الاثنين، 26 أغسطس 2019

أصدقاء ولكن غرباء!




في ظل الثورة التكنولوجية التي نعيش، والعالم الرقمي الذي بتنا جزءاً منه شئنا أم أبينا، اتخذت علاقاتنا الاجتماعية وروابطنا الإنسانية منعطفاً حرجاً، وباتت تعاني شيئا فشيئا من الاضمحلال العاطفي وندرة اللحظات الفارقة والعلاقات الحميمة.
فباتت حياتنا تقوم على مجموعة من اللحظات العابرة، واللقاءات الروتينية الخالية من العواطف وصدق المشاعر.
وكأن العالم الجديد الذي بات يعتمد على السرعة في كل شيء، السرعة في الاتصالات، والوجبات السريعة، والقهوة سريعة التحضير، ووجبات الدايت الخفيفة، قد جعلنا نبتعد أيضاَ (لا شعورياً) عن العلاقات "الدسمة" والأصدقاء الحقيقيين الذين يشاركونا لحظات حياتنا المؤثرة والفاصلة، ونكتفي على ما يبدو بالعلاقات العابرة "الخالية من الدسم"، واللقاءات السريعة "الخالية من الكافيين".

وفي ظل القفزات التكنولوجية التي لا تنتهي، والعالم الذي يدور حول فلك الفرد لا المجموعة، أصبحنا نتحول نحن أنفسنا الى ما يشبه الروبوتات في علاقاتنا، فأصبحت تطبيقات التواصل الاجتماعي بديلاً "شرعياً" عن التواصل الإنساني المباشر، واللقاءات الاجتماعية والشخصية، وهكذا انكفأنا على أنفسنا، وبات كل فرد يعيش في عالم خاص به، عالمه "الافتراضي"، الذي بات يعتبر "الصندوق الأسود" الذي يحتفظ فيه بخصوصياته وأسراره.

 الفيلم الإيطالي Perfect Strangers الذي صدر عام 2016 يسلّط الضوء على المفارقة الكبيرة بين علاقاتنا الاجتماعية في عالم الواقع وعلاقاتنا الخفية في عالمنا الرقمي، ويوضح الاختلالات التي نُعاني منها جراء التباين في شخصياتنا بين هذين العالمين.
تدور أحداث الفيلم حول سهرة تضم مجموعة من الأصدقاء، الذين يحرصون على اللقاء بشكل دوري في أحد بيوتهم العائلية. وفي هذه السهرة بالذات تقترح المستضيفة أن يكسروا حاجز الخصوصية فيما بينهم، متحدية إياهم أن يضعوا أجهزة الهواتف النقالة على الطاولة وأمام الجميع، وأن يقوم كل واحد منهم بقراءة كل الرسائل النصية التي تصله بصوت عال، وأن يقوم كذلك باستقبال كافة المكالمات الواردة على مكبر الصوت وعلى مسمع الجميع. وبين الإحراج والمكابرة يقبل الجميع التحدي مُكرهاً -لإبعاد الشبهات-وهكذا تبدأ اللعبة.

مع مضي الأحداث، تبدأ خطوط اللعبة بالتشابك والتعقيد وتتطور وصولاً إلى كشف جميع الخفايا التي يخفيها الصديق عن أصدقائه، والخبايا التي يخفيها الزوج عن شريك حياته، وتطفو على السطح أيضاً، العلاقات الشائكة داخل كل عائلة، وكل ما يحاولون إخفاءه عن نظرائهم.

ورويداً رويداً يتضح أن علاقة الصداقة المتينة التي تجمع بين هؤلاء الأصدقاء في العلن، ما هي إلا علاقات سطحية لم تبلغ العمق الكافي من التجربة ولا القناعة الفكرية اللازمة، وأن ميولاً شخصية لأحد الأفراد أو قناعة فكرية ما، أو حتى نزوة أو رغبة، كفيلة بأن تدبّ الخلافات والانشقاقات بينهم، بل إن لعبة رياضية قد تفرّقهم.

وعلى الجانب الآخر، نجد أن كل شريك له عالمه الافتراضي الخاص، بعيداً عن شريك حياته، وفي عالمه الخاص هذا يمارس ما يشاء من علاقات، ويحقق رغباته الشخصية من تواصل مع الجنس الآخر، مفترضاً ألاّ علاقة لهذا بعالمه الواقعي وأن هذا العالم الافتراضي لا يؤثر من قريب أو بعيد على علاقته العاطفية مع شريك حياته، او على مصداقيته واحترامه لنفسه، واحترام الآخرين له.

وتنتهي اللعبة بكشف المستور وإظهار كل ما كان مخفياً من علاقات ونزوات وممارسات وآراء، دون تجميل، بل على العكس فإن الحقيقة حين تنكشف فإنها تُظهر وجهها القبيح، وتترك أثراً جارحاً ومؤلما في النفس، مهما كانت التبريرات والأعذار، ومهما كابرنا على أنفسنا.

لعلّ جمالية العمل تتجلّى في المشهد الختامي، فبعد انتهاء السهرة ونشوب الخلافات وتعرّي الحقيقة، بحيث أصبح الواحد فيهم عارياً تماماً من كل الأكاذيب والمجاملات والادعاءات، وكأنه قد خلع قناعه وظهر بوجهه الحقيقي، يمضي مخرج الفيلم بالأحداث وكأن هذه السهرة كانت سهرة روتينية أخرى بدأت بالعناق والقبلات والمجاملات وانتهت بها كذلك، فهو يعيد ترتيب الأحداث وكأن اللعبة لم تحدث، ثم يعرض لنا النهاية الواقعية - الروتينية لتلك اللقاءات، حيث يعود كل شخص إلى عالمه الخاص، فهذا يحمل تلفونه النقال معه الى التواليت ليستقبل صورة مثيرة من صديقته في العالم الافتراضي، وآخر يستقبل مكالمة من عشيقته ويخبر زوجته أنه يتحدث مع مديرته في العمل، وذاك يخفي ميوله الجنسية، كما يتم ترتيب موعد للعب كرة القدم، واخفاء هذا الموعد عن صديقهم البدين، وهكذا تعود عجلة الحياة الطبيعية الى الدوران من جديد!

