الخميس، 29 أكتوبر 2020

ماكرون وتهافت الثورة الفرنسية

لا بد للمرء فينا العودة إلى التاريخ لفكّ طلاسم التصادم الفكري الحاصل حالياً، وفك الاشتباك فيما يدّعي البعض أنه التزام بقيم حرية الفكر والمعتقد، وبين قيم التعايش الحقيقية وتقبّل الآخر.

بعدما نجحت الثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها السياسية وقلب نظام الحكم الملكي في البلاد، بدأت موجةٌ من الفوضى والعنف الخارج عن السيطرةـ والتي أحالت البلاد إلى آتون حرب أهلية طرفها الأول "الثوّار"، فيما لا تحد طرفه الآخر حدود مفهومة او واضحة، فمداها مفتوح حتى انه شمل بعض اعضاء الثورة نفسها، فاقتتلوا فيما بينهم ونُفّذ حكم الاعدام في بعض قادتهم!

هذه الحالة الفوضوية يمكن وصفها بإيجاز بأنها خروج عن مسار الثورة، وانحراف عن مبادئها، ولكن استمرار الثورة الفرنسية على هذا الحال الفوضوي الممزوج بين شعارات الحرية والقضاء على الآخر في آن واحد، أورث للعالم جيلاً لا يكاد يفرّق بين هذا أو ذاك، بل إنه يؤمن ولو بشكل غير واع، أن تحقيق أهداف الثورة السامية -أي ثورة- لا بد وأن يكون على رقاب الآخرين، والآخر هنا قابل لإعادة التعريف والقولبة حسب واقع الحال. ويمكن قياس ذلك على الحروب الخارجية التي خاضها الجيش الفرنسي، كما يمكن قياسها أيضاً على الحضارة الأمريكية، التي انبثقت بشكل غير مباشر من مهد الحضارة الفرنسية. (إعلان حقوق الانسان للثورة الفرنسية تم إعلانه في عام 1789 فيما تم اعلان وثيقة الحقوق الأمريكية بعده بعامين).

من جهة أخرى كان من الملاحظ أن الثورة الفرنسية قد اكتسبت رمزية أخرى لا تقل أهمية عن حقوق الانسان وتتمثل في ثورتها على الكنيسة، وعلى المفاهيم التقليدية التي تتعارض مع العقل والعلم، وهذا بدوره تحوّل إلى ما يشبه "العقيدة اللادينية" أو ما أطلق عليه فصل الكنيسة عن الدولة.
ولعل أول نتائج الثورة كانت القضاء على حكم الكنيسة وجعلها خاضعة للدولة المدنية، حيث أصبحت الدولة مسؤولة عن تعيين الرهبان ورعاية شؤون الكنيسة، بعدما كانت الكنيسة هي راعية الدولة وهي التي تنصّب الحُكّام باسم الله! بل إن الدولة الفرنسية الجديدة أخضعت الرهبان لقسمٍ جديد يلتزمون فيه بالولاء للدولة وهو ما أدى إلى تقسيم الكنيسة الى حزبين، حزبٌ موالٍ للدولة الجديدة وحزب اختار الابقاء على ولائه للكنيسة، والنتيجة الحتمية كانت القضاء على كل من لا يجهر بالولاء للدولة!

هذه الوقائع التاريخية، والنتائج التي آلت لها الثورة، الايجابية منها والسلبية ترسّخت في أذهان الكثيرين، على أنها حزمة إصلاحيّة واحدة يجب القبول بها بل وتقديسها، بدلاً من مراجعتها أو اخضاعها للفكر النقدي، وهو ما أدى في النهاية إلى ترسيخ أفكار الثورة الفرنسية في أذهان الكثيرين بشكل مغاير لمبادىء الثورة الأساسية التي قامت عليها مبادىء حقوق الانسان في العالم أجمع، وكانت المظلة التي انبثقت منها كل الديمقراطيات في العالم الحديث.

في مقال سابق لي نشر في جريدة القدس العربي في يناير من عام 2015، كتبت عن حادثة شارلي ايبدو معلقاً (ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحفيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحُريّة على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي والعُهْر الحضاري، وكل من يدعم حُريّة التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه "مُتطرّف فكرياً".........هذا يعني أننا نعيش في عصر "الجهل المقدّس" بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مُضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان".

إن ما يتشدّق به الرئيس الفرنسي ماكرون اليوم، عن المحافظة على ميثاق حقوق الانسان والتعهّد بالحرية الفكرية، لهو مؤشر حقيقي على الأزمة الفكرية التي يعيشها الغرب وفرنسا بشكل خاص فيما يخص احترام الآخر واحترام الأديان وصون حق حرية العبادة للأفراد.

إن هذه القيم الانسانية (حرية العبادة واحترام الآخر والتعايش المدني) قد جاء بها الاسلام قبل اثني عشر قرناً من الثورة الفرنسية، وإن أي شذوذ أو طغيان في تطبيق هذه القيم والمبادىء وحرفها عن مسارها الصحيح، سيؤدي إلى تعصب ديني يميني يسحق فيه المتطرفون الدينيون الآخر، كل الآخر، أو يسحق فيه اللادينيون الآخر، كل الآخر، ولا يوجد بديل عن هذا سوى الوسطية والاعتدال والاحترام المتبادل.

ولعلّ من سخرية القدر أن يتغذّى كل معسكر على الآخر، وألاّ يشعر بأهميته سوى بوجود الآخر، فمن على شاكلة ماكرون (المتهافت على أنقاض مبادئ الثورة الفرنسية) يروق له أن يدّعي أنه منارة الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الانسان ويشدّد على الاختلاف مع المتعصبين الدينيين، وفي ذات الوقت تزداد مساحة التعبير عن التعصّب الديني والتقوقع خلف شعارات العنف المضاد، كلما قوي المعسكر النقيض، وهكذا دواليك!
فمتى يستطيع البشر إدراك أنهم لن يشعروا بالأمان إلا إذا اقتربوا من المنطقة المعتدلة، وأنهم لن يشعروا بأهميتهم إلا من خلال احترام الآخر والتعايش معه.

ولعل هذا يقودنا إلى القول إن ردة فعلنا كمسلمين وحقوقيين ونشطاء ودعاة تحضّر يجب أن تلتزم باتباع القيم الانسانية التي جاء بها الاسلام ودعى لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما التعصّب والرد بالمثل أو استخدام العنف، فلن يؤدي سوى إلى إثبات وجهة نظرهم!

إن المقاطعة الاقتصادية، والثقافية، والرد بالحوار الفكري، ونشر تعاليم الاسلام الحقيقية والتعريف بها، والتحدث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بجوانبها الانسانية، وتطوير الخطاب الديني والاستمرار في نهج الإصلاح، هي خطوات لا تراجع عتها ولا بديل عنها سوى الصدام الحضاري أو ربما الانفجار العقائدي!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
28-10-2020