السبت، 22 يوليو 2023

الحنينُ إلى الذات

 



 

‏من منّا لم يمر بمرحلة البحث عن الذات، أو محاولة الاجابة عن الأسئلة الوجودية عن ذاته، لوجوده كإنسان، عن غاياته العظمى في هذه الحياة؟

أكاد أقول أن جُلُّنا قد مرّ بهذه المرحلة من الوعي الذاتي، أو القفزة التنويرية، التي نقلته إلى مرحلة فكرية واعية متقدمة عن سابقتها، ربما بسبب حالة من التجلّي الفكري، أو البحث والتأمل، أو بسبب تجربة صعبة وصادمة مثل الحرب والمرض أو فقد عزيز، أو لقاءٍ مع أحد الأشخاص الذين كان يخبأهم القدر لنا، لإحداث تغيير جذري في حيواتنا، أو لسبب آخر خطر على بال القارىء وهو يقرأ هذه السطور، وغاب عن ذهن الكاتب!

 

لقد تناول الفيلسوف ورائد التحليل النفسي الشهير كارل يونج فكرة "الصحوة الروحيّة Spiritual Awakening" وقال عنها بأنها الجزء الجوهري لوجودنا الإنساني، إذ بدون هذه القفزة الروحية، والارتقاء الفكري، وما يتبعهما من تغيرات في أسلوبنا الحياتي ومراجعةٍ لقيمنا العليا، فإن حياتنا الانسانية ستبقى تراوح مكانها، وستكرر البشرية نفسها من جديد، بلا تحديث أو إضافة حضارية.

 

مفهوم الصحوة الروحية ورد في الثقافات القديمة كذلك بل وحتى في الأديان حول العالم، بصورة أو بأخرى، ويتلخص هذا المفهوم في تغير نظرة الفرد إلى ذاته وعلاقته بالعالم والكون المحيط به، وكأنه يعيد النظر في هذا الوجود من جديد، وفي دوره فيه.

 

وتترافق هذه الرحلة الفكرية، بشعور الفرد بالرغبة في العزلة، والتأمل الفردي بعيداً عن الدوائر المحيطة به، حيث يبدأ بمراجعة كل مسلّماته في الحياة، والتشكيك في كل الثوابت وبدء مرحلة "البحث عن الحقيقة"، ورحلة البحث هذه لن تبدأ سوى بالبحث عن حقيقة ذاته أولاً!

 

ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية سيبدأ هذا الفرد بالابتعاد "ولو معنوياً" عن الأشياء والأشخاص الذين اعتاد الاستماع لهم والاستمتاع برفقتهم، لرغبته الشديدة في تكوين مفاهيم جديدة تمس كينونته، وتنبت من أصوله هو.

 

ومن شأن هذا أن يؤثر على الأشخاص المحيطين به، الذين قد لا يكترثون للأمر، أو لربما يزعجهم هذا التغيير والتحوّل إذا صح التعبير، وهنا تبدأ مرحلة جديدة تتمثّل في إعادة ترتيب علاقاته وإعادة النظر فيها من جديد، وقد يضطر إلى اتخاذ قرارات مفصلية في التخلي عن البعض، وإقحام البعض الآخر، وهذه قصة أخرى، يطول الحديث عنها، ولعل مكانها في مقال آخر!

 

ثم يشرع بمراجعة معتقداته وقيمه الروحية ومناقشتها، والبناء عليها، أو تبني معتقدات جديدة، سواء تجلّى هذا الأمر بالارتباط بشكل عميق بالدين أو بالارتباط بمعتقد جديد، أو تغيير مجاله المهني والوظيفي، أو السعي وراء موهبة كامنة، بحثاً عن ذاته أو كما يتم ترديده كثيراً هذه الأيام بحثاُ عن "شغفه الحقيقي".

 

ومع استمرار هذه الحالة النقدية، والمراجعة المستمرة، يبدأ الشخص بإعادة ترتيب أولوياته في الحياة، وتحديد أهدافه بشكل أوضح وأكثر تحديداً، رغم أنه في البداية سيشعر بأنه تائه وسط طود عظيم من الأفكار، التي تعصر به وتقذف به يميناً وشمالاً، إلا أنه سيكتسب الثقة يوماً بعد يوم، وسيتمكن من فلترة تلك الأفكار، للوصول إلى أهدافه الحقيقية التي تتماشى مع طبيعته.

ولعل هذه هي أخطر مراحل الصحوة الروحيّة إذ أن غالبنا لا يتجاوزها بنجاح، بل يغرق في موج الأفكار هذه، ثم لا يلبث أن يجد نفسه تائهاً في الصحراء، دون مرشدٍ، أو نجمٍ يهتدي به، وسرعان ما يعود إلى وتيرة حياته السابقة، مُحملاً بخيبة الأمل!

 

ولكنه إذا ما عبر هذه المرحلة بنجاح، فإنه وبالتأكيد سيتمكن من الحصول على تلك الانفراجة في الرؤية، تلك الطاقة الروحية التي فتحت نافذتها لهذا الشخص ليبصر من جديد، وحينها لن يعود هو كما كان ذات يوم، كما أن العالم الذي عرفه لن يعود ذاته أبداً، وهنا بالذات سيكون قد تجاوز نقطة اللاعودة إلى الأبد!

 

إعادة إكتشاف الذات، تعني إعادة اكتشاف قدراتنا، وحدسنا، وشغفنا، وشخصيتنا، سنشعر بطاقتنا الروحية من جديد، وسنكتشف قدرات ومواهب جديدة كانت مدفونة تحت غلافنا الخارجي، ولربما طمسناها لنتماهى مع من حولنا، ومع هذه الاكتشافات والطاقات الجديدة المنبعثة فينا، سنشعر ولأول مرة ربما، أننا بتنا أكثر انسجاماً مع أنفسنا، على عكس ما كنا نظن في السابق!

