الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

أيها المُطبّعون العرب صحيتوا المواجع فينا!!

     قبل عدة أعوام تعرّفت على أحد الزملاء من "أهل البلاد" البسطاء الذين يتصرفون على سجيتهم وكما نقول "اللي في قلبه على لسانه"، لا يتحرّج من توجيه النقد اللاذع أو ابداء أية ملاحظة دون مواربة. هو باختصار تلقائي وبسيط، بعيدٌ عن التكلف.

في جلسة جمعتني به سألني: "أنت بتنزل على الضفة ؟" هذا السؤال أعادني في الذاكرة إلى عقود مضت، قلت له آخر زيارة لي كان عمري حينها لا يتجاوز العشر سنوات، قال مستغرباً "وليش ما بتنزل !؟" قلت له أرى أنك تشجعني على الزيارة، قال طبعاً عليك أن تزور "البلاد" وأن تأخذ أولادك وتعرفهم على بلادهم الأصلية.

قلت مُعقباً زيارة فلسطين في هذه الأيام أسهل من زيارة بعض الدول العربية، أخبرني بعض أصدقائي أن هناك مكاتب سياحية في عمّان توفر للراغبين جولة سياحية في الضفة وأراضي عام 48، بل إن المكتب يتكفل بجميع المعاملات دون أن تضطر للذهاب إلى السفارة، ليس هذا فحسب بل إن ختم الزيارة يكون على تأشيرة خارجية دون ختم الجواز، كي لا يؤثر ذلك على دخولك لأراضي بعض الدول العربية التي تمنع زيارة دولة الاحتلال.

قفز سؤاله في وجهي مستغرباً، وما الذي يمنعك إذاً !! أطبق علي السكون، ثم خطرت على بالي فكرة، تنهّدت وقلت له هل لك أن تسمع مني قصة قصيرة؟ قال تفضل، وأشعل سيجارة جديدة، في حماس واضح لسماع مجادلتي.

ذات يوم، قام مسؤول كبير ومدعوم بسرقة سيارتي في وضح النهار، وبما أنه متمكن وقادر وله معارف واتصالات في الدولة، ولديه مصالح مشتركة مع أصحاب القرار ، استطاع أن يحصل على أوراق تثبت ملكيته للسيارة ، وفي يوم وليلة أصبحت السيارة ملكا له!!
   
وبما أني مواطن "غلبان"، ولا يوجد من يدعمني أو أن يستمع لروايتي، إضافة إلى أن معظم علاقاتي مع أناس بسطاء مثلي "غير مؤثرين"، فقد فشلت في اثبات ملكيتي للسيارة، رغم كل الأوراق والاثباتات التي في حوزتي، لأنه على الطرف الآخر لديه من المستندات والاثباتات التي تدحض أوراقي !!
   
وبعد كرّ و فرّ، قررت أن أسترجع السيارة بالقوة ولكني للأسف فشلت من جديد، لأني في النهاية رجل ضعيف كما أسلفتً ولا أملك الامكانيات الكافية التي تؤهلني لمواجهة طغيانه. ثم قررت أن أجرب الحيلة والاحتيال واللف والدوران ولكني سرعان ما اكتشفت أني لا أصلح لهذا أيضاً وصدق من قال"اللي مش كارو يا نارو!".

ومع محاولاتي استرجاع السيارة بالقوة تارة وبالحيلة تارة أخرى، انقلبت الصورة أمام الاعلام والقانون وأصبحت أنا المعتدي، والفاسد والحرامي !!

  وصل اليأس معي مداه، وفقدت الأمل، ولكن السيارة بقيت تراودني في أحلامي، دون أن أنساها ولو للحظة، وكلما رأيت ذلك المسؤول يقودها، يطير عقلي!.

ثم كانت المفاجأة بأن تلقيت دعوة للقاء المسؤول في مكتبه، وبعد حديث طويل قال لي لماذا تصرّ على تعقيد الأمور، لماذا لا تعتبر أني استأجرت السيارة منك، وفي اللحظة التي ترغب في استعمالها اطلبها مني وستصلك إلى منزلك في نفس اليوم، اقض حاجتك بها وأرجعها لي، ولكن دعنا من نحيبك ونشيجك ولقاءاتك التلفزيونية العاطفية، والقضايا الخاسرة التي ترفعها ضدي هنا وهناك. خذها نصيحة صادقة مني، آن لك ان تتصرف بعقلانية بعيداً عن العواطف مع الأخذ بالاعتبار مصالحك وظروفك بل والظروف المحيطة أيضا، أما آن لك أن تقبل بالأمر الواقع يا صديقي!

خرجتُ من عنده والأفكار تأخذني جيئة وذهابا وتتلاطم في ذهني كالأمواج الهائجة، هل يعقل ما يحدث ؟! أستأذن منه كي استخدم سيارتي التي أمتلكها؟ ثم يطلّ علي عقلي ليقول، لنواجه الحقيقة التي تقول انك قد خسرت السيارة وأنها لم تعد ملكك، بناء على هذه الحقيقة، فإن أي شيء يمكنك الحصول عليه هو انتصار حقيقي، حتى لو كان قضاء يوم واحد في نزهة بالسيارة!

في النهاية ونظراً لعنادي الشديد، ولصلابة رأسي كما يًشاع عني، رفضتً الفكرة، واخترت أن أعاني في المواصلات العامة، وأن تحرقني الشمس وانا أتنقل من هنا إلى هناك وأقف في طوابير المواصلات، وأن أصل بيتي كل يوم وقد استفذت كل طاقتي في العمل وفي أزمة المواصلات، وما أن أضع رأسي على وسادتي حتى تطل صورة السيارة أمام عيني، فتتملكني الحسرة وينكسر قلبي !!

وهنا، توقفت عن الحديث وقلت لصديقي الذي كان يصغي بعناية ودهشة في آن، لو كنت مكاني ماذا كنت ستختار!؟ لقد أخترتُ أن أعيش في عقدة النقص وأن تظل الحسرة تحاصرني كل يوم على وطن سُرق مني في وضح النهار وما زلت عاجزاً لغاية اليوم أن أزوره أو أعيش فيه ولو للحظة واحدة دون الاستئذان من "الحرامي الكبير" الذي سرق هذا الوطن مني!!

وما أن أنهيت سؤالي حتى احمرّ وجهه وسرعان ما اغرورقت عيناه بالدمع وبصعوبة بالغة تمالك نفسه. 
أحسست بالاحراج وشعرت بأني قد بالغت في كلامي وردّي عليه، حاولت استدراك الأمر والاعتذار بلباقة، ولكن ذلك لم يمنع الضبابية في عيونه، ثم قطع الصمت قائلاً: انت سمعت أغنية ام كلثوم ؟ قلت له أي أغنية ؟ قال وصوته يحشرج "صحيت المواجع فيّا".

