الأحد، 30 نوفمبر 2014

عيد الشكر، القصة التي لم تُروَ



إحتفل الأمريكان قبل يومين بعيد الشُكر  Thanksgiving"، والذي يصادف يوم الخميس الأخير من شهر نوفمبر من كل عام، وهي مناسبة يستذكر فيها المواطن الأمريكي أجداده الإنجليز القُدامى الذين إكتشفوا القارة الأمريكية وسبروا أغوارها وحرثوا أرضها ونعموا بخيراتها، وإحياءً لمناسبة أول موسم حصاد بعد وصول الإنجليز الى أراضي أمريكا، تجتمع العائلة الأمريكية في هذا اليوم من كل عام على مائدة العشاء وتتناول طبقَ الديك الرومي " Turkey bird " الذي يذبحونه قرباناً الى الله بهذه المناسبة، ولا يبقى مع نهاية هذا اليوم سوى ديك رومي واحد على قيد الحياة يتم تقديمه للرئيس الأمريكي الذي يعفو عنه ويُبقي على حياته.



كان المُكتشفون الأوائل للقارة الأمريكية يُسمّون "الحُجّاج" فقد كانوا يعتبرون هذا العالم الجديد بديلاً عن أورشليم والأرض المُمقدّسة لذلك أسموه بادىء الأمر "بلاد كنعان"، ومن هنا جاء الجانب الديني لهذه المناسبة وهو شكرهم لله على نجاتهم من ظُلم "فرعون بريطانيا" ونجاتهم من رحلة التيه في البحر ثم وصولهم إلى "أرض الميعاد".
   لقد علّمتنا الحياة أن التاريخ يكتبه المنتصرون، وأن لكل رواية أو حكاية، هناك قصة لم تُروَ، تُمثّل وجهة نظر الضحية، وعادةً ما تكون هذه الرواية هي الجانب المُظلم الذي يحاول المنتصر اخفاءه، فما هي حقيقة "عيد الشكر" لو قُدّرَ للضحية أن تروي قصتها، والضحية هنا، هو بالتأكيد ذلك الرجل الهندي مالك الأرض الأصيل، الذي تم إجلاؤه وتصفيته والتضحية بسلالته كي ينعم الرجل الأبيض القادم من رواء البحار، بخيرات هذه القارة.
 لقد وصل "الحُجّاج" بادىء الأمر الى مدينة بليموث في ولاية ماساتشوستس، حيث أنقذهم الهنود من الموت جوعاً وأولموا لهم، وهذه الوليمة أصبحت فيما بعد "عيد الشُكر" في حين أن الهنود كانوا يحتفلون بها قديماً بمناسبة بدىء موسم الحصاد، لقد قام الهنود الأوائل بتعليم "الحُجّاج"  زراعة الذرة والحبوب، ومهارات صيد السمك وكيفية تسميد الأرض، حيث لم يكن لدى هؤلاء الغزاة أدنى فكرة عن الزراعة وفلاحة الأرض أو إستخراج خيراتها، بل أن عدداً لا بأس به منهم قد مات بعد وصولهم الى القارة الأمريكية نتيجة الجوع، ولم ينقذهم سوى مساعدة أصحاب الأرض الأصليين، الذين مدّوا للمستوطنين يد المساعدة وشاركوهم أرضهم وخيراتهم الطبيعية، فماذا كانت النتيجة سوى عضّ اليد التي قدمت لهم العون، وإبادة أصحاب الأرض عن بكرة أبيهم !!
   عندما تبحث في أوراق التاريخ، ستصاب بالذهول حين تعلم أن الهنود كان تعدادهم 18 مليوناً تقلّصوا جراء الإجتياح الأوروبي والبريطاني الى رُبع مليون فقط، لقد أصبحوا أثراً بعد عين بعد إستخدام جميع أنواع الإبادات الجماعية التي تخطر على عقول البشر ، وعلى سبيل المثال لا الحصر: الإبادة الجرثومية ونشر الأمراض، إقتلاع الأشجار، حرق البيوت والأراضي وقطعان الماشية،القضاء على سكان بعض القرى بالكامل وتهجير  البعض الآخر إلى مناطق بعيدة قاسية المناخ، أو حبسهم في معتقلات لا تتوافر فيها أدنى شروط المعيشة الإنسانية وتعرضهم للتصفية الجسدية المُمنهجة.  