ومن خلال المشهد الختامي، يطرح العمل السؤال الأكثر تعقيداُ، ما هو العالم الحقيقي الذي نعيش؟ هل هو هذا الواقع المليء بالخداع والمجاملة والسطحية، والذي ندّعي فيه أننا نملك أصدقاءً حقيقيين نعرف كل شيء عنهم، أم ذلك العالم الخفي (الصندوق الأسود) المليء بالخبايا ونوازع اللاشعور والذي نجاهد أن نبقيه في الخفاء؟

يُذكر أنه قد تم إعادة إنتاج نفس القصة من قبل هوليوود وعدة شركات إنتاج عالمية أخرى، بعد نجاح هذا الفيلم، ولكن جميع تلك النسخ أو محاولات استنساخ الفكرة، لم ترتقِ في المستوى لإبداع وأصالة الفيلم الأصلي.

يتكشّف لنا في النهاية أن هؤلاء الأصدقاء هم مجموعة من الأصدقاء-الغرباء الذين يحملون الكثير من التناقضات، والاختلافات والتباعد في القيم الإنسانية، ولكنهم في النهاية يختارون بعقلهم اللاواعي أن يتصرفوا وكأنهم أصدقاء وشركاء حقيقيون، لأنهم لا يستطيعون التعرّي وافشاء خصوصياتهم بالكامل أو ابداء كل عيوبهم ونزواتهم من جهة، ومن جهة أخرى فإنهم لا يرغبون بتعقيد حياتهم وتحويلها إلى حياة فاضلة أو ملائكية بحتة. وهم بذلك يختارون (مثلنا تماماً)، أن يمارسوا إنسانيتهم، محاولين قدر جهدهم أن يقيموا التوازن بين عوالمهم المختلفة، وأن يجمعوا حولهم لفيفاً من الأصدقاء الحقيقيين في الواقع، الغرباء عن بعض خصوصياتهم!

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
25-8-2019

الاثنين، 22 يوليو 2019

نظرية (الجهلُ المُكتسب)




تقول نظرية دانينغ -كروجر المعرفية، إن الانسان يميل إلى تعظيم مقدار معرفته مقارنة مع مواطن جهله، وغالباً ما يعتقد أن مقدار معرفته هو أكبر بكثير من حجمها الحقيقي، على عكس اعتقاده بنقاط ضعفه (المعرفية أو المهارية والفنية).
وإن الانسان كلما تطوّر وتقدّم على سلّم المعرفة، كلما أدرك حجم نقصه المعرفي، واعترف بتواضع معرفته وخبرته.

باختصار، كلّما انخفضت فرص الفرد في المنافسة واكتساب المعرفة الحقيقية انخفضت قدراته ومؤهلاته، مما يؤدي إلى حالة من الجمود الفكري والوهم المعرفي (أنا خبير).

وإذا جاز لي البناء على هذه النظرية المعرفية، من واقع التطور الكبير الذي حصل في عالمنا مع بداية الألفية الثالثة وما بات يُعرف بالعالم الرقمي، وما أتاحه من تبادل للمعرفة الوهميّة، والحقائق المشوّهة القائمة على مغالطات منطقية فادحة، في جميع المجالات، فإني أقول إننا بتنا نعيش المرحلة الثانية من نظرية دانينغ-كروجر وسأطلق عليها مرحلة (الجهل المُكتسب).

تخيلوا معي أن السيد "زيد" لديه معرفة تُقدّر بنسبة عشرين بالمئة في حقل الاقتصاد على سبيل المثال، وهو راغبٌ في زيادة معرفته، ولكنه بدلاً من اتباع المنهج العلمي في البحث وطلب المعرفة، فإنه يقوم بالاعتماد على المصادر المتاحة التي تتميز بسهولة الوصول اليها وبساطة طرحها، غير آبه بمدى صحة المعلومات ودقتها وشموليتها، أو التيقن من صحة الحجج والبراهين، والتأكد كذلك من عدم اعتمادها على المغالطات، ناهيك عن أنه يفتقد القدرة أصلاً على التمييز بين زخرف القول، والبراهين المنطقية.

وفي إطار سعيه "الكسول" للمعرفة، فإنه يتعرّف من خلال هذه المصادر على مجموعة من المهتمين في هذا المجال والذين يفوقونه في المعرفة ولكنهم يعانون من حالة الوهم المعرفي (تأثير دانينغ-كروجر)، فيتأثر بأفكارهم ويأخذ عنهم دون تمحيص أو تحقيق، وينقل عنهم دون الرجوع الى مصادر أخرى، وهكذا بمجرد أن يقولوا قال فلان وورد في الكتاب الفلاني، صدّقهم ونقل عنهم لرغبته في اكتساب المعرفة السريعة السهلة.

ثم تحصل المفارقة، حين يقوم زيد -بالاعتماد على معرفته المكتسبة الركيكة- بمُعارضة نتائج أبحاث علمية ودراسات موثقة، ويقوم بالاستدلال على ذلك بمجموعة من المغالطات والحجج التي نقلها عن غير علم، وفي المقابل يقوم بنشر نظريات اقتصادية غير صحيحة مبنية على افتراضات خاطئة وغير منهجية.
وبحكم الثورة الرقمية التي نعيش، تصبح هذه النظريات والمعرفة (غير الحقيقية) متاحة للجميع، فيأتي شخص آخر (عمرو) والذي لا يمتلك أي أرضية معرفية في هذا المجال باستثناء الرغبة في ادعاء المعرفة، فينبهر بآراء زيد ويقتنع بها ثم يبدأ بنقلها ونشرها دون أن يعطي نفسه الفرصة للاطلاع على الآراء الأخرى أو البحث البسيط عن الحقيقة، ويصبح في النهاية من أشد المدافعين عنها!

وهنا تكتمل دائرة نقل الجهل بدلا من نقل المعرفة، وننتهي باكتساب الجهل بدلا من اكتساب المعرفة.