هذه الواقعة حصلت معي قبل نحو سبع سنوات، ومنذ أن غادرت موقع العمل ذاك لم ألتق مع زميلي طيب الذكر، ولكن عقلي اللاواعي استدعى تلك الحادثة وانا أراقب بحسرة وألم من يطلقون على أنفسم أسماء من قبيل "نشطاء" و "مؤثرين" و "مثقفين" عرب يهرولون لزيارة بلادي المحتلة تحت مظلة الاحتلال ويتغنّون بطيبة الشعب الاسرائيلي والأطفال الاسرائيليين الذين يتلقونهم بالتحيّة "شالوم"!!

كيف لمواطن عربي تجمعني به أخوّة وصلة دمٌ، وثقافة واحدة أن يتغاضى عن مأساة وطن مسلوب، ومأساة شعب محتل وجيل كامل محروم من أرضه، وأن يتسابق لزيارة بيتي المنهوب وقريتي المدمرّة، وأطلال مدرستي ومسجدي المعطّل، وأن يتباهى بلقاء أبناء المغتصب على مرأى الجميع!! 

أيها المهرولون نحو التطبيع، هلاّ نظرتم إلى تحت أقدامكم قليلاً!

أيمن يوسف أبولبن 
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-12-2020

الخميس، 29 أكتوبر 2020

ماكرون وتهافت الثورة الفرنسية

لا بد للمرء فينا العودة إلى التاريخ لفكّ طلاسم التصادم الفكري الحاصل حالياً، وفك الاشتباك فيما يدّعي البعض أنه التزام بقيم حرية الفكر والمعتقد، وبين قيم التعايش الحقيقية وتقبّل الآخر.

بعدما نجحت الثورة الفرنسية في تحقيق أهدافها السياسية وقلب نظام الحكم الملكي في البلاد، بدأت موجةٌ من الفوضى والعنف الخارج عن السيطرةـ والتي أحالت البلاد إلى آتون حرب أهلية طرفها الأول "الثوّار"، فيما لا تحد طرفه الآخر حدود مفهومة او واضحة، فمداها مفتوح حتى انه شمل بعض اعضاء الثورة نفسها، فاقتتلوا فيما بينهم ونُفّذ حكم الاعدام في بعض قادتهم!

هذه الحالة الفوضوية يمكن وصفها بإيجاز بأنها خروج عن مسار الثورة، وانحراف عن مبادئها، ولكن استمرار الثورة الفرنسية على هذا الحال الفوضوي الممزوج بين شعارات الحرية والقضاء على الآخر في آن واحد، أورث للعالم جيلاً لا يكاد يفرّق بين هذا أو ذاك، بل إنه يؤمن ولو بشكل غير واع، أن تحقيق أهداف الثورة السامية -أي ثورة- لا بد وأن يكون على رقاب الآخرين، والآخر هنا قابل لإعادة التعريف والقولبة حسب واقع الحال. ويمكن قياس ذلك على الحروب الخارجية التي خاضها الجيش الفرنسي، كما يمكن قياسها أيضاً على الحضارة الأمريكية، التي انبثقت بشكل غير مباشر من مهد الحضارة الفرنسية. (إعلان حقوق الانسان للثورة الفرنسية تم إعلانه في عام 1789 فيما تم اعلان وثيقة الحقوق الأمريكية بعده بعامين).

من جهة أخرى كان من الملاحظ أن الثورة الفرنسية قد اكتسبت رمزية أخرى لا تقل أهمية عن حقوق الانسان وتتمثل في ثورتها على الكنيسة، وعلى المفاهيم التقليدية التي تتعارض مع العقل والعلم، وهذا بدوره تحوّل إلى ما يشبه "العقيدة اللادينية" أو ما أطلق عليه فصل الكنيسة عن الدولة.
ولعل أول نتائج الثورة كانت القضاء على حكم الكنيسة وجعلها خاضعة للدولة المدنية، حيث أصبحت الدولة مسؤولة عن تعيين الرهبان ورعاية شؤون الكنيسة، بعدما كانت الكنيسة هي راعية الدولة وهي التي تنصّب الحُكّام باسم الله! بل إن الدولة الفرنسية الجديدة أخضعت الرهبان لقسمٍ جديد يلتزمون فيه بالولاء للدولة وهو ما أدى إلى تقسيم الكنيسة الى حزبين، حزبٌ موالٍ للدولة الجديدة وحزب اختار الابقاء على ولائه للكنيسة، والنتيجة الحتمية كانت القضاء على كل من لا يجهر بالولاء للدولة!

هذه الوقائع التاريخية، والنتائج التي آلت لها الثورة، الايجابية منها والسلبية ترسّخت في أذهان الكثيرين، على أنها حزمة إصلاحيّة واحدة يجب القبول بها بل وتقديسها، بدلاً من مراجعتها أو اخضاعها للفكر النقدي، وهو ما أدى في النهاية إلى ترسيخ أفكار الثورة الفرنسية في أذهان الكثيرين بشكل مغاير لمبادىء الثورة الأساسية التي قامت عليها مبادىء حقوق الانسان في العالم أجمع، وكانت المظلة التي انبثقت منها كل الديمقراطيات في العالم الحديث.

في مقال سابق لي نشر في جريدة القدس العربي في يناير من عام 2015، كتبت عن حادثة شارلي ايبدو معلقاً (ما شهدته باريس مؤخراً من دعم عالمي لحق الإعلاميين والصحفيين في السُخرية من الأديان والأنبياء دون حرج أو أدنى شعور بالخطيئة لهو أكبر دليل على التطرف الذي وصل له العالم في تطبيق مبادىء الحُريّة على عكس المراد لها ولا يتماشى أبداً مع الرُقي الحضاري الذي يسعى له الإنسان، ولا يمكن تصنيف هذا العمل إلا ضمن الإنحلال الأخلاقي والعُهْر الحضاري، وكل من يدعم حُريّة التعبير هذه يجب تصنيفه على أنه "مُتطرّف فكرياً".........هذا يعني أننا نعيش في عصر "الجهل المقدّس" بمفهوم جديد، وأننا بحاجة إلى ثورة فكرية مُضادة ينتج عنها ميثاق جديد لحقوق الإنسان".

إن ما يتشدّق به الرئيس الفرنسي ماكرون اليوم، عن المحافظة على ميثاق حقوق الانسان والتعهّد بالحرية الفكرية، لهو مؤشر حقيقي على الأزمة الفكرية التي يعيشها الغرب وفرنسا بشكل خاص فيما يخص احترام الآخر واحترام الأديان وصون حق حرية العبادة للأفراد.