من سخرية القدر ومن المُضحك المُبكي، أن يتم تصوير أمريكا على أنها " بلد الهجرة والأمل وتعدد الأعراق والمعتقدات والحرية والدستور وميثاق حقوق الإنسان" وأن تصبح الهجرة الى أمريكا أقصى أحلام هذا الجيل، متناسين أن هذا الغزو هو الأصل لكل تاريخ أمريكا، وأن تاريخ أمريكا يعيد نفسه، من جرائم الحرب في هيروشيما وناغازاكي الى عملية العنقاء في حرب فيتنام عام 67 (قام الجنود الأمريكان بقطع رؤوس عشرين ألف من الفيتكونغ المعتقلين)،مروراً بجرائم الحرب في العراق وسجن أبو غريب، إلى آخر القائمة التي تقطر دماً.
لقد وصل بهم الأمر الى شن حملة " تذويب ثقافي" لطمس كل ملامح "الهنديّة" من الهنود، بل إنهم حاولوا "عَقر" النساء الهنديات في سبعينات القرن الماضي وقد نجحوا في الوصول الى ما يقارب 40% من النساء قبل ان يتم إكتشاف هذا البرنامج وتوقيفه بعد التستر على القائمين عليه كالعادة.وما  تسمية الأشياء بمُسميّات هنديّة مثل "توما هوك" أو "تشيروكي" إلا تعبيرٌ لا إراديّ عن عقدةٍ دفينةٍ لديهم تطاردهم، وستستمر في ملاحقتهم عبر العصور مُتنقلةً من جيلٍ إلى جيل،
لقد تصور الأمريكان، أنهم في حلٍ أخلاقي وإنساني من جرائمهم لمجرد اختلاف الخصم بثقافته، لقد أعتبروا الآخر  متوحشاً ويجب التضحية به كي تستمر الحضارة الراقية وتنتشر في العالم، لقد أسقطوا على خصومهم على مرّ الزمان، أسوأ خصالهم هُم، ونعتوهم بأنهم أرهابيون يجب إبادتهم حتى تسلم البشرية والحضارة العالمية من وبائهم، وهذا هو ديدنهم منذ نشأتهم وحتى الآن، إن تكرار هذه الجرائم البشعة لم يكن عبثياً بل هو ضرورة من ضرورات إستمرارية ما يُسمّى بالحُلم الأمريكي.
أختم مقالي  بكلمات كتبها أحد أحفاد الهنود بمناسبة عيد الشكر عام 1970 في مدينة بليموث، وتم منعه من القاء كلمته بعد عرضها على لجنة الإحتفال:
((هذا يومُ عيدٍ لكم وحدكم، إنه ليس عيدي، انني أنظر إلى ما حدث لشعبي بقلبٍ مُنفطر، فبعد يومين أو ثلاثة من وصول الحُجّاج ، بدأوا بسرقة قبور أجدادي، ونهب ما لديهم من ذرة وقمح وحبوب، لقد شاهد قائد شعبي ما فعله الحُجّاج ، ومع ذلك فإنه هو وشعبه رحبوا بالمستوطنين وأبدوا لهم خالص الود، لم يكن يعلم أن الحُجّاج بعد أقل من خمسين سنة سوف يبيدون الشعوب الهندية وسوف يقتلونهم بالبنادق أو بالأمراض...... إنني حزين وهذا ليس عيدي))
أيمن أبولبن

29-11-2014

الاثنين، 24 نوفمبر 2014

سر عداء هتلر لليهود، وهل عدو عدوي هو صديقي بالضرورة ؟




   من المعروف للجميع مدى العداء الذي ناصبه هتلر لليهود، وما المحرقة النازية لليهود "الهولوكوست" إلا عارضٌ لهذا العداء، ولكن السؤال الغامض والذي حيّر الكثيرين ما هو السر وراء هذا العداء ؟!