ولعلّ أهم نتائج هذه الرحلة هي الوصول إلى التوافق الروحي؛ أن نصبح نسخة أفضل من أنفسنا، قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة التي كانت تؤرقنا، بل إننا نكون قد أسّسنا لعهد جديد، لقفزة فكرية وروحيّة ستفتح لنا آفاقاً جديدةً، وورؤية أكثر اتساعاً وجمالاً وحيويةً!

وهذا التوافق الروحي سينعكس علينا إيجاباً في الانصهار في المجتمع بشكل أفضل وأكثر سلاسة، فاليقظة الروحية لا تعني ممارسة حياة النسّاك، بل على العكس تماماً، فهي تزيد من وعينا المجتمعي وتعاطفنا مع القضايا العامة والانسانية.

 

وهي رحلة لا شك طويلة وشائكة، بل ومستمرة، ومن أجل الاستمرارية علينا أن نجد الأجوبة المناسبة، وملءَ الفراغات الروحية، وفي سبيل ذلك علينا أن نتخلى عن خداع الذات، فاليقظة الروحية تتطلب تنظيف الجسد أولاً والفكر ثانياً، من أجل بناء شخصيتنا من جديد، ومن ثم البدء بتغيير واقعنا، والعالم من حولنا، إن استطعنا، ولن نتمكن من هذا إلا إذا واجهنا أنفسنا بالحقيقة، وتخلّينا عن كل الأعذار والتسويفات، وعن كل القيود التي تحدّ تفكيرنا، وتشلّ حركتنا.

 

هي رحلة مستمرة، قد تستغرق عمراً طويلاً، يتخلّله صعودٌ وهبوط، ولكن بغض النظر عن مدى الصعوبات التي تواجهنا، والاخفاقات التي تحدث لنا في بعض الفترات، علينا دائماً النهوض والمحاولة من جديد، للوصول إلى الهدف، للوصول إلى ذواتنا، إلى أعماق أعماق ذواتنا، هي رحلة إلى الذات، يدفعنا لها، ذلك الحنين، الحنينُ إلى الذات!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

24-3-2023


رابط القدس العربي

في المساءِ

 



 

في المساءِ، أعشق الهدوء والجلوس وحيداً، أجلس ومن حولي كل شخوص النهار، أحاورهم ويحاورونني، بلطف وحيادية بعيداً عن شحناء النهار.

 

في الليلِ تهدأ النفوس، وتزدانُ بالحكمة وطول النظر فتتجاوز توافه الأمور، وتنظر إلى ما أبعد من ذلك.

 

في المساءِ تقترب السماء من الأرض، تُطلّ النجوم على البشر، تتجوّل الملائكة على الأرض، لتنثر الهدوء والسكينة.

 

حين تتجولُ في المساءِ، وتنظر إلى أعلى، تستطيعُ إن دقّقت النظر، وإذا حباك الله بكشفِ الغطاء، أن ترى عيوناً في السماء، تحرسك وتسهر على راحتك!

 

تستطيعُ إن ركّزت أكثر، أن ترى أرواحا في السماء، قد غادرت عالمنا منذ زمنٍ ليس بقليل، تتجوّل مُطمأنّة، تتسامر فيما بينها، وحين تلتقي عيناك بأعينهم، تشعر أنك أصبحت بينهم، أو أنهم أصبحوا قربك!

 

نعم، في المساء، يحدث كل هذا، لذا فأنا أعشق المساء، وأعشق الهدوء والسكينة، أعشق الجلوس وحيداً، أنا لا أحب الوحدة، ولكني أحب أن أكون قريبا، من أناس لا أراهم إلا في المساء.

 

أنا أحب ما أكونُ في المساءِ

 

أيمن يوسف أبولبن

ذات ليلة

الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

الطفلُ الذي بكى

 



يستذكر آدمُ ذكرياته الشائكة مع والده، وهو طفلٌ صغير، تلك الذكريات التي يغلبُ عليها الندرةُ، واختلاط المشاعر، والحيرة التي كانت تتلبسه، وما زالت تتلبسه كلما استرجع تلك الذكريات.

 عاش آدمُ طفولةً معقدةً بعض الشيء، انطباعه الأولي كان الغضب العارم على غياب والده المتكرر، والذي لم يكن يسمح ببناء علاقة تناغم وتواصل قوية ومستمرة بينهما، فقد كانت متقطعة ومتخبطة.

 والدهُ الذي اغترب لفترة طويلة، لم يكن متواجداً في أغلب الأوقات لمشاركة طفله لحظاته المميزة، ومناسباته الخاصة، عيد ميلاده، احتفالية انتهاء العام الدراسي، فوزه بميدالية بطولة الشطرنج، مشاركته في اللعب بالثلج، أو حتى اصطحابه إلى السينما في عطلة نهاية الأسبوع.

كانت هذه الفترة في حياة آدم، مخدوشةً دوماً، ومدعاةً للشعور بالنقص، نقص الأبوّة، ونقص العاطفة.

 ولكنها كانت فترة مُرضيةً من ناحية أخرى، فقد نال فيها آدمُ الكثير من الهدايا الثمينة، واستحوذ خلالها على العديد من الألعاب باهظة الثمن، وتمكّن من الانتساب إلى نادي الشطرنج للناشئين.

ومن هنا كان آدمُ حائراً في المفاضلة بين حميميّة المشاعر، وبين ما يمكن أن يجنيه من غيابها، وهي لا شك معادلةٌ صعبة!

 أما الفترة التي تلتها، فتلك التي لم تأتِ بمفيدٍ له، فقد عاد أبوه من الخليج إثر غزو الكويت بخفّي حنين، وعانى الأمرّين للحصول على وظيفة بعد الكساد الذي شهده السوق، وهو ما أدّى إلى انخفاضٍ ملحوظ في مستوى المعيشة للعائلة، نتج عنه تحويل آدم إلى مدرسة حكومية، وانفصاله عن ترف العيش الطفولي.

 لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح تواجد والده في المنزل نادراً جداً، حيث اضطر أن يعمل سائق "تاكسي" بعد الوظيفة الحكومية لسد احتياجات الأسرة، ما أدى إلى اختصار تواصل آدم مع والده إلى ساعات قليلة في الأسبوع، محصورة في يوم الجمعة.