إن هذه القيم الانسانية (حرية العبادة واحترام الآخر والتعايش المدني) قد جاء بها الاسلام قبل اثني عشر قرناً من الثورة الفرنسية، وإن أي شذوذ أو طغيان في تطبيق هذه القيم والمبادىء وحرفها عن مسارها الصحيح، سيؤدي إلى تعصب ديني يميني يسحق فيه المتطرفون الدينيون الآخر، كل الآخر، أو يسحق فيه اللادينيون الآخر، كل الآخر، ولا يوجد بديل عن هذا سوى الوسطية والاعتدال والاحترام المتبادل.

ولعلّ من سخرية القدر أن يتغذّى كل معسكر على الآخر، وألاّ يشعر بأهميته سوى بوجود الآخر، فمن على شاكلة ماكرون (المتهافت على أنقاض مبادئ الثورة الفرنسية) يروق له أن يدّعي أنه منارة الدفاع عن حرية التعبير وحقوق الانسان ويشدّد على الاختلاف مع المتعصبين الدينيين، وفي ذات الوقت تزداد مساحة التعبير عن التعصّب الديني والتقوقع خلف شعارات العنف المضاد، كلما قوي المعسكر النقيض، وهكذا دواليك!
فمتى يستطيع البشر إدراك أنهم لن يشعروا بالأمان إلا إذا اقتربوا من المنطقة المعتدلة، وأنهم لن يشعروا بأهميتهم إلا من خلال احترام الآخر والتعايش معه.

ولعل هذا يقودنا إلى القول إن ردة فعلنا كمسلمين وحقوقيين ونشطاء ودعاة تحضّر يجب أن تلتزم باتباع القيم الانسانية التي جاء بها الاسلام ودعى لها نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما التعصّب والرد بالمثل أو استخدام العنف، فلن يؤدي سوى إلى إثبات وجهة نظرهم!

إن المقاطعة الاقتصادية، والثقافية، والرد بالحوار الفكري، ونشر تعاليم الاسلام الحقيقية والتعريف بها، والتحدث عن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم بجوانبها الانسانية، وتطوير الخطاب الديني والاستمرار في نهج الإصلاح، هي خطوات لا تراجع عتها ولا بديل عنها سوى الصدام الحضاري أو ربما الانفجار العقائدي!


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
28-10-2020

الأربعاء، 9 سبتمبر 2020

طفلٌ صغيرٌ أحبَّ السينما!

في ظل أزمة كورونا وبروتوكولات التباعد الاجتماعي، غابت السينما عن المشهد، وتوقفت عجلة الانتاج السينمائي، بل إن العروض السينمائية للأفلام التي كان من المقرر أن تغزو شاشات العرض، تأجلت خوفاً من تقلص الأرباح وعدم تحقيق الدخل المرجو.
وهذا ما زاد من حجم الكآبة التي نعيش في عالمنا العربي، خصوصاً مع تزايد الأخبار المؤسفة والمخجلة التي تنهال على أسماعنا كل يوم، حيث بتنا بأمس الحاجة إلى نافذة ترفيهية نفرّج فيها عن همومنا ونتنفس من خلالها بعض الهواء المنعش!

وجدتني في خضم هذه الحالة، ودون أن أشعر، أغوص في أعماق ذكرياتي الطفولية عن السينما وعن عشقي لها، ودفعتني تلك الحالة للكتابة عنها.

ما زلت أذكر المرة الأولى التي دخلت فيها إلى عالم السينما والشاشة الكبيرة، وتلك مفارقة عجيبة ومضحكة، ما زلت أتندّر بها في جلساتنا العائلية، ذلك أن شقيقي غسان الذي يكبرني بنحو أربع سنوات، اصطحبني لمشاهدة فيلم "الرسالة" الشهير، وكنت وقتها طفلاً في الصفوف الابتدائية الأولى.
ورغم أني أذكر أن إدارة المدرسة قامت بتنظيم رحلة مدرسية لمشاهدة الفيلم في صالات السينما، إلا أن شقيقي وعدني بأن يصطحبني بنفسه لمشاهدة الفيلم، رغم أنه قد سبق له مشاهدته.

كنت حينها لا أعرف عن الفيلم سوى أنه يتحدث عن الإسلام وحياة الصحابة، وعبثاً حاول شقيقي شرح معنى كلمة "الرسالة" وارتباطها بالفيلم!

وبالفعل وصلنا إلى وسط البلد وكانت بوسترات الفيلم الكبيرة والضخمة تحيط بالمكان، ولكن حين ذهب شقيقي غسان لشراء التذاكر عاد إلي مسرعاً وهو يقول إن الفيلم قد انتهى عرضه، وبدأ عرض فيلم جديد ل "بروس لي" النجم المفضل له!

تملكتني المفاجأة والحسرة في آن، وجادلت شقيقي بأن بوسترات الفيلم ما زالت موجودة، وصور الفيلم على مداخل السينما، ولكنه بطريقة ما أقنعني بأن هذه هي الحقيقة، ولمّا كان له ذلك التأثير علي، ارتهنت بأمره، ولم يكن في اليد حيلة!.

دخلنا صالة السينما، وأُطفات الأضواء، كان المصدر الوحيد للنور هو الشاشة العملاقة التي سرعان ما استحوذت على حواس المشاهدين، بل إنها استحوذت على مخيّلة المشاهد، وسيطرت على انفعالاته ومشاعره، سعادته، ترقبه، خوفه، إثارته، تفاعله مع الأحداث، شعرت حينها بأني أشبه بالمنوّم مغناطيسياً!

في صالة السينما ينفصل المُشاهدُ عن واقعه، يرمي وراءه كل ما مرّ به في ذلك اليوم من تعب وإرهاق وإجهاد، ومشاكل، ينطلق في رحلة مثيرة ليس فقط مع أجواء الفيلم، بل في رحلة لا تقلّ إثارةً، إلى اعماق ذاته.

تلك الدهشة التي تملكتني وأنا طفل صغير يدخل قاعة السينما لأول مرة في حياته، ما زالت تصيبني في كل مرة أدخل فيها إلى قاعة السينما، وأجدني أتأثر وأتابع بشغف كل مشهد وكل جملة وكل كلمة، كل تعبير يصدر عن الممثلين، وأرهف السمع إلى الموسيقى التصويرية، وكل ما يحيط بتلك اللحظة.
في الحالة تلك أنفصل عن واقعي الحياتي، وكأني أسافر عبر الزمن، أتجاوز المكان فانتقل من مقعدي إلى داخل الشاشة الكبيرة وأعيش مع الشخوص هناك، أو أنكفأ على نفسي فأغوض في أعماقها، وأغرف من منهل تجاربي وانكساراتي وخيباتي، وأعاود صياغة الحبكة، فأضيف إليها من تجربتي الشخصية، او من أهوائي وأمنياتي، فتنطبع تلك المشاهد وتعلق في ذاكرتي، بعد أن أكون قد دمغتها بطابعي أنا، لذا تصبح جزءاً مني، أو أصبح أنا جزءاً من الحكاية!