   كعادة التاريخ، لا توجد أجوبةٌ واضحةٌ ومحددة لكثير من الأسئلة الغامضة والمحيرة، ولكن بالعودة إلىى كتب التاريخ وخصوصاً فيما يتعلق بتوثيقات الحروب العالمية، نجد أن هذا العداء الواضح للعيان ما هو إلا نتيجةٌ لعداءٍ فكريٍ خفي بين مدرستين حاولتا السيطرة على العالم وموارده الإقتصادية والبشرية أملاً في تحقيق حلم "العالم الجديد"  على شاكلة الحلم الأمريكي المعاصر، ونحن هنا نتحدث عن الشيوعية بإتخاذها شعار "الطبقة العاملة" والنازيّة وتبنّيها لنظرية "العِرق الآريّ". ولكن ما هو دور اليهود هنا ؟!

    تأثّر هتلر في شبابه بالفيلسوف الألماني "كارل ريتر" مؤسس نظرية "سيادة العِرق الآريّ" التي إنبثقت عنها فكرة النازيّة، وقد إعتبر ريتر أن الشيوعيّة هي أكبر خطر على البشريّة أو بمعنى أدق هي أكبر خطر على مشروع السيادة الألمانية للعالم، وبسبب تعمقه الكبير في دراسة التاريخ والعلوم السياسيّة فقد بنى قناعة تامة بأن اليهود هم من أسسوا حركة الماسونيّة العالمية التي يسيطر عليها أصحاب رؤوس الأموال العالميين -وجُلّهم من اليهود- بهدف إقامة دولة عالمية شاملة تأتمر بأمرهم، وذهب ريتر الى أبعد من ذلك حين أعلن أن الشيوعية هي ألعوبة وصنيعة ماسونية يهدفون من خلالها الى نشر الفكر الإلحادي وفض عروة الأديان لتسهيل جمع الإنتماءات للحركة الماسونية بغض النظر عن العِرق والدين والجنس لتحقيق الهدف النهائي وهو السيادة على العالم، مُشيراً إلى أن كارل ماركس مؤسس نظرية الشيوعية وصاحب كتاب "مبادىء الشيوعية" هو يهودي الأصل.

   كانت فلسفة كارل ريتر تعتمد بشكل أساسي على العداء لليهود والشيوعية وتمجيد العِرق الآري ، وكان يهدف الى تأسيس الحركة النازية من خلال إقناع الشعب الألماني بتفوقه على الأجناس البشرية الأخرى أو الأجناس الساميّة ( نظرية العِرق الألماني السيّد )، والتركيز على ان المانيا هي وحدها القادرة على حماية العالم من خطر الشيوعية، وقد إقترح في رؤيته أن يتم إخضاع دول أوروبا لسيطرة المانيا إقتصادياً ثم عسكرياً وأن يتم إنشاء طابور خامس في هذه الدول مهمته التمهيد للسيطرة الألمانية ومجابهة التنظيمات السريّة الأخرى وعلى رأسها الشيوعية ، وكان الهدف النهائي هو القضاء التام على الشيوعية واستئصال شأفة العِرق اليهودي عن بكرة أبيه، وهذا ما حاول فعله هتلر وفشل فيه في الأمتار الأخيرة من الحرب.

  ولو تَتبّعنا تسلسل الأحداث التاريخية نجد أن هتلر الذي نشأ يتيماً وعاش في فقر ٍ وأوضاعٍ معيشيةٍ صعبة وعانى من الازدراء والدونيّة ، قد رأى في الجيش الألماني طوق النجاة الذي يبحث عنه، فتطوّع فيه ليخوض غمار الحرب العالمية الأولى ظنّا منه أن المانيا منتصرة لا محالة، ولكن ظنه خاب وعانى الأمرّين من هزيمة المانيا وإستسلامها، وكانت هذه الهزيمة هي البداية الحقيقية لهتلر في عالم السياسة، الذي دخله لتحقيق أطروحة كارل ريتر التي اقتنع بها وآمن بها حرفياً، وبهذا نستطيع القول أن النازيّة كانت على خلاف متجذّر مع الشيوعية ومع اليهود حتى قبل نشأتها.

