مع بداية هذا العام توجهت السلطة الفلسطينية بطلب عضوية إلى عدة منظمات دولية على رأسها المحكمة الجنائية الدولية، ويبدو أن دولة الإحتلال الإسرائيلي وحليفتها الولايات المتحدة تدركان جيداً أهمية إنضمام الفلسطينيين إلى الجنائية الدولية مما دبّ الرعب في صفوفهم، فقامت الولايات المتحدة كعادتها بمحاولة ثني الفلسطينيين عن محاولات الإنضمام هذه وهدّدت بوقف المعونات إذا أصرّوا على هذه الخطوة، وكان الموقف الإسرائيلي أكثر شراسةً حين صرّح نتنياهو بأن إسرائيل لن تسمح أبداً بمُثول جنودها وضباطها أمام الجنائية الدولية، وقام بالحجز على أموال الفلسطينيين من عائدات الضرائب والتي تُقدّر بحوالي مائة مليون دولار، والتي تُشكل ما يَقرُب من نصف دخل السلطة، وسيستمر الضغط الإسرائيلي بعد قبول عضوية فلسطين رسمياً إبتداءً من بداية إبريل.
الإنضمام الى الجنائية الدولية خطوة محفوفة بالمخاطر وأمام القيادة الفلسطينية العديد من العقبات يجب تجاوزها إذا أرادت إستغلال هذه العضوية على أتم وجه في سبيل تحقيق إرادة الشعب الفلسطيني في إقامة دولة فلسطينية مستقلة، ويبقى السؤال هل ستستغل السلطة هذه الفرصة بأفضل شكل ممكن، وتتلافى أخطاءها السابقة أم أنها ستستغلها لتحقيق مآرب سياسية محدودة والعودة إلى طاولة المفاوضات من جديد؟!
أول هذه التحديات هو عدم إنضمام إسرائيل لمحكمة الجنائيات الدولية، وبهذا تفقد المحكمة الحق في التحقيق في جرائم على أراضي فلسطين المحتلة بإستثناء أراضي السلطة وغزة، وهذا يقودنا إلى العقبة الثانية وهي الإنشقاق الفلسطيني الذي ينعكس سلباً على القضية الفلسطينية من ناحية القوانين والأعراف الدولية، ويخلق مخرجاً لإسرائيل يتمثل في الطعن في خضوع غزة لحكم الدولة الفلسطينية وهو ما يعني عدم إختصاص المحكمة في جرائم الحرب على غزة، وهي الورقة التي يعوّل عليها الفلسطينيون !
عقبة أخرى تعترض الفلسطينيين وهي وجود مادة أساسية في قانون الجنائية الدولية تتيح لمجلس الأمن تأجيل النظر في أي قضية لمدة سنة كاملة، وهي مدة كافية لنسف أي قضية قانونية من أساسها، وكلنا يعلم تأثير الولايات المتحدة على مجلس الأمن وقراراته.
العقبة الأخرى هي قضية الإستيطان التي شَتّتّت الفلسطينيين وجعلت من الدولة الفلسطينية المفترضة مجموعة من الأراضي المُمزّقة والكانتونات الصغيرة والذي يعني بشكل أو بآخر إستحالة أقامة دولة فلسطينية على حدود عام 67، فكان من الطبيعي أن يضع الفلسطينيون نصب أعينهم طرح هذه القضية على الجنائية الدولية وإستثمار الرفض الدولي للإستيطان في سبيل الضغط على إسرائيل لتفكيك هذه المستوطنات داخل أراضي الضفة الغربية وخصوصاً القدس الشرقية، ولكن الحقيقة المُرّة أن على السلطة الفلسطينية إقناع المحكمة الجنائية أولاً بأن إقامة المستوطنات يعتبر من جرائم الحرب كي تقبل بمناقشة القضية، وهو ما يبدو بعيد المنال بالنظر إلى النصوص المختصة بتعريف جرائم الحرب.
