من أبرز الأشخاص الذين لعبوا دوراً مهماً في تهيئة الأجواء الديبلوماسيّة لغزو العراق وإسقاط نظام صدام حسين، كان وزير الخارجيّة الأمريكية "كولن باول" ذو الأصول الجامايكيّة، الذي قاد المعركة السياسيّة للإدارة الأمريكية في المحافل الدوليّة وأروقة الأمم المتحدة لكسب تأييد دولي للحرب أو تجنّب معارضتها على أقل تقدير.
لم يُفلح "كولن باول" في ضمان تصويت مجلس الأمن لغزو العراق ولم ينجح كذلك في كسب تأييد دولي داعم للولايات المتحدة -عدا بريطانيا- في حربها ضد العراق، وبعد أشهر قليلة من سقوط بغداد تبيّن زيف إدعاءاته في إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل وإرتباط نظام صدام بالقاعدة، ونتيجةً لذلك رُسمت صورته في أذهان الكثيرين بصفته "محامي الشيطان" الذي ما ينفك عن تقديم الشواهد والبراهين للدفع ببراءة موكّله رغم معرفة الجميع ومعرفته هو شخصياً بثبوت إدانة مُوكّله.
انسحب "كولن باول" من الساحة السياسية بعد انتهاء فترة رئاسة بوش الأبن الأولى، وقام بتدوين مذكراته في كتاب لاحقاً، وأدلى بشهاداته عبر الصحف ووسائل الإعلام المختلفة، محاولاً توضيح موقفه الشخصي المُعارض للحرب ومحاولاته تغيير موقف الرئيس بوش والتي ذهبت أدراج الرياح، ويصف ذلك قائلاً أن أصعب المهام التي قام بها كانت محاولة إقناع العالم بضرورة غزو العراق وقلب النظام هناك والبحث عن مُسوّغات وأدلة دامغة عن إمتلاك العراق أسلحة دمار شامل، وفي ذات الوقت محاولة ثني الرئيس عن خوض الحرب - خلف الكواليس المغلقة - من خلال تعديد الأضرار التي ستلحق بالإدارة الأمريكية ومسؤوليتها المباشرة عن رعاية العراق بعد سقوطه. وفي هذا الصدد يقول "باول" انه في أحد الإجتماعات حذّر الرئيس بوش من تحمّل الولايات المتحدة كل تبعات انهيار النظام العراقي ودخول البلاد في حالة فوضى عارمة نتيجة انهيار مؤسساته، وذكّره بأن الزبون الذي يكسر بضاعة ثمينة داخل محل تجاري فإنه سيتحمّل ثمنها (إذا كسرتها فهي لك) !!
اللافت للإنتباه أن "باول" لم ينسحب من منصبه بعد فشله في تغيير دفة الأمور لصالح الحل السياسي وتشديد العقوبات وتكثيف حملات التفتيش الدوليّة بدلاً من خيار الحرب، ولم يُبدِ كذلك أي تحفّظ على استمراره في أداء مهمّته رغم تعارضها مع قناعته الشخصيّة (حسب قوله)، والأعجب من ذلك أنه لم يُبدِ ندمه على ذلك فيما بعد، بل كان يفتخر بأدائه لواجبه تجاه الوطن وتجاه رئيسه على أتمّ وجه رغم اختلافه معه حول الحرب !!
فشلُ الإدارة الأمريكيّة في استصدار قرار مؤيد للحرب من مجلس الأمن، وأخذها زمام المبادرة العسكريّة المنفردة بعيداً عن أي تحالف دولي أو حتى مشاركة حلف الناتو، جعل من غزو العراق حرباً غير شرعيّة، ويترتّب على هذا أن كل تبعات الغزو تعتبر جرائم حرب يعاقب عليها القانون الدولي، فما هو سر إصرار الإدارة الأمريكيّة على المضي قدماً في هذه الحرب رغم كل التحذيرات والنصائح والمحظورات ؟! بالتأكيد كان هناك العديد من التحليلات السياسيّة والإقتصاديّة التي تربط بين قرار الحرب ومصالح أمريكا الإقتصادية والعسكريّة بالإضافة الى السيطرة على منابع النفط، ولكن هل هذه هي الحقيقة الكاملة ؟!
يزداد المرء حيرةً حين يعلم أن الرئيس بوش الإبن وفي أعقاب هجمات سبتمبر طلب من إدارته التحضير لغزو العراق وقلب النظام هناك، فكان رد الإستخبارات العسكرية أن لا دليل على تورط العراق في إعتداءات سبتمبر وأن كل الدلائل تشير إلى تورّط القاعدة، ولكن بوش أصرّ على ضرب العراق قائلاً أن نظام صدّام هو راعي الإرهاب في المنطقة، فما كان من أجهزة الإستخبارات إلا أن قالوا لا يمكننا في المرحلة الحالية تبرير أي حرب نخوضها في العراق، حربنا القادمة يجب أن تكون في أفغانستان. وبعد جهد جهيد تم إقناع الرئيس بوش أن يبدأ بحرب القاعدة في أفغانستان على أن يتم التحضير لضرب العراق بعد ذلك وإيجاد المُسوّغات القانونية لها !!
في ذكرى سقوط بغداد، ما زالت الذاكرة العربيّة عابقةً بذكريات مؤلمة لن يمحوها تقادم الزمن، وما زالت تبعات الحرب تؤثر في صياغة مجريات الأحداث على أرض الواقع، وتشكيل الحالة العامة للأوضاع في المنطقة، وتبقى نتائج الحرب من دمار وأعداد قتلى وتشوّهات للأحياء، شاهدة على أكبر جريمة حرب في العصر الحديث، وما زال جرح جرائم سجن أبوغريب نازفاً إلى يومنا هذا، وذكرياته ما زالت تدمي القلوب، تسريبات صور أبو غريب عرّت فجاجة وبشاعة الجيش الأمريكي الذي يدّعي نشر الحريّة والديمقراطيّة ودفاعه عن حقوق الإنسان. لن تستطيع إعترافات "باول" وغيره أو حتى إعتذاراتهم إن وجدت، محو هذه الذكريّات المؤلمة، ولن يشفي غليل كل من عاصر هذه الحرب إلا القصاص العادل من كل من كان له دور في هذه الحرب.
كما فشل "باول" في تجميل صورة الإدارة الأمريكيّة وإقناع المحافل الدوليّة بشرعيّة الحرب، فقد فشل مرّة أخرى في تجميل صورته في مخيّلة الناس، حيث بات من الواضح ان صورة "محامي الشيطان" ستظل تطارده، لتذكّره بأنه شريكّ في الجريمة، وعليه تحمل مسؤولياته في انهيار منظومة الإستقرار في المنطقة نتيجة حمق إدارته وعجرفتها.
عزيزي كولن باول، يبدو أن رئيس بلادك قد أخذ بنصيحتك، فهو لم يكتفِ بتدمير وكسر كل ما هو ثمين، ولكنّه قتل صاحب المتجر وعائلته وأهل الحي كي ينفذ بجريمته !!
أيمن أبولبن
14-4-2015