ما زلت استمتع بمشاهدة السينما، وكأني ذلك الطفل الذي لم يكبر، أطلق ضحكة مدوية، أو أقبض بيدي على المقعد، أو تفلت الدموع من محبسها فلا أسيطر عليها!

بين الحين والآخر أذكّرُ شقيقي غسان بتلك الحادثة، ثم نتندّر عليها، ليس لأنها المرة الأولى التي يصطحبني بها إلى السينما، ولكن لأنه قد خدعني واصطحبني إلى فيلم "بروس لي" رغم أن فيلم "الرسالة" كان يُعرض في صالة أخرى، إذ أنه لم يستطع مقاومة مشاهدة نجمه المفضّل!
بل إن الأنكى من ذلك أن الفيلم الذي شاهدناه، لم يكن ل "بروس لي" الحقيقي، بل كان أحد الأفلام التجارية التي تستغل اسم النجم الشهير بعد وفاته للترويج للفيلم على انه آخر أفلام ذلك النجم، ولذلك كانت المفارقة المضحكة في تلك الحادثة مُضاعفة!

ما أحوجنا في الحقيقة لأن ننفصل عن واقعنا اليومي المعاش ولو لساعتين من الزمن نفرّغ بها طاقاتنا السلبية ونعيد شحن طاقتنا الايجابية، بحثاً عن جلب بعض المتعة لأنفسنا.

وما أحوجنا إلى ممارسة تلك الدهشة الطفولية في أحداثنا اليومية، والنظر إلى مجريات الأمور ربما بنظرة مغايرة، ما أحوجنا بالفعل للعودة إلى لحظاتنا الأولى، إلى تلك المتعة التي مارسناها في تجربة كل شيء لأول مرة، العودة إلى البدايات، إلى الاستمتاع بالشيء وتقديره، بدلاً من التعوّد عليه وعلى وجوده في حياتنا.


طفلٌ صغيرٌ أنا 
يُعاند شقاوة الحياة
يتلمسّ الطريق بخطوات مُتردّدة
يحومُ مثل فراشةٍ
تبحثُ عن ضوءٍ شارد
يسبحُ في فلك نجمةٍ عصيّة
------
أبحث عن بداياتي
عن طفلٍ صغيرٍ كان بداخلي
لعل مسّاً من الشِعْر يصيبني
 أو شيئاً من الجنون 
والفوضى
كي أستحق هذه الحياة
من جديد
كي أتلمّظُ طعم الحياة
 وألوكه
دون أن أفقدَ حلاوة المذاق
-----
طفلٌ صغيرٌ أنا
بخطواتٍ مُتردّدة ومتثاقلةٍ ........
أمشي
 
أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
8-9-2020

الثلاثاء، 18 أغسطس 2020

العالم العربي ينفجر ‏!


لم يكن انفجار مرفأ بيروت سوى انعكاس لانفجار الوضع السياسي والاقتصادي المعيشي في لبنان، بل وفي العالم العربي ككل، إنه استعارة لحظية لعدة انفجارات داخلية لم يُسمع صوتها.

"لقد أصبحت منظومة الفساد أكبر من الدولة!" هكذا قال "حسّان دياب" رئيس الوزراء المغلوب على أمره في خطاب الاستقالة، لقد تجاوز الفساد كل خطوط قوس قزح حتى وصل إلى القاع فارتد على نفسه ثانية فوقع الانفجار!

فهل تستفيد باقي الشعوب والأنظمة في المنطقة من الدرس قبل فوات الأوان؟!


الانفجار كان مفاجئاً في التوقيت، ربما، لكن الحدث العظيم كان قادماً لا محالة، فكل المقدمات والمؤشرات كانت حاضرة، والمسألة كانت مسألة وقت لا أكثر.


عندما انسحبت القوات البريطانية من سوريا الكبرى تاركةً وراءها حليفها الملك فيصل وثوّاره العرب، متيحة المجال للقوات الفرنسية للتقدم، كما فعلت في فلسطين لاحقاً متيحة المجال للعصابات الصهيونية هناك للاستئثار بالأرض، استطاع غورو القائد الفرنسي سحق الثورة العربية وطرد الملك فيصل سريعاً، ولكن ذلك لم يكن الأسوأ، إذ أن الاستعمار الفرنسي قام بتقسيم سوريا الكبرى (ومن ضمنها ما يعرف اليوم بلبنان) إلى مناطق طائفية وعرقية، وجعل لكل منها ما يعرف بمناطق الحكم الذاتي، تنفيذاً عملياً لاستراتيجيّة (فرّق تسدّ).

وكان لهذا التقسيم فعل السحر، إذ لم تقم قائمة للقوميّة العربية الحقيقية بعد ذلك وكل ما جنيناه هو شعارات فارغة أثبتت عقمها وفشلها الذريع على أرض الواقع، نجحنا من خلالها بإخفاء اختلافاتنا وانقساماتنا فقط، ومع أول شعلة للثورة السلمية في سوريا مع انتفاضة الربيع العربي، ظهر الانقسام الحقيقي، وبدا أن الثورة هي ثورة سنيّة في وجه العلويين والشيعة والصفويين، رغم أنها كانت ثورة اجتماعية ضد الطغيان والفساد، وزاد الطين بلّة دخول حزب الله على الخط، وإمعانه في تأكيد الحرب الدينية بترسيخه للطائفية.


أما في لبنان، فالأمر أكثر مرارة، إذا استمر الوضع فيه وكأن الاستعمار الفرنسي ما زال قائماً، وكأنه يحكم عن بعد، وهذا ما تأكد حين وقّع عشرات الآلآف على وثيقة تطالب بعودة "الانتداب الفرنسي" للبلاد مؤخراً، ولسان حالهم يقول لا نريد أن نتوحّد ولا نريد وطناً، ولكن على الأقل نريد حماية الطوائف في البلد، كي لا يمحق بعضنا بعضاً!!


إن الانفجار الذي شهده لبنان ما هو إلا انفجار في وجه الانقسام الطائفي، الذي أدى إلى تحكّم ملوك الطوائف بمصير البلد ومصائر الملايين من سكانه، والمشكلة أن اللبنانيين ما زالوا يتلاومون فيما بينهم إلى اليوم عن مسؤولية الفاسدين، يا أعزائي كلنا مسؤولون أو كلنا لصوص، لا فرق، طالما أننا نؤمن بالتمييز الطائفي والعرقي، ونقدّس الدستور الذي يقسّم المناصب والكراسي على أسس طائفية!!


لن تقوم قائمة للبنان أو لغيره من البلدان، سوى بالايمان بالتعددية وحرية التعبير والعمل على تأسيس دولة مدنية، على أسس وطنية لا على أسس تقسيمات الاستعمار وملوك الطوائف وزعامات الكهنوت والقداسات الفارغة. 


