جدران الذاكرة، تطلّ برأسها، تحدّق في عيني آدم بصمت، كان يتساءل مع نفسه، هل جاءت هذه الصور لتوجه له اللوم والعتاب، أم لتعويضه عن وجع الحاضر!
ولكنه في قرارة نفسه، كان هو من يوجه اللوم والعتاب، لعدم اكتمال الصور تارةً، ولتلك اللحظات الناقصة تارةً أخرى. لحوار ناقصٍ، سقط مع فوضى الحياة، أو لنص مفقود كان يُمنّي النفس أن يُضاف إلى نصوص الحياة. كان كثيراً ما يسرح في مخيلته محاولاً إعاده ترتيب هذه الصور، كانت مخيّلته تتفتق عن لحظات إبداع، تدعو لتغيير الحبكة الدرامية نفسها.
من أجل كل ذلك، كان آدمُ يوجه اللوم والعتاب ولكنه لا يعلم لمن!
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-12-2021