أسقِطوا اسم زيد على أدعياء الثقافة والمعرفة في عالمنا العربي، ممن يعشقون الظهور ويعانون من نرجسية مفرطة ويعيشون حالة الوهم المعرفي.
وبدلاً من حقل الاقتصاد، قارنوا ما قلناه بما يحدث في عالم السياسة والاعلام، أو التدبّر في القرآن، أو الأدب والشعر والفن وغيرها من المجالات، ثم حاولوا أن تتأملوا معي المساحات التي تُفرد في الاعلام (العربي والغربي) لهذه الفئة، والمنصّات التي توفرها شبكات التواصل الاجتماعي لتمرير مشاريعهم وأفكارهم السطحية التي تفتقر للمعرفة الحقيقية ولشروط التحقق العلمي والمنطقي، ثم انظروا إلى تأثير ذلك على أغلبية الأفراد من شاكلة (عمرو)!

في خضم هذا العالم السريالي الغريب، ومع انعدام وجود حافز للبحث العلمي والتدقيق والبحث وراء المعلومة، تصبح غالبية الجماهير بمثابة (مُتلقّين إيجابيين) لهذا الجهل الذي يتنكّر على هيئة المعرفة.

يقول المفكر الأمريكي كليفورد جيرتز (إن اعتقاد الفرد بأمر ما دون أدلة كافية هو أمر مُضرّ بالمجتمع كله، بل هو عدوى تنتشر في المجتمع. وإنه لمن الخطأ دوماً وفي أي مكان الاعتقاد بشيء دون براهين منطقية).

قديماً، كان الجهلُ سبباً في انتشار أفكار الايمان بالسحر والخرافة والشعوذة والرجم بالغيب والعلاقة السببية للأحداث بالمعجزات، واليوم جاء الجهلُ من باب ادعاء المعرفة والاعتقاد بأن ما نؤمن به هو الحقيقة الواضحة الساطعة، فانتشرت السذاجة والسطحية والشعبوية.

كلما كانت الفجوة المعرفية كبيرة في المجتمع، كلما زادت الفرصة في رواج الفكر غير المنطقي القائم على المغالطات وادعاء المعرفة، وكلما راجت أيضاً الحقائقُ غير العلمية وغير الدقيقة بسبب بهرجتها وغرابتها والتقدير الذاتي "الوهمي" الذي تتركه في النفوس.

في الختام أوجز القول بما يلي: كلما زادت رقعة المعلومات وتنوّعت مصادر الوصول اليها بحيث تصبح متاحة لجميع الأفراد على اختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم المعرفية، دون مراعاة أصول البحث العلمي لبناء المعرفة، ودون استخدام البراهين المنطقية لإثبات الحقائق، كلما زادت فرصة الحصول على معلومات غير موثقة وحقائق غير علمية وترويجها على حساب الحقائق العلمية والمعلومات الموثقة، وذلك لسببين، الأول هو الكسل في طلب المعرفة والميل للاعتماد على التلقّي والنقل. والثاني هو الانجذاب لكل ما هو جميل وبرّاق وخارج عن المألوف، دون النظر الى ميزان الصواب والخطأ أو الحق والباطل.

وكلما أتيح للمعرفة الزائفة الفرصة لرؤية الضوء، كلما انتشرت مثل العدوى بين فئات المجتمع، نظراً للرغبة البشرية الأساسية في حب التملّك (امتلاك المعلومة والتنظير بها بغض النظر عن صحتها) والاعتقاد اليقيني بأن هذه الملكيّة، تزيدُ من قيمة الفرد في المجتمع وتجعله محطّ اعجابِ وتقدير الآخرين. مما يؤدي في النهاية الى اكتساب الجهل ورواجه، مقابل انخفاض موازٍ في اكتساب المعرفة الحقيقية ورواجها، وضمور في التنمية الحقيقية.

هذه الحالة الوهمية من المعرفة والتي في حقيقتها اكتساب متزايد للجهل، أدّت كما هو واضح للعيان إلى تواري الأدباء والمفكرين الحقيقيين وقلة الاهتمام بهم لصالح مجموعة من أدعياء الثقافة ذوي الوصفات السريعة والجاهزة، وأصحاب الكاريزما الجذابة، كما أدّت إلى انتشار التطرّف والعصبية والطائفية، في ظل شبه غياب للنظريات المعرفية القادرة على تجديد الفكر والارتقاء بالحضارة الانسانية، وأدّت أيضاً إلى تواري الفنون الحقيقية عن الضوء، مقابل ازدهار الصخب والضجيج والاحتفاء بالسذاجة والسماجة.

باختصار لقد خدمت الثورةُ الرقميةُ "الرويبضة" على حساب المُفكّر والعالِم والأديب، فانقلبت الموازين، وضاعت الحكمة، وسقطت عروش الفكر أمام جحافل الجهل.  


أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
21-7-2019

الاثنين، 15 يوليو 2019

من وعود العاصفة إلى وعود حسن نصر الله!




أطلّ علينا السيد حسن نصر الله على قناة المنار، وكأنه الناطق الرسمي باسم إيران في المنطقة، والمُبشّر بزوال إسرائيل على يدها.
وهذا يقودنا إلى إعادة طرح السؤال الجدلي مجددا، هل أجندة حسن نصر الله وميليشيات حزب الله هي اجندة وطنية لبنانية؟ قومية عربية؟ إسلامية؟ أم إيرانية بحتة؟ وهل تتوافق هذه الأجندة مع قضايا فلسطين والوطن العربي مرحلياً أم منهجياً واستراتيجياً؟

شعبية حسن نصر الله

لطالما تمتّع السيد حسن نصر الله بشعبية جارفة في العالم العربي قبل أحداث الربيع العربي وبالتحديد قبل الأزمة السوريّة، وكان هناك شبه إجماع على تأييد حسن نصر الله أو حزب الله، والايمان التام بعقيدته السياسية والنضالية.
وكان ذلك منطقياً وطبيعياً إلى حد كبير، بالنظر إلى طبيعة الصراع العربي الإسرائيلي وحقيقة تواجد قوات الاحتلال داخل الحدود اللبنانية وحرب الاستنزاف "الباردة" المُعلنة بين الطرفين.
ولكن الذي حصل بعد ذلك كان منافياً للمنطق ولكافة شعارات المقاومة والحرية، فالتيار الوطني التحرري المُقاوم تحوّل لتأييد نظام ديكتاتوري ظالم في سوريا، لأسباب سياسية بحتة ولحفظ مصالح إيران في المنطقة، مُخالفاً بذلك آمال شعوب المنطقة في التحرّر وإعادة تشكيل النظام السياسي الذي يحفظ لهم كرامتهم ويحمي أوطانهم من الفساد.