قبل أيام وقع الانفجار الآخر، في إعلان دولة الامارات اتفاقها مع دولة الاحتلال الصهيوني، على التطبيع بين البلدين وترسيخ أسس التعاون فيما بينهما.


في ظل الوضع الراهن وما تشهده الساحة الفلسطينية من خروقات مستمرة للاتفاقيات الدولية، وإمعان في سلب الشعب الفلسطيني من أدنى حقوقه، والإصرار على يهودية الدولة واغلاق الطريق أمام أي حل مستقبلي، لا يمكن وصف الخطوة الإماراتية نحو التطبيع سوى بالطعنة في ظهر الأمة العربية والقضية الفلسطينية.


أما تسويق هذا التطبيع على أنه جاء نتيجة نجاح إماراتي في وقف مشروع ضم الأغوار، فهو مغالطة مفضوحة، فمشروع ضم الأغوار قد توقف بالفعل، وهو مشروع مختلف عليه حتى في داخل أروقة الحكومة الصهيونية، كما ان مسألة تقديم جائزة لدولة الاحتلال مقابل تعهدها بعدم توسيع رقعة الاحتلال، لهو أشبه بمكافأة اللص وقاطع الطريق لإبقائه على حياة الضحية!


التطبيع الاماراتي الاسرائيلي هو جائزة مجانية لترامب ونتنياهو، وإنجاز يتفاخر به كلاهما، في محاولة يائسة لإنقاذ نفسيهما، أما المستفيد الأكبر من ذلك، فهو دولة الاحتلال التي استطاعت خرق الصف العربي وتمكّنت من ترسيخ مبدأ الشرق الأوسط الكبير "مرة أخرى" على نفس المبدأ الاستعماري القديم؛ دولة يهودية تعيش جنباً إلى جنب مع دول سنية وشيعية وعلوية ..الخ تجمعهم مصالح اقتصادية وسياسية، لا تخشى الدول فيه من اليهود الصهاينة "الودودين"، بل يخشون من أنفسهم!!.


مرة أخرى نقول إن التوقيت كان مفاجئاً، ولكن الانفجار لم يكن كذلك، بل هو انعكاس أيضاً لحالة التشرذم الذي يعيشه الوطن العربي، مع ذوبان القيم المشتركة وهموم الوطن العربي الواحد، وانشغال كل دولة أو دويلة بشؤونها الداخلية.

التطبيع كان قادماً لا محالة، وقد سبقته إرهاصات التعايش والتطبيع الثقافي والرياضي والتجاري، وتم التمهيد له من خلال الإعلام، والمسلسلات التي تتحدث عن تاريخ اليهود في المنطقة، وحقهم الانساني في الاستيطان والتعايش مع شعوب المنطقة، والمسألة كانت مسألة وقت لا أكثر، بل إن الخطوة الاماراتية ستكون بادرة تشجيعية لباقي الدول المترددة في إعلان تطبيعها!.


العالم العربي اليوم أصبح يشكّل حالة "لبنان الكبير"، وطنٌ تحكمه ملوك الطوائف، بانتظار الانفجار الكبير، الذي سنندب بعده حظنا ونتلاوم فيما بيننا، متجاهلين ومنكرين أننا جميعاً مسؤولون، أو أننا جميعا فاسدون، أو أننا جميعاً لصوص، لا فرق!!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

17-8-2020

الاثنين، 3 أغسطس 2020

التغوّل على الديمقراطية


تصر الحكومة اﻷردنية على تذكير الشعب بين فترة وأخرى بالعلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، فرغم التقارب الواضج بين الحكومة والشعب نتيجة التلاحم الذي تحقق في أزمة كورونا والنتائج اﻻيجابية التي حققها التعاون الوثيق والقريب بين فئات الشعب المختلفة ومؤسسات الدولة المدنية منها والحكومية، انقلبت الحكومة على تلك العلاقة الشفافة والحميمة باجراءات تعسفية ضد نقابة المعلمين ﻻ يمكن تفسيرها سوى باﻻستقواء على الشعب ومؤسساته المدنية واستعراضها للقوة.


ولعلنا هنا نسترجع كيفية تعامل وزارة الداخلية مع اعتصامات المعلمين في العام الفائت والتي لم تختلف عن ذات الطريقة اﻷمنية واستعراض القوة، بل والاستخفاف بكرامة المعتصمين، ولولا تصعيد النقابة ﻻجراءات اﻻعتصامات واﻻضراب عن العمل، ولوﻻ التكاتف المؤسساتي، والمناصرة الشعبية لقضية المعلمين العادلة ﻻنتصرت القوة على الحق والسلطة الأمنية على إرادة الشعب.


ولعل السؤال القديم المتجدد ما زال مطروحا: من يقود الحكومة؟ هل هو رئيس الوزراء الواعد بالشفافية واحترام إرادة الشعب ومكافحة الفساد والذي جاء الى رئاسة الوزراء استجابة ﻻنتفاضة الشارع ضد الأحوال المعيشية الصعبة وظروف الفساد العام في البلاد، أم وزارة الداخلية واﻷجهزة اﻷمنية ؟


السؤال منطقي ومشروع في ظل التناقض الواضح بين اﻷجندات والشعارات وبين الأسلوب اﻷمني والتهديد الذي تتصرف فيه الحكومة في الملفات الخاصة.


نقابة المعلمين من أكثر النقابات ديناميكية وتعمقا في المجتمع اﻻردني وتضم نحو مئة وعشرين ألف عضو، ينتخبون أعضاء نقابتهم بالتصويت الديمقراطي الحر، وهي بذلك تمثل إرادة الشعب أمام حكومة غير منتخبة يتم تعيينها بناء على تفاهمات بين مراكز القوى في الدولة وعلى رأسها بالضرورة الأجهزة الأمنية. 


لهذا كان التكاتف والتضامن مع نقابة المعلمين في قضيتها العادلة أمام الحكومة، ليس فقط لكونه مستحقا وعادﻻ بل لأنه كان متوقعا ومعلوما لكل من يحاول قراءة القضية بعيداً عن النظرة الأمنية، ولكن السلطة ترفض على الدوام فهم الشارع وتصر على التعامل مع كل القضايا الشائكة بنظرة أحادية واحدة "القبضة الأمنية وفرض السلطة على الشعب".


هذه النظرة الأمنية لم تتغير للأسف رغم كل الوعود بالتحوّل الديمقراطي واحترام حرية التعبير وإرادة الشعب، 

ومما يزيد الطين بلة، قرار النائب العام منع النشر في قضية نقابة المعلمين، في تجاوزٍ آخر للدستور وتغوّل جديد على حرية التعبير واستقلال إرادة الشعب.