    ولعل السبب الرئيس وراء فضولي في البحث عن سر العداء الخفي بين هتلر واليهود، هو الإجابة عن سؤال عمّا إذا كان هتلر عدواً لليهود وصديقاً للعرب والمسلمين، خصوصا وأن الدولة العثمانيّة تحالفت مع المانيا في الحرب العالمية الأولى، والجواب القاطع هو لا، فالأيدولوجيّة التي تجرّعها هتلر تقضي بالعداء للجنس السامي ككل، بل إنه يمجد العِرق الآري ويؤمن بسيادة العِرق الألماني للعالم،ويحتقر كل ما هو دون ذلك ناهيك أن معتقدات هتلر  تخالف معتقداتنا كعرب ومسلمين،بل إنها تخالف ناموس الكون، ومن الخطأ الوقوع في فخ الإعجاب بما فعله هتلر باليهود لمجرّد أننا في حالة عداء وحرب مع دولتهم المزعومة.

  هناك فرق كبير بين محاربة الفكر الصهيوني (فكرة إنشاء وطن قومي لليهود على أرضنا) ومحاربة اليهود بناءً على خلفيتهم الدينية أو العِرقية – والذي نشترك معهم فيه على كل حال- ، فليس من حق أحد إفناء جنس أو جماعة دينية أو عِرقية، أو حتى حرمانها من حقوقها المتساوية مع بقية البشر.

  ما دفعني الى الكتابة في هذا الموضوع، هو هذا الهوس المنتشر في شبكات التواصل الإجتماعي في عالمنا العربي حول هتلر وما فعله باليهود، وكيل الثناء والمديح له وكأننا نشاطره نفس الأفكار والعقيدة، ألا تكفينا كل المصائب التي ارتكبناها بإسم الإسلام، لنبحث عن جرائم الإنسانية في الغرب ونتغنّى بها ونحن لا ناقة لنا فيها ولا بعير ؟!

أيمن أبولبن

16-11-2014

الثلاثاء، 18 نوفمبر 2014

كان "أبوعمار" أكثرَ شيءٍ جدلا !

في الذكرى العاشرة لوفاة "الختيار"


كان "أبوعمار" أكثرَ شيءٍ جدلا !


هناك عبارة شهيرة حُفرت في ذاكرتي منذ نعومة أظفاري وعايشتها انا شخصياً "الفلسطيني يولد فتحاوي على الفطرة" وهذا بالفعل كان حال أغلب الفلسطينيين صغاراً وكباراً، في الوطن والشتات ، ما لم يكن هناك تجربة خاصة في أحد التنظيمات الأخرى او لأحد المؤثرين على قرار هذا الفلسطيني -وبالأخص من المقربين جداً- فإن ميوله ستكون فتحاوية بالفطرة، وبهذا تكتمل المقولة " ما لم يُحزّبه أحد !"
  
منذ نعومة أظفاري وأنا أنظر ل "فتح العاصفة" بأنها المُمثل الشرعي والوحيد للمقاومة الفلسطينية ، وكان أبو عمّار بالنسبة لي هو ذلك القدّيس الذي إقترن بالقضية ونسي كل ملذّات الحياة، وكانت صورته بالكوفية الفلسطينية رمزاً للبطولة والكفاح الفلسطيني، كانت تختزل في داخلها كل الفلسطينيين وكل المقاومين، كان أبو عمّار بالنسبة لمعظم الفلسطينيين ، الأب الحاني الذي يجمع لمّ كل الفصائل وكل التيّارات تحت جناحيه.