 عاش آدمُ حالةً نفسيةً مزرية، ولكنه لم يصرّح لأحد، حتى لأمه، أقرب الناس إليه، وجسر المحبة بينه وبين أبيه، بل بينه وبين العالم.

هذا الكبْت الذي عاشه، أدى إلى حالة فريدة من احتباس الدموع؛ لم يكن آدمُ قادراً على البكاء، حتى لو تعرّض لأقسى عقاب من مُدرّسيه، أو تعنيفٍ من زملائه الذين يتنمرّون عليه كونه من أولاد الطبقة الارستقراطية وأهل الخليج. لم يكن قادراً على البكاء، حتى لو شعر بالرغبة في ذلك!

 استمرت هذه الحالة معه لسنوات، ولم يشعر بها سوى والدته، التي حاولت علاجه وعرضه على الأطباء، بل وعلى جارتها التي تعمل بالحُجُب، دون أي جدوى!

 وفي يوم من الأيام، قرّر آدمُ مواجهة واقعه، والتحدّث إلى والده، كان يريد أن يصرخ في وجهه، أن يتخلص من كل الأعباء الجاثمة على صدره ويلقي بها عليه، كان يريد أن يقول له بأنه تسبّب بتراجع مستواه الأكاديمي، وتحصيله العلمي، وأنه خسر أصدقاءه وزملاءه في المدرسة القديمة بسببه، وأنه حُرم من حلم العمر بأن يكون بطلاً دولياً في الشطرنج يوماً ما، بل إنه حُرم من طفولته ومن حقه في البكاء، إلخ القائمة الطويلة من العتاب واللوم!

كان والده، في هذه اللحظة يمثّل له كل المعوّقات التي تمنعه من النجاح، كان مُقصّرا في حقه، وفي حق والدته، وربما في حق نفسه، ولكن آدم لم يكن مُبالياً بذلك، ما يهمه هو حقه هو، فوالده ووالدته ناضجان يتحمّلان مسؤولية نفسيهما، أما هو فلا.

 وفي تلك الليلة، لم ينم آدمُ، اصطنع النعاس، واندس تحت الفراش في غرفته، أغلق عينيه وأبقى الباب مفتوحاً، مُرخياً السمع. مرّت الساعة تلو الساعة، حتى اقترب الليلُ من الانتصاف، وإذ بدقّات خفيفةً على باب الشقّة، تحركت والدته بخفّة إثرها لتشق الباب بهدوء وتعانق والده مرحّبةً به.

فتح آدم عينيه، وبقي متيقظاً، متحيّناً الفرصة للخروج.

سألته زوجته عن يومه، شرح لها معاناته دون أن تسقط الابتسامة عن وجهه، حدّثها عن بخل ذلك الزبون ثم ألقى النكات متندراً عليه. حدّثها عن العجوز المسنّة التي رفض أن يأخذ منها الأجرة، وشاركها الضحك على نصيبه الناقص في الدنيا!.

 وبينما كان يتناول طعام الغذاء -أو العشاء المتأخر- قال، جاءني أحد المُراجعين صباح اليوم، يبدو عليه انه أديبٌ أو صحفي، كان يريد استخراج شهادة وفاة لأبيه، وما أن تبادلت معه أطراف الحديث، حتى فتح لي قلبه، وقال بضع كلمات حفظتها أو لعلّي حفظت معناها، قال: عندما يموت أبوك تُدركُ أنه كان رجلاً عادياً لم يكن بإمكانه أن يفعل أكثر مما كان، تتصوره بطلاً وتتوقع منه المعجزات، ولكنه في النهاية مجرد إنسان قد هزمه الزمن. ثم تتمنى بعد أن تُدرك ذلك، لو أنك عقلتَ ذلك باكراً، وبادلته الحب بدل العتاب!

  ساد الصمت المكان، وحشرج صوته، بينما ابتلعت الصدمةُ لسان الأم وتجمّدت تعابيرها، شعرت أن الكلام هذا نابعٌ من قلبٍ مكلوم، وحزن مكتوم، أو لعلها أدركت في تلك اللحظة، أنها هي ذاتها لم تكن تتصور أن الزمن يُمكن أن يهزم هذا الشخص الذي أحبته وعاشت معه السراء والضراء، بل إنها لربما لم يخطر في بالها أن الموت نفسهُ قادرٌ على أن يهزمه!

 "آدمُ" قال، آدمُ كان أولَ من خطر على بالي تلك اللحظة، وظللت مشغولاً بالتفكير به طوال اليوم، هل هو نائم؟ لم تجب الزوجة؛ كانت غارقة في التفكير وتتمتم بكلمات غير مفهومة، مسك بيديها وهزّها، ما بكِ!

قالت ببطء وبصوت متهدّج: (إنني أختارُ الحياةَ، سأحيا لأن ثمّة أناساً قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقتٍ ممكن، ... لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى!) ثم أردفت، تذكّرت هذه الكلمات من رواية الطيب صالح، كنت أقرأها هذا الصباح!.

كان الكلام مؤثراً، ووصل إلى قلب والد آدم كما أرادت بالضبط. قال متلعثماً محاولاً تغيير الحديث، آدم، كنت أسألك عن آدم.

لا تزعجه، بالكاد نام، شعرتُ به وهو يقاوم النوم في فراشه.

 انسل الوالد بخفّة ودخل غرفة آدم، وقف قبالة السرير، كان آدمُ قد أغلق عينيه، ورسم على محيّاه ملامح الهدوء والسكينة، بعد ان ابتلع كل كلام العتاب ولم ينبس ببنت شفة. ابتسم والده، تفحّصه مليّاً كان قلبه يراوده أن يوقظه من نومه، كي يحتضنه، كي يشتم رائحته، ويقبّل جبينه، ولكنه لم يفعل، غادر الغرفة كما دخلها بخفّة وأغلق الباب وراءه بهدوء.