والمفارقة الأكبر في سياسة حسن نصر الله وحزب الله، هو تحوّلها من حركة تحررية ثورية إلى ميليشيات مسلّحة لا تخضع لأي مساءلة أو سلطة داخل لبنان، وتشارك في ذات الوقت في اللعبة السياسية، وهو تناقض خطير، فإما أن تحافظ على إرثها المُقاوم، وتتخذ من حرب الاستنزاف وممارسة عمليات المقاومة ضد العدو الصهيوني، منهجاً لها، أو تلقي بسلاحها وتنضم إلى الأحزاب السياسية مع الخضوع التام للدولة.

مزارع شبعا ومسمار جحا

ولعلّكم تذكرون قضية مزارع شبعا، التي كانت أبلغ وأعمق من قصة مسمار جحا، فبعد انسحاب قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني، أعلن نصر الله أن إسرائيل ما زالت تحتل مزارع شبعا وهي أراضٍ لبنانية، وطالما أن هناك أراضٍ لبنانية محتلة فإن حزب الله لن يسلّم سلاحه للدولة وسيبقى على حالة صراع مع إسرائيل.

المُفارقة أن مزارع شبعا وحسب قرارات الأمم المتحدة هي أراضٍ سورية، غير أن سوريا لا تقول ذلك، أما لبنان فتطالب بترسيم الحدود، وبين حانا ومانا ضاعت لحانا، وبقي مسمار جحا والذي يُعطي حسن نصر الله شرعية حمل السلاح!
 
راية قضية فلسطين

لطالما، استخدم حسن نصر الله راية الوطنية وقضية فلسطين بكل براعة، ونجح في التأثير في عواطف القوميين والوطنيين رغم كل المغالطات والسذاجة والسطحيّة في الطرح، ولم يخرج لقاؤه الصحفي الأخير عن ذلك، ففي الوقت الذي تعاني فيه إيران من أزمة دولية نتيجة تخلي إدارة ترامب عن الاتفاق النووي، وتجاوز إيران لبنود الاتفاق، قام حسن نصر الله بتحويل القضية الى مواجهة بين إيران وإسرائيل!

وهو بذلك يؤجج عواطف الشارع العربي بنيّة خداعه وتصوير أزمة إيران الحالية وكأنها أزمة مع إسرائيل بسبب احتلالها لفلسطين!

وحقيقة القول، إن أزمة إيران الحالية ليست بسبب إسرائيل وليس بسبب خلاف ايران مع أمريكا وسياستها في المنطقة، بل من أجل استعادة أمجاد الحضارة الفارسية الاستعمارية، وهي في سبيل ذلك تقوم بالضحك على الذقون بقصة فلسطين والقضايا الوطنية، واستعداء الخليج.

تذكّروا أنه في اللحظة التي سُمح لإيران بعقد اتفاق مع دول الغرب في سبيل استمرار مشروعها النووي لم تتردد في استغلال الفرصة، وحين يُعرض عليها التعاون مع إسرائيل في مشروع مستقبلي في المنطقة لن تتردد كذلك، طالما أنه يخدم مصالحها الخاصة.

مشروع إيران-حزب الله في المنطقة هو خدعة كبيرة، ورغم وضوح نواياه وتوجهاته الواضحة للعيان، إلا أن البعض ما زال يعتقد أنه المشروع الوطني الوحيد في المنطقة، نظراً لحالة الانبطاح التي يعاني منها العالم العربي، وسقوط كل الحركات الثورية والتحررية في مستنقع الاستسلام والخضوع، مما سهّل الأمر على حزب الله الضلوع بهذا الدور المسرحي لملء هذا الفراغ.

وإذا كنا كعرب، نخشى من قدرة إسرائيل النووية، فالأجدر أن نعمل على امتلاك هذه القوة، أو على أقل تقدير، العمل على تفكيك القوة النووية الإسرائيلية ضمن تحالفات دولية أممية، وبطرق ديبلوماسية، أما القيام بدعم دولة أخرى لديها طموح ضارب في التاريخ لامتلاك هذه القوة التدميرية، فهو ضربٌ من الجنون.

تناقضات خطاب حسن نصر الله

للدلالة على مدى التناقض والمغالطات التي احتواها خطاب حسن نصر الله الأخير، فقد ذكر بدايةً أن إيران وأمريكا لا تريدان الحرب، ثم قام باستخدام راية فلسطين للتلاعب بالعواطف فقال إن إيران ستضرب إسرائيل وبقوة إذا نشبت الحرب، بالإضافة إلى مصالح أمريكا في المنطقة، ثم ختم بالقول إنه إذا عرفت أمريكا ذلك فإنها لن تفكّر في الحرب!

وترجمة هذا الكلام هو التالي:
لا يوجد حرب، ولكن عليكم أيها الوطنيون العرب، ألاّ تنسوا أن إيران تُمثّل حلف المقاومة في المنطقة، وعليكم بالتالي أن تقفوا معها وتؤيدوا حقها في المشروع النووي!
أما الرسالة الخفيّة إلى دول الخليج، عليكم أن تلجموا جنون ترامب، لأننا سنقوم بضرب مصالحكم في المنطقة إذا حصل اعتداءٌ علينا، وليس أي شيء آخر!

وعود من العاصفة

في بدايات الحركة الثورية الفلسطينية عُرفت المقاومة حركياً ب "تنظيم العاصفة"، فظهر فصيل مسلّح باسم قوات العاصفة، وكانت أول قناة إذاعية تحمل اسم (صوت العاصفة)، كما نشرت أشعار واناشيد تتحدث عن وعود الثورة، منها قصيدة وعود من العاصفة لمحمود درويش، والتي غنّاها مارسيل خليفة فيما بعد، وهذه الوعود الثورية، هي التي أبقت على الأمل في صدور أبناء جيلي باستمرار المقاومة والعمل الثوري التحرري إلى حين بلوغ النصر والتحرير.