من المؤسف أنه كلما اقترب الشعب من الحكومة ذراعاً ابتعدت عنه باعاً، وكلما قرر الشعب التجاوز عن كل اﻻخفاقات والعديد من اﻻهماﻻت واقناع نفسه أنه يعيش في أجواء ديمقراطية وحرية وأمن وأمان أفضل بكثير من غيره من الشعوب، ويقرر التعامل مع الواقع والقبول به، تصر الجكومة على تذكيره بطبيعة العلاقة التقليدية بين السلطة والشعب، بين السلطة والمثقف، وبين السلطة والمعارضة؛ القمع وفرض الرأي بالقوة تحت ذريعة الحفاظ على هيبة الدولة، أو التجاوزات القانونية والادارية، والتحريض، واتباع أجندات خارجية.


المشكلة أن الحكومة وأبواقها ممعنون في اﻻقتناع بأنهم ومن خلال استخدامهم للقبضة الأمنية هذه، يحرسون الوطن ويحفظونه من كل سوء، تماماً كما يفعل الأب المتسلط حين يقرّع أبناءه ويتنمّر عليهم ويعنّفهم ويعاقبهم ظناً منه أنه يحسن صنعا، ويقوّم من سلوكهم ويحسن تربيتهم!!.


قبل ان تسترسل رئاسة الوزراء ووزارة الاعلام، في وعودها بالحديث عن دولة حريات ودولة مؤسسات وعن دولة المواطنة، على السلطة أوﻻ وقبل كل شيء تغيير الفكر ذاته، تغيير العقلية والذهنية المخابراتية والأمنية، تغيير الشخوص الذين يعتقدون أن امتلاكهم للسلطات والصلاحيات واتخاذ القرارات، يخوّلهم استخدام كل ذلك لفرض آرائهم ومعتقداتهم التي تجاوز عنها الزمن منذ عقود.

إن وجود هؤلاء اﻻشخاص وهذه العقليات في هذه المناصب كفيل لوحده، باشعال فتيل اﻷزمات مع أي مواجهة مع المؤسسات المدنية، مهما كانت بسيطة أو عادلة وواضحة.


نقابة المعلمين ليست منزهة عن اﻻخطاء والتجاوزات أو الخروقات اﻻدارية، وأفرادها أيضا لهم ما لهم وعليهم ما عليهم ولكن تجاوزات السلطة جعلت من النقابة رمزاً لإرادة الشعب وللمواطن البسيط في مواجهة السلطة والتغوّل على الديمقراطية والحريات، وهذا ما يدفع الشعب للوقوف مع المعلم ومع نقابة المعلمين في مواجهة اﻻجراءات التعسفية وتكميم الأفواه.


اجراءات الاعتقال التي رافقت إغلاق نقابة المعلمين، وتعليق نشاطاتها، مخزية وﻻ تليق بمؤسسة مدنية تمثل كافة أطياف الشعب اﻻردني، عدا عن أنها في المقام الأول ﻻ تليق بالدولة والحكومة التي تمثلها.


وهذا يدفعنا للتساؤل، إذا كان تعامل الحكومة مع نقابة المعلمين بهذا الشكل، فكيف ستتعامل الحكومة لو كانت هناك أحزاب سياسية حقيقية وفاعلة تعارض نهج الحكومة وتقوم بتنظيم الاعتصامات واستخدام الوسائل الديمقراطية للتعبير عن رأيها؟!


وإذا كانت نقابة المعلمين الحالية تنتمي إلى تيار حزبي معين، فهذا ليس عيباً أو سبباً يستدعي التحريض عليها، ألسنا دولة ديمقراطية تدّعي تشجيع العمل الحزبي، والانتخابات الديمقراطية وحرية الرأي والتعبير؟! فلماذا يضيق صدرنا حين ينجح تنظيم ما من الوصول إلى مناصب القيادة في مؤسسات الدولة، عن طريق صناديق الانتخابات؟!


في النهاية نقول، إذا كان الحفاظ على هيبة الدولة هو السبب المعلن وراء هذه اﻻعتقاﻻت واﻻجراءات كما صرحت الحكومة فإن الحفاظ على هيبة الدولة لا يكون بالاستقواء على الشعب وممثليه ومؤسساته المدنية، بل بالحفاظ على حرية الرأي والتعبير، وتعزيز الوسائل الديمقراطية، والحفاظ على كرامة الوطن والمواطنين، بمحاربة الفساد والفاسدين الذين تغوّلوا على مقدرات الوطن والمواطنين، تكون بالانتصار لحقوق المواطنين البسطاء والضعفاء، ومعالجة مشاكل الفقر والبطالة، بدلاً من محاربة المواطن في لقمة عيشه، وملاحقة أصحاب البسطات والمشاريع الصغيرة!

للأسف ضاعت هيبة الدولة بأيديكم!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

2-8-2020

الجمعة، 24 يوليو 2020

الخوفُ من الغياب

في الفترة الأخيرة، عانيت من تجربيتين مؤلمتين للموت أو بالأحرى للفقدان، إحداهما لقريبٍ عزيز بمنزلة الأخ، والأخرى لصديق وزميل عزيز وعتيق، قريب من القلب.


رغم كل ما أتسلّح به من إيمان، وقناعة بأن الموت حقٌ وأنه نتيجة حتمية لوجود الحياة، وأنه بابٌ نعبر منه نحو الحياة الآخرة وجنة الخلود للمؤمن، إلا أن مأساة الموت تكمن في الفقدان ذاته، في الغياب، في خسارة تلك الصداقة الحميمة التي تربطنا بأقراننا وأحبائنا، من توقف الزمن، من النهايات، انتهاء ذكرياتنا وصداقاتنا ولحظات السعادة بل وحتى لحظات الشقاء والمعاناة التي جمعتنا، ناهيك عن الخوف من موتنا نحن، من غيابنا عن وجه العالم، ومغادرتنا إلى ذلك المصير المجهول، فتلك فكرة تختصر كل مخاوفنا وسائر الفوبيات التي ترافقنا في حياتنا، وصدق غسان كنفاني حين قال: (أرهقتني فكرة أن أموت... أن أنتهي، ويستمر كل شيء!!)


كنت في الثامنة والعشرين حين غادرنا أبي، ولا زلت أذكر كل تفاصيل تلك المأساة التي عشناها، ولا أخفي سراً إن قلت، إن آثارها ما زالت عالقة في نفسي أو لربما أخفيتها في عقلي الباطني وتركت لها النافذة مفتوحة لتسيطر علي في الخفاء دون أن أشعر.

مهما ادعيت بعد ذلك، أني تصالحت مع الموت كفكرة وتقبّلتها، ومهما تسلّحت بكل تلك الإيمانيات التي تدعو لتقبّل تلك الفكرة، ومهما اعتقدت بصحة كل الفلسفات التي تنظر إلى الموت كبداية حياة، وليس نقيضاً للحياة ذاتها، إلا اني أعترف أني في كل تجربة جديدة أخوضها مع الموت أجد نفسي عاجزاً عن تقبّله والتعامل معه من منظور فلسفي أو إيماني متعالٍ عن الحدث.