فتح آدم عينيه، وفي تلك اللحظة شعر بحاجةٍ ملحّةٍ للبكاء، حينها بكى، نعم بكى، بكى بشدّة واسترسلت الدموع، بل انهمرت كطوفان نوح.

 أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

27-11-2022


رابط القدس العربي

الاثنين، 20 يونيو 2022

الحب من غير أمل

في أغنية الموسيقار فريد الاطرش الخالدة "لحن الخلود" التي كتب كلماتها الشاعر مأمون الشناوي يقول في إحدى مقاطعها (الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام). لعل سامع هذه الكلمات في البداية يشعر بأنها تأتي من عالم رومانسي لا يمت لعالمنا الواقعي بصلة، خصوصاً في هذه الأيام التي بتنا نعيش فيها في عالم السرعة وعالم الطلبات السريعة والوجبات السريعة والمشاعر الآنية الجاهزه تحت الطلب، والتي لا تُسمن ولا تغني من جوع؛ نحن يا سادة بتنا نعيش في عالمٍ خالٍ من الدسم، ليس ذاك الدسم الذي يزيد من وزننا، وإنما ذلك الدسم الذي يجعل لحياتنا معنىً وطعماً.
نعم لقد باتت حياتنا خفيفة الدسم، باتت مشاعرنا مُجمدة مُفرزة لا يوجد فيها عمق ولا دفء، هي مجرد لحظات هاربة نعيش فيها في زمان عابر، كلنا عابرون، كلنا نسابق الزمن، لا أثر للحياة فينا ولا أثر فينا للحياة!

الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام، وما الحب إن لم يكن فيه تضحية من أجل الآخر، تضحية دون انتظار مقابل، أن تقدم كل ما لديك للآخر دون نية انتظار الرد.

في حياتنا أشخاص لا يقبلون القسمة، ولا الاعتبارات ولا المنطق، هم أشخاص فوق كل ذلك، لا يمكن بأي حال من الأحوال منطقة الأمور واخضاع تلك العلاقات للمعادلات الحسابية (1 + 1 = 2) بل واحد زائد واحد يساوي الحياة كلها!

إذا أحببنا علينا أن نحب دون حدود، أن نقبل الآخر ونقبل صورتنا لدى الآخر، بجمالها، واكتمالها، بالاضافات التي يضيفها الآخر علينا. حين نحب الآخر نحب أنفسنا فيه، نحن نحب صورتنا التي نراها مع الآخر، لأن صورتنا بذاتها ناقصة مهما بلغت من الكمال.

نسأل أنفسنا دائماً لماذا نحب؟ ولماذا نحب هذا ونقبله دون سؤال ودون منطق؟ عندما نحب بحق نرى امتدادنا في الآخر، نرى مشروعاً لحياة مستقبلية أجمل وأبهى، مع الآخر نرى امتداداً لأحلامنا وتوقعاتنا ورؤيتنا للحياة، مع شريك نحبه ونرتبط به دون ان نحاول ان نجيب عن لماذا، بل نحاول دوماً الإجابة عن كيف، كيف نستمر؟ وما المطلوب منا كي ننجح في الحياة معاً.

نحب أطفالنا لأننا نرى فيهم صورة أخرى عنا، امتداداً لنا ولكن بشخوص مختلفة، أو جزءاً من شخصيتنا انبثقت منا واتخذت سبيلها في الحياة بأفكار مختلفة ووسائل لم تكن متاحة لنا وخيارات لم نضعها في الحسبان، يختلفون عنا ويتخذون قراراتهم بعيداً عنا وعن خلفياتنا الثقافية والحضارية والمعرفية، هم يشقون طريقهم مستفيدين من كل ذلك ومزودين بتشجيعنا وحماسنا لهم، لكي ينجحوا في الطريق الذي اختاروه، وحين نحبهم، نحبهم لذواتهم، نحبهم بخياراتهم، نحبهم بصفاتهم التي قد تُرضينا أو لا تُرضينا، قد نختلف وقد نسدي لهم النصح ولكننا أبداً لن نسأل أنفسنا عن حُبّنا لهم، لأن الاجابة محسومة، ومعروفة سلفاً، نحن نحبهم حتى لو اختلفنا معهم.

وهنا يمكننا القول بأن الحب دون انتظار المقابل، أو دون انتظار الشكر والعرفان هو أجمل معاني الغرام!
نريد لهم النجاح دوماً، نريد لهم الازدهار بالطريقة التي يرغبونها، بالطريقة التي يفضلونها، وبذلك نحن نحبهم، ليس من أجل الاستحواذ عليهم وعلى أحلامهم وعلى أفكارهم، بل نحبهم من أجل استقلاليتهم في ذواتهم.

وحين نتواصل مع المحيطين بنا ونعمل دوماً على اسداء النصح لهم ومشاركتهم من واقع خبرتنا في الحياة ونحاول ارشادهم ومساعدتهم في تخطي العقوبات والنجاح في معاركهم الخاصة لا ننتظر منهم رداً للجميل ولا نضع في الحسبان الربح والخسارة، بل ان الجزاء الذي ننتظره هو اختبارنا للنجاحات التي سيحققونها والازدهار الذي سيعيشونه والحياة الأفضل التي ساعدنا ولو بنزرٍ يسير لتحقيقها، ذلك هو الجزاء الذي ننتظره لا أكثر ولا أقل.

نحن نحب الآخر فينا، ونحب أنفسنا في الآخرين نحب أن نرى أثرنا في الحياة، ونحب أن نتأثر بالآخر، تلك هي المعادلة نجاحنا ليس نجاحاً فردياً، بل نجاحنا مع الآخرين، نجاحنا من خلال الآخرين، نجاحنا من خلال النموذج الذي نقدمه في الحياة من خلال علاقاتنا، ومن خلال تربيتنا لأبنائنا بأن يكونوا الصورة الأفضل منا، ومن خلال ما نقدمه للآخر، ذلك هو النجاح الحقيقي، لم يكن يوماً نجاحاً فردياً ولم يكن الحب كذلك علاقةً فرديةً.