وبعد ان تخلّت قيادة منظمة التحرير عن راية النضال، وقبلت باتفاقيات الاستسلام في أوسلو، وتحوّلت بذلك من حركة ثورية إلى سلطة حكم محلي بإدارة الاحتلال، خلت الساحة لكل من يرغب باستلال هذه الراية ورفعها على المسرح السياسي، ونظراً لرغبة الجماهير في رؤية هذه الراية ترفرف ولو على المسرح، فإن وعود حسن نصر الله ستجد لها آذاناً صاغية وكفوفاً تُصفّق، وأفواهاً تزأر!   

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
14-7-2019

الأربعاء، 10 يوليو 2019

(ليبرا) عملة فيسبوك الرقمية موضوع الساعة






قرّر الكونغرس الأمريكي قبل أيام إيقاف الإجراءات التشريعية لعملة الفيس بوك الرقمية الجديدة (ليبرا Libra) داخل الولايات المتحدة، كما طالب الكونغرس إدارة فيس بوك وقف مشروع التطوير الخاص بهذه العملة.

وبرّر الكونغرس قراره بالحاجة الى دراسة التشريعات القانونية للعملة الرقمية الجديدة، ومدى تأثيرها على استقرار الأسواق العالمية، والعملات النقدية، معتبراً عملة الليبرا، مصدر خطورة على الاقتصاديات العالمية، ومُنافساً للدولار الأمريكي.

وكانت إدارة فيس بوك قد أعلنت في شهر حزيران الماضي، عن نيتها إصدار عملة (ليبرا) الرقمية منتصف العام القادم، ضمن تحالف كبير مع شركات عالمية أخرى، وسط توقعات عالية باكتساح سوق العملات الرقمية، بل ومنافسة العملات النقدية العالمية وعلى رأسها الدولار الأمريكي.

إذاً، نحن على أعتاب حرب اقتصادية كبيرة، قد تكون بداية النهاية للاقتصاديات الكلاسيكية والعملات النقدية، وبداية تحرر الأسواق من التبعيّة الاقتصادية لدول بعينها، والاحتكام إلى الدولار الأمريكي في معاملاتها.

ولتوضيح ذلك نقول، إن هذه العملة ستكون مُعزّزة بسلّة عملات ولها أصول دولية (غير تابعة لدولة واحدة) من الودائع والأوراق المالية الحكومية، وبذلك سيكون سعرها مستقراً في السوق، ولن تكون خاضعة للمُضاربات أي الارتفاع والانخفاض الشديدين في الأسعار، وهذا بالذات أول أسباب نجاحها المتوقع، على عكس عملة البيتكوين الحالية التي تعتمد على المُضاربة، وغير المُعزّزة بسلّة عملات ولا تحظى كذلك بأي غطاء نقدي.

لذا لن يكون اقتناء عملة الليبرا بهدف الكسب المباشر، بل لاستخدامها في المعاملات المالية، مما يعزّز من مكانتها كعملة رقمية بديلة عن العملات الورقية وغير خاضعة لإجراءات البنوك الروتينية.

وبمجرد طرح فيسبوك لتطبيق (محفظة كاليبرا) المُخصّص لإدارة عمليات العملة الرقميّة الجديدة، سيكون بإمكان مستخدمي الفيس بوك شراء هذه العملة وتخزينها في محافظهم، ثم القيام بعمليات التحويل النقدي فيما بينهم برسوم منخفضة جداً، لا يمكن للبنوك العالمية منافستها، لا من حيث العمولة ولا من حيث سهولة الاستخدام.
وبما أن فيسبوك تمتلك الواتس اب وانستغرام، فسيكون بالإمكان التحويل من خلال هذه القنوات أيضاً وبكل سهولة ويسر.

وهذا سيتيح لفيس بوك استهداف شريحة غنية جدا لا تمتلك حساباً بنكياً أو تُفضّل عدم استخدام البطاقات الائتمانية، حيث ستتيح هذه العملة الرقمية الجديدة الفرصة لمالكيها القيام بعمليات الشراء عبر الانترنت والدفع الالكتروني والتحويل المالي عن طريق عملة الليبرا مباشرة دون الحاجة الى حساب بنكي أو بطاقة الكترونية.
وتشير دراسات أعدّتها فيسبوك إلى أن نصف البالغين في العالم لا يملكون حسابات بنكيّة فعّالة.


وقد قامت فيسبوك لغاية هذه اللحظة بتوقيع اتفاقيات مع ثماني وعشرين شركة عالمية لإنشاء تحالف عالمي يتبنّى هذه العملة الجديدة تحت اسم Libra Association، على رأسهم ماستر كارد وفيزا وباي بال وأوبر، بالإضافة الى شركات تكنولوجيا عملاقة، مما يشكل حماية كبيرة لهذا العملة، ويعتبر داعماً كبيراً لها في الأسواق العالمية، وقنوات الدفع الالكتروني.

ومن هنا يتضح الخطر الكبير الذي تشكلّه هذه العملة على الأسواق العالمية، وبالأخص على الولايات المتحدة وعملتها الدولار الأمريكي، التي تعتمد وبشكل كبير على الطلب العالمي على الدولار واستقرار سعره في الأسواق العالمية، بحيث يعتبر العملة رقم واحد في العالم من حيث الطلب والعمليات المالية العالمية.

إلا أن هذا العرش العالمي سيكون مهدداً بالانهيار إذا ما نجحت عملة الليبرا في رؤية الضوء وكسب ثقة الحكومات والمؤسسات العالمية، بحيث تنجح رؤية فيس بوك في أن يتجه العالم رويداً رويداً لأن يصبح مجتمعاً غير نقدي.

إلا أن التحدي الأكبر الذي تواجهه عملة الليبرا يكمن في المجتمعات الفقيرة التي لا تعتمد على التكنولوجيا ولا يوجد لديها بنية تحتية متقدمة، سواء من حيث امتلاك الأفراد أجهزة هواتف متطورة أو إمكانية الاتصال بالإنترنت، واستخدام قنوات الدفع الالكترونية.

ويتمثل التحدي الآخر في حماية الخصوصية وضرورة ضمان السرية وعدم اختراق الحسابات والمحافظ الالكترونية.
وليس ببعيد عن الذاكرة فضائح فيسبوك مع خرق خصوصيات العملاء وكشف محتوى ملفاتهم ومشاركته مع شركات أخرى، مما يؤثر سلبا على ثقة العملاء في القيام بعمليات مالية من خلال تطبيقات فيس بوك.