يحتاج الفرد فينا مهما وصل إلى فكرٍ فلسفيٍ راقٍ، وإيمانٍ راسخ، إلى جهد كبير ومتجدد كي يستمر في صراعه مع فكرة الغياب، والتغلّبِ على آثار تلك التجربة المريرة. يقول الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (توفي عام 2004) (المهمة الأساسية للفلسفة أن تساعدنا على تقبّل الموت كخسارةٍ مطلقة بلا تعويض ولا عزاء!).


الموت يدعونا لطرح كل تلك الأسئلة الجوهرية عن الحياة وأسلوب العيش، ويرغمنا على إعادة النظر في أسباب وجودنا، وإلى طرح الأسئلة المتعلقة بها ومناقشة تلك الأفكار قبل فوات الأوان.


الحقيقة أننا وفي خضم حياتنا نخوض تجربة الموت مراراً وتكراراً بشكل أو بآخر دون أن نلاحظ، نخرج منتصرين حيناً وخاسرين أحياناً؛ لحظات الوداع، الهجرة والفراق، كل الغيابات التي تؤدي إلى موت شيء ما في داخلنا، مع كل تجربةٍ من هذه التجارب يكبر خوفنا، ويتعربش على حيطان مُخيّلاتنا، نخاف من الوحدة من تغيير الوظيفة والسكن، نخاف من تجربة كل نمط جديد في الحياة، نخاف من المخاطرة، من السفر ... نخاف من الغياب.


وهكذا نعيش مع الموت "الصغير" ونقترب من تجربة الموت أكثر، مع فقدان كل عزيز، أو خسارة صديق أو غياب حبيب، فمع كل خسارة من هذا النوع يموت فينا شيء ما وتنكسر في داخلنا رغبة أو أمل خفي، وهكذا فأننا لا نموت دفعة واحدة، بل نموت ببطىء، ومع كل محطة نخلع عن ذواتنا رداءً من رداءات الحياة الزاهية، حتى إذا مضينا قدماً خلعنا رداء الخوف ذاته، وبتنا نحتمل الغياب، مستعدين له!!.


شئنا ام أبينا فالموت جزء لا يتجزأ من حياتنا، من طبيعتنا، بل جزء من أنفسنا، والانتصار عليه يكون في إتقان مهارة الحياة وتقبّل الموت كجزء منها، وتلك معادلة أعترف أنني برعت فيها مرات كثيرة، أو لعلي نجحت في خداع نفسي بها ببراعة كافية!


ابن عربي- الشيخ الأكبر للصوفيّة- يصف الحب بالموت الصغير في مقولته الشهيرة (الحبُّ موتٌ صغير) فالحب نهاية عهد وبداية عهد جديد، وكل ما هو زائل إنما هو خطوة على طريق الموت، أما الحب الدنيوي فهو خطوة تقرّبنا من الحب النهائي الأبدي (العشق الالهي) والذي يكتمل بالموت الكبير، لذا كان الفقدان والخسران والقلق والحيرة والاضطراب وكل ما يعتري نفس المحب العاشق الولهان، والألم عند الفراق والاغتراب، موتاً صغيراً!!


وكأني بابن عربي يقول إننا عندما نتقبل فكرة الموت النهائي، فهذا يعني أن نتقبل الميتات الصغرى التي نتعرض لها في الحياة، لحظات الوداع، الغياب، الفراق المحتوم ومن ثم الزوال، وما وجودنا في الحياة إلا موت صغير انتقل بنا من رحم أمهاتنا إلى فضاء هذه الدنيا الواسعة، (كانت الأرحام أوطاننا فاغتربنا عنها في الولادة).


وهكذا فإن الانتصار على الموت، والتغلّب على فكرة الغياب، لا يكون إلا من خلال احترام حياتنا وتقديرها، والتشبّث بأسبابها، على اعتبار أنها قيمة وجودنا، وهذا يتطلب اتقاننا لمهارة العيش، وفن ممارسة الحياة، وعدم الخوف من الميتات الصغيرة.


إن فن العيش أو فن ممارسة الحياة، يتطلب منا وضع هدف سام لوجودنا وقيمة عظمى نعيش من أجلها، كي لا نعيش على هامش الحياة، وهذا الهدف هو ما يجعل لحياتنا ووجودنا معنىً وليس مجرد مرور عبثي.


كما أن فن العيش يساعدنا على تقدير كل لحظات السعادة التي تمر بنا، وتقديرها وابداء الامتنان للحياة على منحنا إياها، ذلك يساعدنا على تقدير أصدقائنا واللحظات الجميلة التي تجمعنا بهم، يساعدنا على التعبير عن مشاعرنا بحرية، وصدق دون خجل أو استحياء، أو مكابرة.


إن إتقان فن العيش يعني أن نتقبل الحياة كما هي، بفرحها وترحها، حينها سنشعر بجودة الحياة، وبقيمة كل لحظة سعادة تمنحنا إياها الحياة، ولو كانت ضئيلة، وسوف نحتفي بتلك اللحظات إلى أقصى حد.


وهكذا، ومع إتقاننا لفن العيش، يقل مقدار خوفنا من الموت بمقدار ما نحرّر أنفسنا من الرغبة في الاستدامة الوجودية، وتعويض ذلك بتعزيز حضورنا من خلال إرثنا الفكري والانساني الذي خلّفناه، عندها وفقط عندها، سنهزم الموت، ولن نعاني من الغياب!



أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

23-7-2020

الخميس، 2 يوليو 2020

لم يعد وجودُكَ يُربكني!




في الثقافة الغربية يستخدمون عبارة (I love you, but I don’t like you anymore) للتعبير عن حالة عدم الرضا أو الاختلاف مع شخص عزيز، حيث يُبدي قائلُ هذه العبارة عدم تقبّله لتصرفات ذلك الشخص واختياراته، أو أسلوبه في الحياة، دون أن يفقد مشاعر الحب والعاطفة تجاهه.
هي حالة معقدة وغامضة من الأحاسيس، التي تعبر عنها هذه العبارة والتي قد تبدو للوهلة الأولى غير مفهومة وغامضة، إلا إنها في الحقيقة غاية في المنطقية والشاعرية في آن.

لا يتحرّج الفرد في الثقافة الغربية من التصريح والتعبير عن مشاعره وأحاسيسه، ويشعر أن ذلك هو حق من حقوقه كإنسان، لذلك ترى الإبن يصارح أباه أو أمه أو عمه أو صديقه بحقيقة مشاعره السلبية من عدم الاعجاب بقراراته وتصرفاته، أو حتى الاختلاف معه في وجهة نظر ما، دون أن يؤثر ذلك على المشاعر الانسانية الأساسية والأولية من حب الأهل أو عاطفة الأبوة والأمومة أو مشاعر الصداقة والشراكة العاطفية، أنا أحبك، لا شك في ذلك، ولكني لست راضياً عن كذا وكذا.