الحب من غير أمل أسمى معاني الغرام؛ العطاء دون مقابل، الإيثار والتضحية من أجل الآخرين هو أسمى معاني الإنسانية.

قد أكون متشائما إذا ما قلت إن قلةً قليلةً منّا اليوم، تُدرك ذلك، وتطبقه في حياتها، ولكني متفائل بأن فطرتنا الإنسانية دائماً ما تدعونا وتلح علينا للعطاء دون مقابل، وأن كل الصور السلبية التي نراها من انتهازية واستغلال للعواطف وتسلّق على أكتاف الآخرين، هي أشياء عابرة لا تمثل إنسانيتنا، وأن ما يبقى هو الأصل لا الصورة.

في كل تجربة مع الآخرين، نتعرض لامتحانات واختبارات قاسية تعيد علينا دوماً تلك الأسئلة الجوهرية، لماذا؟ وماذا بعد؟ وكيف؟ ندرك حينها أن ليس بمقدورنا دوماً الإجابة عن كل تلك الأسئلة بإجابات شافية أو منطقية، ولكننا سرعان ما نكتشف أننا لربما لم نكن مختلفين إلى تلك الدرجة، وأن كل واحد فينا، يحمل بداخله انكساراته وخيباته، ومخاوفه الخاصة، وأن علينا البدء من جديد، والعطاء من دون مقابل، بالحب، ولو من غير أمل!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
20-6-2022

الاثنين، 23 مايو 2022

الشهيدة التي لا يجوز الترحم عليها!


لم تكن واقعة استشهاد الصحفية شيرين أبو عاقلة مريرة بواقع اغتيال الكلمة فقط، بل باغتيال الانسانية ومفاهيم المواطنة والتعايش في مجتمعاتنا العربية، فما كاد الناشطون والمثقفون يبدأون برثاء شيرين وذكر "استشهادها" والدعاء بالرحمة لها، حتى انبرى البعض مُذكراً بعدم جواز الرحمة والدعاء لغير المسلم!
ولعلني أبدأ مقالي هذا بالقول إن كل حراك فكري هو حوار إيجابي حتماً، وإن تحريك المياه الراكدة سيدفع بالرواسب والعوالق إلى السطح مما يسهل من عملية تنظيفها.
ولكن عتبي الأكبر على كل من حاول الدفاع عن موقفه بالترحّم على شيرين من مبدأ "شيرين غير" أو مبدأ الوحدة في وجه العدو الصهيوني، لأن الفكر يُرد عليه بالفكر والأدلة وليس بالعواطف.

بدايةً أود القول أنه حان الأوان لتصحيح عدة مفاهيم خاطئة متوارثة، بل متأصلة في العقيدة التي درسناها وحفظناها، وللأسف فإن ذات العقيدة التراثية ما زالت تُدرّس في جميع بلداننا وتحظى بمباركة وقبول مجتمعاتنا.
إن المسؤولية اليوم تقع على عاتق الأفراد أنفسهم، لأن المؤسسات الدينية هي التي تحرص كل الحرص على تقديس التراث وتحارب كل من يتجرأ على مناقشته وطرح أي رأي مخالف.

من هم المسلمون

في حين يستأثر التراثيون بوصف أتباع سيدنا محمد (ص) بالمسلمين، فإن الله سبحانه وتعالى قال صراحة ودون لبس في كتابه العزيز أن الاسلام هو دين الله وأن كل الموحدين من أتباع الرسالات كافة هم مسلمون من عهد سيدنا آدم إلى سيدنا محمد (ص)، وأن الاسلام هو التوحيد بالله والايمان باليوم الآخر والعمل الصالح (العبادات والمعاملات أو الأخلاق)، في حين وصف أتباع سيدنا محمد بالمؤمنين أو الذين آمنوا، وأتباع الرسالات الأخرى بأهل الكتاب.
وهذا المفهوم الشامل للاسلام من شأنه أن يضع جانباً كل الاختلافات والاتهامات التي يرمي بها أصحاب الرسالات السماوية بعضهم بعضاً بل وأصحاب الرسالة الواحدة!

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) البقرة 62

هل طُلب منا إطلاق الأحكام على البشر؟

لقد حرص الله سبحانه وتعالى على توضيح ان الحساب بيده وحده، وأن الثواب والعقاب متروك له وحده، كي لا يتألّه أحد على الله ويدّعي انه يملك مفاتيح الجنة والنار وتوزيع صكوك الغفران، ووضح لنا أن المطلوب منا هو الدعوة الحسنة وترك ما لا يعنينا

(أدْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (

هل الرحمة مختصة برسالة معينة؟

(قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لرَّحِيمُ)

في محاولاتنا لفهم كتاب الله عز وجل علينا أن نستوعب أن هذا الكتاب هو من عند الله سبحانه وتعالى وأن نظمه وتفصيله وتوقيع معانيه ومصطلحاته تستلزم دقة الفهم والوعي من المتلقي، وأن جُلّ مشاكلنا في التفسير صادر عن قناعتنا بوجود المترادفات ونسخ الآيات بعضها لبعض، في حين أنه لا يوجد تعارض بين آية وأخرى إلا في عقول التراثيين.

يقول الله سبحانه وتعالى لعباده وليس لطائفة محددة ولا أتباع رسالة محددة، بأنه يغفر الذنوب جميعا، ويدعوهم إلى عدم اليأس من رحمته، فيما نحن نقسّم رحمة الله فنختص بها أنفسنا ونحرم غيرنا منها!
بل إن الله سبحانه وتعالى قد لام على الأقوام السابقين بأنهم كانوا يقولون أنهم أحباب الله وأن أحدا غيرهم لن يدخل الجنة، وبعد أن منّ الله علينا بالايمان أخذنا منهم تلك الدعيّة وأطلقناها على أنفسنا!