كما أن العملات الرقمية بشكل عام تعيد إثارة التساؤل القديم المتجدّد، الذي أثارته ثورة تكنولوجيا الاتصالات من قبل، عن مستقبل العالم فيما إذا تحوّل في اعتماده بشكل كليّ على تكنولوجيا الاتصالات، وخطورة ذلك لا سيّما مع ازدياد فرص تعرض هذه التكنولوجيات لأعطال وانقطاعات عن الخدمة بسبب كوارث طبيعية أو حروب وغير ذلك، مما يؤثر سلباً على استقرار الدول والاقتصاديات، ومستوى الأمان المعيشي لدى الأفراد.

تخيّل أن تستيقظ يوماً فتجد أن ثروتك بالكامل موجودة على خوادم شركة أجنبية متعددة الجنسيات، أصولها النقدية موزعة في بنوك العالم، وأنت لا تملك اتصالا بالإنترنت، أو ان خوادم الشركة قد توقفت عن العمل لظرف طارئ!

في النهاية، لا بد من القول إن الثورة الرقمية في عالم الاقتصاد قادمة لا محالة، ولا مجال لإيقافها، وإن جميع المحاولات القائمة حاليا من الكونغرس وبعض الدول الأوروبية لتعطيل هذه الثورة تهدف في الأساس إلى كسب الوقت لإعادة تنظيم أسواقها بشكل يسمح لها حماية مصالحها.
ومن جهة أخرى فإن محاولات الضغط والرفض، تهدف إلى كسر إرادة هذا التحالف الجديد، ومحاولة السيطرة عليه والتحكّم في سوق العملة الرقمية بشكل يضمن مصالح هذه الدول، ويفتح لها مجال احتكار السوق الاقتصادية الجديدة بعيداً عن التنافس مع خصوم جدد.

وفي حال فشلت هذه الدول في مساعيها تلك، فإن العملة الرقمية ستكون سلاحاً اقتصادياً وسياسياً في يد بقية العالم، قد تكون خطورته أشد من امتلاك الأسلحة النووية!
   
 أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
9-7-2019

الجمعة، 28 يونيو 2019

عجوزٌ خمسينيّ!







التقيتُ قبل أيام مع مجموعة من أصدقاء الدراسة، الذين ترافقت معهم في المرحلة الثانوية، وما زالت تجمعنا علاقة صداقة وطيدة إلى اليوم، رغم أن الحياة قد باعدت بين مساراتنا وأماكن إقامتنا.
ورغم أننا نلتقي كل عام في الاجازة الصيفية، إلا أن لقاءنا الأخير هذا، كان مميزاً، إذ أنه صادف بلوغنا الخمسين من العمر، بعضنا قد جاوزه بقليل، والبعض الآخر يقف على أعتابه.
وقد غلب هذا الحدث على حديثنا، وغلّف أجواءه، حيث تبادلنا الحديث تارةً عن أزمة منتصف العمر، وتارةً عن مفارقات عمر "الخمسين"، وما يلازمه من شعور بالعجز عن مجاراة سباق الزمن الذي لا يتوقف، ونزيف السنوات الذي لا نملك إيقافه أو تعطيله.

وقد أخذ حديثنا طابع التندّر، إذ أننا في داخلنا لا نشعر بأي تغيير قد طرأ علينا، يتناسب مع تقدّمنا "الخارجي" المهول في العمر، أو ازدياد أرصدتنا في بنك الأعمار، فروح الشباب فينا ما تزال متقدة، وحسّ الطفل في داخلنا ما زال مشاكساً، كما أن نظرتنا إلى الحياة ما تزال متفائلة ومشغولة بمشاريع كبيرة وطموحات وآفاق بعيدة، ولكن هذا كله يتوقف أمام نظرة الآخرين وخصوصاً نظرة جيل الشباب الذي قد يرى فينا جيلاً قد أفل زمانه!

ومن هذه المفارقات التي تحدثنا عنها، مصطلح "يا عمّو" الذي بدأنا نسمعه حديثاً ونستهجنه، خصوصاً إذا ما جاء من إحدى الفتيات الحسناوات في مقتبل العمر!
أو الاستغراب الذي تثيره رغبة أحدنا في ممارسة هواية ما، تبدو كأنها لا تليق بجيلنا.
أو تلك الصدمة التي ترتسم على وجوهنا عندما نطالع خبراً في إحدى الصحف، يحتوي على عبارة "عجوزٌ خمسينيّ" تصفُ أحد الأشخاص الذي أنهى العقد الخامس من حياته!!

يقول الكاتب خالد محمد توفيق عن أزمة الخمسين من العمر: (فجأة وجدت أنني في الأربعين، الخامسة والأربعين، ثم سن الخمسين! هذه أرقام لم أسمع عنها قط ولم أتخيل أنها ممكنة.
بدأت أشعر بالذعر عندما لاحظت أن الباعة يقولون لي «يا حاج»، والمراهقون يقولون لي «يا عمو»، ثم ازداد الأمر سوءاً عندما صار الأولاد المهذبون يقفون لي في وسائل المواصلات كي أجلس مكانهم)

أذكر موقفاً طريفاً لأحد الزملاء السابقين في العمل، والمعروف بخفة دمّه، حيث توجه بالسؤال إلى أحد الموظفين ذات يوم: كم بلغت من العمر؟، فأجابه أنا في منتصف الثلاثينات، فقال: لو اقتطعنا عمر الطفولة غير الواعية من عمرك لأصبح عمرك الآن عشرون عاماً!
ثم أردف قائلاً: ولو خصمنا من سنواتك العشرين هذه، ما قضيته في نومك وحاجاتك الفسيولوجية، لوجدنا أن عمرك الحقيقي هو عشر سنوات فقط! وهنا تناثرت الضحكات على الحضور، وتصاعدت القهقهات.