من وجهة نظري الشخصية وأرجو أن أكون مخطئاً، يبدو لي أن السلطة الفلسطينية أو "فتح" عموماً لم تتعلم من أخطائها الماضية وما زالت ترتكب نفس الأخطاء الفادحة التي أضرّت بمصلحة القضية الفلسطينية، من حيث التفرّد في القرار والإستئثار بقرارات مصيرية دون إجماع وطني أو مشاورات مع أصحاب الإختصاص، وهو ما تجلّى في إعلان التوقيع على طلب الإنضمام للمنظمات الدولية مؤخراً في غياب فصائل فلسطينية عديدة منها حماس والجبهة الديمقراطية والجبهة الشعبية وغيرها، ودون حتى الرجوع الى القاعدة الجماهيرية وإستمزاج آراء القانونيين وأصحاب الإختصاص وما أكثرهم.
ما تفعله السلطة الفلسطينية حالياً يذكرني بمأساة إتفاقية أوسلو الكارثية، ففي الوقت الذي ضم فيه الوفد الإسرائيلي آنذاك خبيراً في القوانين الدولية وأكاديمياً متخصصاً في التاريخ والنزاعات الدولية، إستأثرت فتح بإدارة المفاوضات السرية وأخفتها عن باقي الفصائل وتجاوزت بذلك الوفد الفلسطيني الرسمي لمباحثات واشنطن والذي ضم شخصيات من الداخل الفلسطيني تحظى بإجماع وطني وشعبية واسعة. وخلى الوفد السرّي من أي متخصص في شؤون القانون الدولي أو النزاعات الدولية، وكان الأمر لا يعدو كونه إجتهادات شخصية ومواقف إرتجالية، ومن الطبيعي أن تؤدي هذه الأسباب كلها إلى إتفاق لا يضمن الحل النهائي ولا يتحدث عن إنهاء الإحتلال وعودة اللاجئين، واكتفى بوضع ترتيبات الحكم الذاتي الإنتقالي وليس دولة مستقلة، بينما في المقابل إعترفت المنظمة بدولة إسرائيل (على 78% من أراضي فلسطين)، وتعهدت بوقف المقاومة المسلحة وإعتقال كل من يخالف ذلك، وهو ما عبّر عنه المفكر "إدوارد سعيد" بالقول (( منظمة التحرير الفلسطينية حوّلت نفسها من حركة تحرّر وطني إلى ما يشبه حكومة بلدية صغيرة، مع بقاء ذات الأشخاص في القيادة ))
من مفارقات أوسلو أيضاّ أن الوفد الإسرائيلي قدّم ملفاً للجانب الفلسطيني يحتوي على مائة سؤال حول أهداف المفاوضات وما يمكن تقديمه من تنازلات من جانب الوفد الفلسطيني وما هي الخطوط الحمراء، والعلاقة مع الدولة الاسرائيلية الخ القائمة من الأسئلة التي قد تتفتق بها مخيلة أي مُفاوض، والمفاجأة لم تكن أن الوفد الفلسطيني أجاب على كل هذه الأسئلة بوضوح وصراحة ودون تحفظ، بل كانت المفاجأة أن الوفد الفلسطيني لم يطرح سؤالاً واحداً على الوفد الإسرائيلي، وهو ما يشير بوضوح الى إنعدام الرؤية والإستراتيجية الفلسطينية وهو ذات حالنا اليوم.
أخشى ما أخشاه أن يكون الإنضمام الى هذه المنظمات الدولية خطوة أجتهادية غير مدروسة، خاصةً أننا دخلنا معركة مع دولة مؤسسات، تأخذ بالأسباب ولا تتهاون في التعامل مع أي معضلة دولية أو قانونية، وإذا لم نكن على نفس القدر من الكفاءة فإننا نكون قد حكمنا على أنفسنا بالفشل قبل ان نبدأ الصراع.
يبدو في نهاية الأمر، وحسب المعطيات على أرض الواقع أن السلطة الفلسطينية قد إستنفذت كافة أوراق اللعب المتاحة وهي حالياً تضع نفسها على المحك، وستجد نفسها مُجبرةً على تنفيذ تهديدها بحل السلطة وإعادة الوضع إلى ما قبل إتفاقية أوسلو، إن عاجلاً أم آجلاً، سواءً برغبة حقيقية في إرغام إسرائيل على تحمّل مسؤلياتها كدولة محتلة، أو تحت ضغط جماهيري شعبي واسع، بعد تكرار خيبات وإنكسارات القيادة الفلسطينية.
أيمن أبولبن
12-1-2015