القول بشرك أهل الكتاب وكفرهم

لقد وضح الله سبحانه وتعالى الضلال الذي وقع فيه (بعض) أهل الرسالات السماوية الأخرى وبيّنه لنا كي نستوعب الدين الصحيح على النحو الذي ينبغي ولا نقع في الشرك بأن نشرك سيدنا محمد في الألوهية مثلا أو نقع في شرك تجسيد الله وغيره من الأمور ولكن الله سبحانه وتعالى كان دقيقاً في وصف هذا الشرك والكفر في "بعض" أهل الكتاب ولم يعمّم هذا الأمر عليهم، ومن باب أولى أن لا نحكم على بواطن الأمور وعلى إيمان البشر وما في قلوبهم، والأحرى بنا أن نتحلّى بصفات الاسلام ونلتزم بالقيم الانسانية العظمى، وندعو بالرحمة التي كتبها الله على نفسه (قال عذابي أصيب به من أشاء ورحمتي وسعت كل شيء)

وقد وصف الله سبحانه وتعالى أهل الكتاب بما يليق بهم من إنسانية، ووضعهم في مكانهم الصحيح من البشرية، فمنهم المؤمنون ومنهم الكافرون كبقية البشر 

((لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ)) آل عمران 

الغريب أن المفسرين الأوائل عندما عجزوا عن تفسير هذه الآيات نتيجة تعارضها مع مفهومهم المتوارث، قالوا إن المقصود بهذه الآيات هم أهل الكتاب الذين آمنوا بمحمد، ولا أعلم كيف تم إقحام الايمان بسيدنا محمد (ص) في هذا النص!
كما يلاحظ من النص استخدام الفعل المضارع (يؤمنون يأمرون يفعلوا) للتأكيد على حضور واستمرار هذا العمل وأنه لا يخص مدة زمنية محددة، وهذا ينفي بعض التفسيرات التي تقول ان المقصود هم أهل الكتاب قبل بعثة سيدنا محمد فحسب.

هل هناك فئة أو طائفة ستدخل الجنة بدون حساب

يقول الله سبحانه وتعالى في نص صريح وواضح: ((لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا (123) وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا)) سورة النساء

فالقاعدة العامة تقول إن كل فرد سيجازى على ما سيعمل، ولو كان من أتباع سيدنا محمد (ص)، وأن شرط قبول الأعمال الحسنة هو الايمان بالله واليوم الآخر، وهو أمر ليس محصورا في أمّة بذاتها، لاحظوا أن النص تحدث عن الأفراد وليس الأمم (من ذكر أو أنثى).
 
طلب الرحمة والمغفرة

في أواخر سورة المائدة هناك حوار جليل بين الله سبحانه وتعالى وسيدنا عيسى عن النصارى الذين أشركوا السيدة مريم والسيد المسيح في الألوهية، وفي نهاية هذا الحديث يقول سيدنا عيسى (إِن تُعَذِّبۡهُمۡ فَإِنَّهُمۡ عِبَادُكَۖ وَإِن تَغۡفِرۡ لَهُمۡ فَإِنَّكَ أَنتَ ٱلۡعَزِيزُ ٱلۡحَكِيمُ).

وأنهي حديثي بالقول بأننا لا نقول سوى ما قاله عيسى في حضرة الله سبحانه وتعالى (وقول الله الغيب هو قول واقع) وعُلمنا لا يتجاوز علم رسول من الرسل، ولو كان قد حقّ العذاب على هذه الفئة (رغم أنها أشركت في الألوهية) لما تجرأ سيدنا عيسى على جعل المغفرة خياراً مطروحاً ولكان ذلك مخالفة لأوامر الله، ويأتي جواب الله لعيسى مصداقاً لهذا القول) قَالَ ٱللَّهُ هَٰذَا يَوۡمُ يَنفَعُ ٱلصَّٰدِقِينَ صِدۡقُهُمۡۚ) فبقي باب المغفرة والرحمة مفتوحاً والأمر كله لله.
فما علينا اليوم سوى طلب الرحمة لأخوتنا في الانسانية وإخوتنا في الاسلام دين الله الشامل، و الله رحيم واسع المغفرة، وسيبقى كذلك في أذهاننا ووجداننا، مهما صوره البعض بخلاف ذلك، وهو الذي أباح لنا الزواج من أهل الكتاب، فكيف نتزوج ممّن لا نرجو رحمة الله لها!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
22-5-2022

الأربعاء، 2 فبراير 2022

"أصحاب ولا أعز" الإستسهال وفخّ التقليد




 بداية دعونا ننوّه إلى قضيتين رئيسيتين، أولاهما أن الرواية الأصلية للفيلم والنسخة الأصلية "الايطالية" يستحقان الاعجاب والاشادة، وقد نال الفيلم الايطالي عدة جوائز دولية، وتم انتاج 19 نسخة عنه بلغات العالم، ولكن هذا لا يعني بالضرورة أن جميع النسخ وبالأخص النسخة العربية هي نسخٌ ناجحة.

 

والثانية، ضرورة التفريق بين الجانب الفني للفيلم العربي من ناحية أداء الممثلين، والتصوير والاخراج...الخ، والذي كان ناجحاً إلى حد كبير، وبين خيبة الأمل من المحتوى والصورة الفاضحة التي ظهرت به مجتمعاتنا العربية، او بالأصح الصورة التي أظهرها الفيلم لنا.

 

ولعلّي استهل حديثي بالقول إن فكرة الفيلم الايطالي كانت هادفةً وغايةً في الروعة، وقد نجحت بالفعل في إثارة المشاهدين، وتسليط الضوء على مشكلة التقوقع خلف ستار الخصوصيّة، التي تعاني منها مجتمعاتنا بشكل عام. ولعل عنوان الفيلم يشير إلى تلك المتلازمة التي بتنا نعاني منها في عصرنا الحاضر أكثر من أي وقت مضى (Perfect Strangers). ففي الوقت الذي يتناول فيه الفيلم حياة مجموعة من الأصدقاء القدامى وعلاقاتهم العائلية المُقرّبة، إلا أنه يركّز على أسرارهم الدفينة التي يحتفظ بها كل فرد لنفسه، بحيث تتداخل الشخصيات داخل الفرد الواحد، ويصبح الفرد فيهم في المحصلّة غريباً عمّن حوله، لا يدرك خفاياه حتى أقرب الناس اليه.