في البدايات كنت أقصّ هذه الحادثة على أنها طُرفة للفُكاهة لا أكثر، ولكني في الحقيقة وبعد سنوات تأملت فيها، فوجدت فيها نظرة فلسفية عميقة، أستطيع القول بناءً عليها، إن عمر الانسان يُقاس بما أنجزه لا بما عاشه، والسؤال الذي يجب علينا طرحه على أنفسنا مع كل رأس سنة خاص بنا: ماذا أنجزت هذا العام، وماذا حققت من الأهداف؟ كم كتاب قرأت، وكم تقدّمت معرفياً؟ ماذا أضفت من فائدة او معرفة إلى حيوات البشر، بمعنى آخر: كم تقدمت على سلّم الحياة، لا على خط الزمن؟!
والاجابة باختصار، هي عمرك الحقيقي.

لعل هذه النظرة الفلسفية للحياة، قد تعمّقت لدي بشكل أكبر وأوضح مع بلوغي الأربعين من العمر، ولا شك أن العقد الرابع من العمر يُعدُّ مرحلة فاصلة لكل إنسان، وعلامة فارقة في حياته. إنه مرحلة الحكمة والنضوج الفكري وتمام العقل.
والملاحظ أن نظرة المرء إلى الحياة تختلف مع بلوغ الأربعين، حيث تبدأ مرحلة المراجعة النقدية لما مضى من التجارب، وللمخزون المعرفي من قيم ومبادئ عليا، وهنا تلعب الخبرة والحكمة دوراً حيوياً في إعادة صياغة الأهداف، وإعداد برنامج متجدد من الأهداف والطموحات الكبيرة.

وقد خصّ الله سبحانه وتعالى، هذا العمر بالذات بالحكمة ورجاحة العقل، في قوله: (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

وللدلالة على هذا الأمر، فإني لم أقتنع بصحة الحكمة الشهيرة التي قالها الكاتب الدكتور واين داير "عندما يتاح لك الاختيار بين أن تكون على صواب أو أن تكون لطيفاً، اختر أن تكون لطيفاً"، ولم أتمكن من تطبيقها والالتزام بها إلا في عمر الأربعين، وحينها اكتشفت أنها رغم كونها بسيطة في الطرح، ولكنها عميقة في المعنى، بل وعظيمة الأثر أيضاً.

وأنا أخطو خطواتي الأولى في العقد السادس من العمر، مُخلّفاً ورائي خمسة عقود كاملة من الزمن، ما زلت أنظر الى المستقبل كما نظرت إليه قبل عقد من الزمان، أحمل بداخلي أحلاماً عظيمة، وأرى في نفسي طاقة نابضة، وروحاً من الشباب لم تذبل، ما زلت مصرّاً على تجاهل النصائح التي تحجب عني ألوان الحياة الزاهية، وتضعني في قالب "العجوز الخمسيني"، فعمري الحقيقي هو ما أشعر فيه بداخلي، وما يستطيع جسدي أن يعاونني عليه، لا ما أراه مكتوباً في شهادة الميلاد. وفوق هذا فإني أكثرُ اهتماماً بعمري "الحقيقي" على سلّم الحياة، لا على خط الزمن.

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
27-6-2019





الجمعة، 14 يونيو 2019

الفرقُ بيننا وبينهم!

لن آتٍ بجديد إذا قلت، إننا نعيش فجوةً حضارية هائلة بين دولنا العربية ودول العالم المتقدم، وإننا كشعوب عربية، يحلو لنا دوماً لوم الحكومات والأنظمة على السياسات الفاشلة، التي أوصلتنا إلى هذا القاع.
وربما يحلو للبعض أيضاً، أن يعزو أسباب هذا التخلّف الحضاري إلى الاستعمار الحديث، ونظريات المؤامرة.
ولكن احداً لا يعلّق الجرس، ويشير إلى تقصير الأفراد والمجتمعات والمؤسسات المدنية والأهلية على حد سواء، ودور ذلك التقصير، في ازدياد هذه الفجوة الحضارية.

والأنكى من ذلك، أننا وعلى مستوى الوجه الآخر للحضارة وأقصد الأخلاق الإنسانية والقيم المجتمعيّة، نعيشُ في الحضيض أيضاً، ولكننا رغم كل شيء، نصرُّ على تجاهل هذه الحقيقة، والادعاء باننا أفضل الأمم، وأحبّها إلى الله، وأننا وإن كنا خسرنا سباق الحضارة والإنجازات العلمية والتفوّق الأممي، فإن مجتمعاتنا ما زالت الأفضل أخلاقاً ومراعاة للقيم الإنسانية، وهذا ما يدحضه الواقع جملةً وتفصيلاً.

في العام الماضي، قمت بشراء مجموعة من الكتب العربية عبر موقع الكتروني لأحد أكثر المتاجر العربية رواجاً وشهرةً، وبما أني معتاد على طلب عدد من الكتب يكفيني مخزوناً للقراءة لمدة لا تقل عن ستة شهور، فقد فوجئت بأن أحد الكتب التي قرأتها متأخراً، فيه نقصٌ لأكثر من خمسةٍ وعشرين صفحة، وأن الصفحات التي تلي ذلك النقص مقلوبة رأساً على عقب!
قمت بمراسلة المتجر "العربي" وشرحت له المشكلة، وبعد انتظار عدة أيام جاءني الرد بطلب إثبات المشكلة، من خلال تصوير الصفحات وتبيان النقص، وتصوير الصفحات المقلوبة، مع تصوير الكتاب والرقم المتسلسل ....إلخ.

وهذا الطلب ليس بجديد على ثقافتنا العربية، فجميع مؤسساتنا الرسمية وغير الرسمية، تتعامل مع المواطن العربي بسياسة (أنت كاذب إلى أن تُثبت صدقك) على عكس باقي العالم المتحضّر، الذي يفترض أن الانسان صادقٌ مؤتمن، وأن الكذب والخداع هو الاستثناء.