مشكلتنا في الثقافة العربية أننا عاطفيون لدرجة أننا لا نُفرّقُ بين عواطفنا وتصرفاتنا، فجميع أفكارنا وأفعالنا مبنية على العواطف والمشاعر، السلبية منها أو الايجابية، ونحن وإذ نتعامل مع الدوائر المحيطة بنا، بدءاً من العائلة الصغيرة مروراً بالعائلة الكبيرة وصولا إلى المجتمع ككل نتأثر سلباً أو إيجاباً بمشاعرنا وحالتنا العاطفية، ونتصرف بناء على حالتنا تلك.

على سبيل المثال، نحن نحب أبناءنا ونتغاضى عن سلبياتهم وسوء تصرفاتهم، بل لا نكاد نستوعبها أو نسلّم بخطأها، فأبناؤنا منزهون عن الخطأ أو الزلل، لذا نسعى جاهدين لتفسير أي انحراف أو سوء تصرف بتفسير إيجابي يبعد أي صفة سلبية أو تقصير عنهم، وعلى النقيض تماماً ننظر بعين النقد إلى تصرفات الآخرين وأبنائهم، وقس على ذلك.

أما حين تدبّ الخلافات مع أبنائنا، فلا نرى أية مشكلة في شتمهم وإهانتهم وتعنيفهم والتعبير عن كرهنا لهم، ودعائنا بأن يريحنا الله منهم! وهكذا تنقلب عواطفنا 180 درجة من الحب المفرط إلى الكره والبغض.

ولا ندرك أننا وإذ نفعل ذلك، نزرع هذا التناقض في نفوس أبنائنا من حيث لا نعلم، بل ونغرس فيهم مشاعر سلبية حول الحب والتربية لا تلبث أن تنعكس سلباً على حياتهم وتصرفاتهم وقراراتهم بل ومعاملتهم لنا حين يكبرون.

وعلى نفس المنوال، حين نختلف مع أحد المقربين، لا نعد نرى فيه سوى العيوب، ثم ما نلبث أن نقاطعه أو نعاديه، ونغلق أبواب قلوبنا فلا رحمة ولا عاطفة وكأنه عدو مبين، فإما الحب أو العداء!.

إن عدم قدرتنا على السيطرة على مشاعرنا السلبية والتحكم بها، وعدم قدرتنا كذلك على استيعاب مشاعر الآخرين واحتوائها يجعلنا مجموعة من البشر الفوضويين في علاقاتهم ومشاعرهم، غير قادرين على التفريق بين حب الآخر ومحاولة الاستحواذ والسيطرة عليه، أو بين مساعدة الآخرين على العيش بسعادة، وبين فرض مفاهيمنا نحن حول السعادة، بين النصح بالحسنى، وبين النقد الجارح والهدّام.

وهكذا يتحول الحب والحنان والعطف، ورغبتنا بتوفير أفضل سبل العيش والحياة لمن حولنا، إلى مجموعة من المشاعر السلبية والأوامر السلطوية الصارمة، التي تتحول إلى مشاكل إجتماعية مزمنة لا خلاص منها.

كم أتمنى أن نختلف مع أبنائنا وأهلنا ومعارفنا بطريقة حضارية راقية، لا نتخلى عن حبهم، ولكن نعبر لهم عن عدم رضانا عن تصرف معين أو موقف محدد، وإن حصل وأن إختلفنا معهم، فلنتفق على ألاّ يؤثر ذلك على علاقتنا، بحيث لا نخلط بين أصل العلاقة وتفرعاتها التي انحرفت عن الأصل، وقس على ذلك في باقي علاقاتنا الاجتاعية.

نشرت إحدى الناشطات هذه العبارة باللغة الانجليزية وتساءلت عن الترجمة الأنسب لها باللغة العربية، وهذا أول دليل على غرابة هذا التعبير عن ثقافتنا العربية، إلا أن الأغرب من ذلك هو أن أغلب التعليقات جاءت لتؤكد قصور مفهوم الحب في العقل العربي على العلاقة بين الرجل والمرأة، وهو ما يحول في أغلب الأحوال دون التعامل مع مشاعرنا بتلقائية وفقدان القدرة على التحكم بها والتعامل معها، لأننا لم ننشأ على تقبّل هذه المشاعر الأساسية والتعبير عنها.
أعجبني أحد التعليقات على التغريدة، رغم مسحة الانكسار التي فيه، وكان على النحو التالي: " لا زلت أحبك ولكنك لم تعد تبهرني ولم يعد وجودك يربكني!"

هذا التعليق بالذات، قادني للتأمل في حال مجتمعاتنا التي ترفض فكرة الطلاق وتعتبرها خطيئة أو قصوراً، بل إن معظم العائلات تعتبر الطلاق فضيحة، مما يجبر المتزوجين على تقبّل العيش مع شريك قد فقد شغف الحياة معه، ولم يعد يثير فيه أي مشاعر أو يحرك ساكناً، كي لا يتسبب بفضيحة أو يظهر بمظهر الفاشل عاطفياً، ولكم أن تعاينوا كم العلاقات السلبية التي نراها في مجتمعاتنا، وكم التناقضات النفسية التي تورثها هذه العلاقات للأبناء، وكل هذا في سبيل المحافظة على تقاليد المجتمع وعادات العائلة. ألم أقل لكم إننا فاشلون في إدارة مشاعرنا وعواطفنا!

لم أجد أبلغ من المثل الشعبي الذي يصوّر حالة العقل الجمعي العربي، والذي تربينا عليه وأصبح جزءاً من ثقافتنا (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب) فكل علاقاتنا وتحالفاتنا وتصرفاتنا مبنية على العاطفة، وعلى الحميّة للدم وصلة القرابة، أما المنطق والعقل والعدل والاحسان، فهي صفات خارجة عن الوعي قلّما تؤثر فينا، إلا في الخطابات والشعارات والدعايات الانتخابية.

أحلم ذات يوم أن أصحو على مجتمع لا يتحرّج أفراده من البوح بمشاعرهم والتعبير عنها بكل انسيابية وأريحية، وفي ذات الوقت لا يتورعون عن تقديم النصح وتقبّل النقد بشكل إيجابي دون أن يؤثر ذلك على علاقاتهم ومشاعرهم الأساسية، نحب بعضنا البعض ولكننا نختلف وننتقد بعضنا، ولسنا مرغمون على تقبّل كل تصرفاتنا وحماقاتنا. هذا ليس تناقضا إطلاقاً، بل هو عين المنطق، أحبك ولكن وجودك لم يعد يُربِكني!    

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
1-7-2020