 

وبما أننا نعيش في عصر التكنولوجيا، والأجهزة الالكترونية وتطبيقات التواصل الاجتماعي، فقد باتت هذه الأجهزة المحمولة هي صندوقنا الأسود الذي نخفي فيه كل أسرارنا ونواقصنا. ومن هذه النقطة بالتحديد يصبح للتحدّي الذي تطلقه إحدى شخصيات الفيلم معنىً كبيراً بأن يقبل الفرد فينا التجرّد من صندوقه الأسود، وأن يمتلك من الشجاعة ما يكفي كي يقف أمام الجميع "عارياً" دون أي غطاء!

 

وفي التفاصيل يقبل الأصدقاء التحدي لأن عدم القبول يعني أنه يُخفي شيئاً ما، وتتسارع الأحداث بعد أن يضع جميع الأصدقاء أجهزتهم الخلوية على الطاولة، ويبدأوا في تلقّي المكالمات على العلن، وقراءة الرسائل على الملأ، وتتواصل الحبكة الفنيّة وتتطور الأحداث وصولاً إلى الكشف عن أسرار هؤلاء الأصدقاء أمام بعضهم البعض، والتي تكون كفيلةً بأن يتحوّل الفرد فيهم إلى شخص غريب تماماً عمّن كان يُظهر في العلن!. وقد كتبت قبل سنوات عبر هذه النافذة بالذات مقالاً أشدت فيه بفكرة الفيلم ونجاحه اللافت.

 

هذه الفكرة المُذهلة والعبقرية كانت تستدعي اجتهاداً من القائمين على فيلم "أصحاب ولا أعز"، بداية من العنوان ونهاية بتطورات الأحداث، فقد جاء الفيلم نسخةً طبق الأصل عن الفيلم الأجنبي، وكأن أسرار العائلات الايطالية هي ذات أسرار العائلات العربية، وأن المشاكل الزوجية واهتمامات الأفراد هناك هي ذاتها هنا.

 

مشكلة القائمين على هذا الفيلم، هي ذات المشكلة التي تواجه كل المُبدعين والمثقفين والاداريين بل والسياسيين في عالمنا العربي، مشكلة "الإستسهال"، والوقوع في فخ التقليد الأعمى دون إبداع، دون خصوصية، وبالتأكيد دون هويّة! فإن نجحت التجربة عزوها إلى أنفسهم، وإن فشلت قالوا إنما هي أفكار أؤلئك!

 

كنت أتمنى أن يتم طرح مشاكل الأقليّات العرقية في مجتمعاتنا بدلاً من مشاكل الشواذ، مشاكل الشباب وهمومهم المُعاصرة، المخدرات، رفاق السوء، بدلاً من مشكلة فتاة مراهقة طلب منها صديقها أن يمارسا الجنس، كنت أتمنى أن يتم عرض مشاكل الفساد والرشوة والمحسوبية التي نخرت مجتمعاتنا.

كنت أتمنى حين تُطرح مشكلة الخيانة الزوجية، أو العلاقات الفاضحة في العالم الافتراضي، أن يتم تقديمها أيضاً بشكل هادف وقريب من مجتمعاتنا.

 

هناك الكثير من الأزمات والأسرار التي تستحق أن تُطرح على طاولة مشاكلنا في المجتعات العربية، غير تلك التي عرضها الفيلم، وكان بالإمكان أن يحقق الفيلم الغاية منه، وأن يُسلّط الضوء على مشاكلنا الحقيقية، بدلاً من استيرادها من الخارج!

 

إن هدف كل عمل ثقافي وفنّي هو إحداث تلك الصدمة والدهشة عند المُتلقّي، أن يضع المشاهد في مواجهة أخطائه وقصوره ومشاكله الحقيقية، أن يصوّر له كل سلبياته ويضعه في ورطة تفرض عليه تقبّل هذه السلبيات بدايةً ثم العمل على تفاديها ومعالجة آثارها ثانياً.

برأيي كمُشاهد ومتابع مهتم بالسينما، إن هذه النسخة العربية لم تحقق تلك الصدمة أو الدهشة، ولم تصنع ذلك التأثير على المتلقّي، بل إنها لم تستدعِ التأمل فيها أو التفكر فيها ولو للحظات، لأنها لم تكن صادقة ولا مُقنعة، لم تكن "أصيلة"، وبالتالي لم يصدقها أحد أو يأخذها بمحمل الجد، ومن هنا فقدت كل مقوّمات النجاح!

 

في الختام لا بد من القول ببالغ الأسف إن الشيء الوحيد الذي اجتهد فيه القائمون على العمل وحاولوا تحويله إلى نسخة عربية حقيقية، كان استخدام الألفاظ النابية والخادشة للحياء في الفيلم، وأعتقد أن هذه الخاتمة توجز كل شيء!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

2-2-2022

الاثنين، 24 يناير 2022

الأردن ليس بخير


منذ عام 2011 ونحن نتحدث عن الاصلاح في الأردن، حديثٌ عن إصلاحات سياسية، حكومة مُنتخبة، ملكيّة دستوريّة، قانون انتخاب مُعاصر، تفعيلُ دور الأحزاب، دعم الشباب والمراة، إلخ القائمة الطويلة من مطالبات لأدنى حقوق الشعوب، ولكنه كلامٌ عابر في زمانٍ عابر!


مع كل هبّة شعبية نستبشر بالخير، وكيف لا وجميع المسؤولين من قمة الهرم إلى قاعدته يتحدثون عن ضرورة الاصلاح، ويبشّرون بمستقبلٍ مُشرق للأردن والأردنيين، ولكننا نسمع جعجعةً ولا نرى طحناً!