ورغم أن ثمن الكتاب لا يتجاوز عشرة دولارات، إلا أن أسلوب الرد استفزّني، وبالفعل قمت بتصوير كل ما هو مطلوب، وأرسلته عبر الإيميل.
ويبدو أن سياسة المتجر انتقلت بعد ذلك إلى سياسة "التطنيش"، أي إهمال الطلب، إلى أن يملّ المستدعي وصاحب الحق ويتغاضى عن متابعته!
بعد عدة أيام من الانتظار والمتابعات، طلبوا مني تزويدهم بفاتورة الشحن، رغم أن جميع المعلومات متوفرة لديهم في النظام.
أسلوب التعجيز أو "التطفيش" هذا، ليس بغريب ولا مستهجن في عالمنا العربي، أذكر أني ذهبت الى أحد البنوك ذات مرة لفتح حساب، فطلبوا مني إحضار نسخة من فاتورة الكهرباء لآخر ثلاثة شهور، وعبثاً حاولت فهم العلاقة بين فاتورة الكهرباء وفتح حساب بنكي!
وحين أخبرتهم أني لست مُقيماً في البلد وأني أسدد جميع فواتيري من خلال قنوات الدفع الالكترونية وأن الفواتير الورقية لا تصلني أصلاً، طلبت مني الموظفة الذهاب الى شركة الكهرباء واستخراج الفواتير الورقية، بحجّة أن هذه هي التعليمات!

بالعودة الى المتجر العربي للكتب، وبما أني كنتُ مُصرّاً على تعويض الكتاب، فقد بحثت في أدراجي القديمة واستخرجت الفواتير اللازمة، وبعد طول انتظار جاءني الرد الحاسم والنهائي، بالاعتذار عن تزويدي بنسخة جديدة من الكتاب أو تعويضي عن ثمنه، بسبب مضي أكثر من ستة شهور على ارسال الكتب!

حينها، فقدت العزيمة على الاستمرار في الجدل البيزنطي، ورددت عليهم مُعقّباً: إذا كانت سياسة المتجر عدم قبول اعتراضات على الطلبات التي مر عليها مدة ستة شهور، لماذا قمتم بطلب تصوير الكتاب وإثبات النقص فيه، ثم طلبتم الفواتير المتعلقة به، هل كانت محاولة لاختبار صدقي؟

هذه التجربة قفزت الى الذاكرة من جديدة قبل نحو شهرين، حين اشتريت كتاباً في الإدارة، من أحد المواقع الأجنبية، ونظراً لحاجتي السريعة للكتاب قرّرت ولأول مرة شراء نسخة الكترونية من الكتاب، على أن أقوم بطباعته بعد ذلك كسباً للوقت، ولكن المفاجأة كانت أن خيار الطباعة محدود بعشرين صفحة فقط، عدا عن عدم إمكانية نسخ الكتاب على أي من وسائط النقل، أو نقل محتواه الى ملف آخر.

راسلت المتجر حول المشكلة، وجاءني الرد خلال أقل من 24 ساعة، حيث أوضحوا لي أن شروط الطباعة تختلف من كتاب الى كتاب حسب اتفاقية دار النشر، وأن هذا الكتاب يخضع لسياسة تقضي بعدم طباعة أكثر من عشرين صفحة في اليوم الواحد، أما بالنسبة لنقل محتوى الملف ومشاركته فهي سياسة عامة للموقع، تمنع نقل المحتوى للحفاظ على حقوق الملكيّة.

بعد هذا الرد "الاحترافي"، لا أخفيكم أني فقدت الأمل وشعرت في تلك اللحظة أني قد أضعت سبعين دولاراً أمريكيا عبثاً!
ولكني حقيقةً شعرت بالغبن، فقمت بالرد عليهم وفي نفس اليوم، بأني لم أطّلع على هذه الشروط حين اشتريت الكتاب، ولم يتم توضيح ذلك على الموقع قبل عملية الشراء، ولو كنت أعلم هذا لما أتممت عملية الشراء.
وفي اليوم التالي جاءني الرد الصاعق من المتجر: نأسف على الازعاج الذي حصل لك، وعن انطباعك السيء عن التسوق من خلال موقعنا. هل ترغب بإعادة المبلغ إلى بطاقتك الائتمانية أم الاحتفاظ به للشراء في المستقبل؟

لم يستغرق الأمر مع المتجر الغربي (في بلاد الكفر) لأكثر من 48 ساعة لإعادة المبلغ الذي يساوي أضعاف ثمن الكتاب الذي خسرته في المتجر العربي، رغم أنه كان بالإمكان تحميلي المسؤولية لجهلي في التعامل مع الكتب الالكترونية، ليس هذا فحسب بل إني احتفظت بالنسخة الالكترونية من الكتاب دون مقابل!

لم تنتهِ الحكاية هنا، فبعد حل مشكلة الكتاب الالكتروني، قمتُ مباشرة، بشراء نسخة ورقية من نفس الكتاب من متجر متخصص آخر، ووصلني الكتاب المطلوب عن طريق الشحن السريع. وبعد نحو شهر وصلني ايميل من ذات الموقع يعلمني فيه بإعادة مبلغ (دولار واحد) الى حسابي وذلك نتيجة فروقات في احتساب أجور الشحن، حيث أوضحوا لي أن سياسة الموقع هي احتساب قيمة الشحن حسب المنطقة الجغرافية التي يقطن فيها طالب الشراء، ويحدث أن يكون هناك بعض الفروقات تبعاً لبلد الإقامة!
نعم، أعادوا لي دولاراً واحداً!

كنت أتمنى ان تقوم المعاملة بيننا كأفراد وكمؤسسات، على أساس الثقة والاحترام والصدق المتبادل، وأن نتحلّى بالأخلاق التي نتشدّق بها في منتدياتنا، ونحشوها في كتبنا ومنشوراتنا، وتملأ فضاءنا في العوالم الافتراضية.

حبذا، لو راجع كل فرد فينا منظومته الأخلاقية في التعامل مع الآخرين، ومعايير النزاهة الشخصية والإخلاص في العمل، قبل أن نتوجه باللوم إلى الحكومات والأنظمة، فالريادة الحضارية تعتمد على حضارة الأفراد أولاً، كما أن أخلاق الأفراد والمجتمع تُعتبر انعكاساً لأخلاق الدول.

الفرق بيننا وبينهم، أننا حصرنا الأخلاق والنزاهة والإخلاص والصدق في التعامل، في الخُطَب والشعارات والكتب التاريخية، بينما هم جعلوا منها أنموذجاً حيّاً.
 

أيمن يوسف أبولبن
كاتب ومُدوّن من الأردن
13-6-2019