نحن في الأردن لسنا بمعزل عن باقي الدول العربية التي تأخر فيها الاصلاح، أو بالأحرى تأخرت فيها مطالب الاصلاح، لأننا كنا مدجّنين "كغيرنا" بالخوف من المشروع الصهيوني والقوى الامبريالية، وتدخلات أطراف خارجية، ولمّا لم يعد لهذه الشعارات تأثيرٌ أو فاعلية تُذكر، بعد أن كسر شباب الربيع العربي حاجز الخوف، تم ابتكار معوّقات معاصرة تناسب الحدث، فتارة يدّعون أن الفساد والفاسدون يعيقون حركة التقدم والاصلاح، وتارة أخرى يحمّلون العشائرية المسؤولية عن تراجع الديمقراطية والمدنيّة، وفي السنوات الأخيرة تحمّلت الحكومات وحدها المسؤولية، حيث حُمّلت حكومة هاني المُلقي "بأشخاصها" مسؤولية تردي الأوضاع في البلاد، وانقلب الشارع عليها، وباركت الدولة ذلك وبالفعل سقطت الحكومة. وها نحن بعد أكثر من ثلاثة أعوام نعيد المشهد مرة أخرى، ما زلنا نعاني من ذات الظروف السياسية والاقتصادية والمعيشية المتردية ولا ندري من نلوم، مجلس النواب أم الحكومة أم أطرافاً خفيّة لا نعلمها!  


إن محاولة حل أي مشكلة دون تحليل المشكلة ذاتها والتعرف على أسبابها هو ضرب من ضروب العبث. لذلك نقول باختصار، إن ما يحصل في الأردن هو منهج صريح وواضح من الدولة الأردنيّة العميقة وأقصد الأجهزة الأمنية والمخابرات والحرس القديم من أركان الدولة، وهذا النهج يهدف إلى المحافظة على شكل الدولة الحالي ومؤسساتها الأمنية والعسكرية في مواجهة أي تغيير ديمقراطي من شأنه سحب البساط من هذه الجهات. 

وهم يؤمنون وبكل إخلاص أن ذلك من مصلحة الأردن والأردنيين.

وهذه الدولة العميقة تتحالف بالتأكيد مع شخصيات متنفذة ورجال أعمال يشكلون فيما بينهم تحالفا مؤثراً وفاعلا على جميع الأصعدة في الأردن، وهم بالتالي يملكون مفاتيح الحل والربط كما يُقال.


هذا التحالف غير المرئي وغير الرسمي يشكل عائقا أساسياً أمام أي اصلاح ديمقراطي حقيقي على الأرض، ناهيك عن بعض المستفيدين من الوضع القائم الذين يركبون موجة "الوطنيّة" ويعارضون الاصلاح بشتى السبل والوسائل.

وهكذا يتم خلق حالة متناقضة من الوعود الجميلة والخطط البرّاقة وورش العمل والأوراق النقاشيّة، واللقاءات التلفزيونية والتصريحات الاعلامية والآمال التي تتجدد عاماً بعد عام، ولكن القطار مُعطّل وقضبان السكّة خرجت عن مسارها، وأني لأخشى أن ينطبق علينا قوله تعالى (وبئرٍ مُعطّلة وقصرٍ مشيد).


كلما تحركت قوى الاصلاح بخطوة إصلاحية أو مشروع قرار، سبقتها الدولة العميقة بتشريع يعيق تلك الاصلاحات ويجعلها هامشية وغير مؤثرة. طالبنا بقانون انتخاب عصري ومجلس نواب يمثّل الشعب، حقيقة الشعب، ويفرز قامات وطنية وحزبية تعبّر عن إرادة الشعب وكلمته، فأنتجوا لنا قانون انتخاب يؤسّس للعشائرية لا للأحزاب، ويجعل من سابع المستحيلات تشكيل كتلة نيابية مؤثرة فضاعت الأصوات وتبعثرت الأجندات السياسية وأصبح المجلس "حارة كل من إيدو إلو" وجلساته البرلمانيّة لا تختلف عن حلقات مقالب غوار وصحّ النوم!


طالبنا بحكومة منتخبة، و ملكيّة دستوريّة، فأصدروا لنا تشريعات تسحب كل السلطات من الحكومة "التي لم تنتخب بعد" وجعلوا السلطة تتركز في مجلس دخيل على الدستور يتمتع بجميع الصلاحيات الأمنية والعلاقات الخارجية، وبذلك أجهضوا كل معنى لأي حكومة مستقبلية حتى ولو كانت مُنتخبة، وهذا كفيل بهدم كل آمال الوصول يوماً ما إلى ملكيّة دستوريّة يحكمها الشعب!.


هذا باختصار هو المشهد الأردني اليوم، ودون فهم هذا التناقض الذي نحن فيه لن نستطيع فهم المعضلة الحقيقية ناهيك عن حل هذه المعضلة!


المطلوب اليوم أكثر من أي يوم مضى، أن يصل صوتنا إلى أصحاب القرار في الدولة، بكل السبل والوسائل وبكل مثابرة وإيمان لنقول إن من يحمي الأردن هو الشعب الأردني الحر الذي يعبر عن إرادته ويواجه كل الأخطار المحدقة به برجالاته وكفاءاته ومؤسساته، لا بالقيّمين عليه أو الأوصياء على خياراته. 

المشكلة ليس في تمكين إرادة الشعب، المشكلة فيمن يعتقد أن الشعب يمارس مراهقة سياسية لا تخوّله ممارسة إي صلاحيّة!


علينا أن نوصل صوتنا بكل قوّة، بأن ما تفعله الدولة من خلق تلك المعوقات لا يراعي مصلحة الأردن المستقبلية ولا مصلحة الأردنيين بل إنه يُقزّم من دورهم، ولا يترك لهم سبيلا إلا مواجهة الدولة ذاتها، وحينها لن يكون الأردن هو الأردن بل سيتحول إلى سوريا أو ليبيا جديدة، وهذا ما لا يريده أحد من الأردنيّين.


قالها الفاروق من قبل (لا خير فيكم إن لم تقولوها، ولا خير فينا إن لم نسمعها)، ونحن اليوم نقول لكل رجالات الدولة العميقة، إذا كنتم تحبون الأردن فالأولى ان تحبوا الأردنيين وتحرصوا على أن يحققوا مطالبهم الديمقراطية والدستورية وحينها سيعود الأردن بخير!


أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-1-2022