  مع إنطلاقة الانتفاضة الأولى كنت ما زلت فتىً غضاً في المرحلة الثانوية من المدرسة، أذكر أني ذهبت إلى حفل في قصر الثقافة – في عمّان- لدعم الإنتفاضة وتخلّل الحفل إلقاء بعض القصائد الوطنيّة، كان الجو مشحوناً بالمشاعر الثوريّة والحماسة منقطعة النظير،تقدّم أحد الشعراء وقال : ((هذه القصيدة مُهداة للفلسطيني المُقاوم، للمواطن الفلسطيني البسيط، ليست لرمز معين أو قائد، أو.. أو.. )) . إستغرب الحضور ما قاله الشاعر ولكن مع القائه للقصيدة إستحضرت في داخلي صورة الرمز " أبو عمّار " –دون أن أدري- ولم أجد في ذلك أي ضير، فلم يكن هناك أي فرق بالنسبة لي بين المُقاوم الفلسطيني البسيط "الذي يقصده الشاعر" وبين الرمز والقائد أبو عمّار ، ويبدو أن باقي الحضور ذهبوا الى أبعد مما ذهبت أنا ، فبدأوا بترديد الهتافات لأبي عمّار في المسرح، توقف الشاعر قليلاً ثم قال : ((أقول ثانيةً هذه القصيدة ليست لقائد معين بل هي لكل فلسطيني يقاوم بحجر، مع إحترامي لكل القادة )). كان هذا الشاعرُ ذكياً بما يكفي كي يدرك تلك المتلازمة في ذهن الجمهور والفلسطينيين بشكل عام بين القائد الرمز وصورة المُقاوم ، ولكن الجمهور - وأنا منهم - كان ساذجاً بما فيه الكفاية لإختزال كل النضالات والعذابات والتضحيات في صورة شخصٍ واحدٍ أحد !.

   للحقيقة لم تتغير هذه الصورة النمطية في ذهني سوى مع مؤتمر مدريد، أصبحت أرى الأمور بمنظورٍ مختلف وأهتزت صورة القائد البطل والرمز ، بل وصورة المنظمة بشكل عام و"فتح" بشكل خاص، وبدأت لأول مرة أتساءل عن التناقض بين المبادىء الوطنية والميثاق الوطني وعن "فلسطين من البحر الى النهر" ، وبين ما أسمعه وأراه من تنازلات وتفاهمات وإعترافات .....الى آخر القائمة، ولكن الصدمة التي أذهلتني ومزّقت كل ما يخص تلك الصورة النمطية في ذهني ، كانت صدمة أوسلو، فقد كانت بحق "شعرة معاوية" بالنسبة لي، وكان حالي يومها ينطبق عليه قول الشاعر :
يا فُؤَادِي لَا تَسَلْ أَيْنَ ٱلْهَوَى
 كَانَ صَرْحًا مِنْ خَيَالٍ فَهَوَى
اِسْقِنِي وَٱشْرَبْ عَلَى أَطْلَالِه

  
   قبل أيام قليلة، مرّت الذكرى العاشرة لوفاة " أبو عمّار " ، وكانت هذه المناسبة مُنازلةً بين فريقين الأول يرى " أبو عمّار " في صورة القائد المُلهم الذي حفظ القضية من النسيان وجعلها حاضرةً في المحافل الدولية، ووقف في وجه كل المؤامرات لتصفية القضية وانهائها ، وكان هو الفدائي الأول وصاحب الطلقة الأولى ، وهو من قاد الكفاح المسلّح وأبقى على الآمال بتحقيق الحلم الفلسطيني  وهو ذلك الناسك الذي مات وهو لا يملك سوى بدلة عسكرية "مرثيّة "، وهو الذي حمل همّ القضية أينما حلّ ، ومات مغدوراً لأنه كان شوكةً في حلق أعدائه.

  ويرى الفريق الثاني أنه خائنٌ تخلّى عن مبادئه وتنازل عن ثلاثة أرباع الوطن واعترف بدولة العدو وبيهودية الدولة، بعد أن شارك في تصفية كل زعماء المقاومة وبقي هو وحيداً على شاكلة "البطل" في أفلام هوليوود، وكان سمساراً يتاجر بالقضية ، وبنى ثروةً تُقدّر بالمليارات لا يعرف أحدٌ مصيرها الى اليوم ، الى آخر القائمة من التهم.
    
شخصياً أعترف أني لم أعايش ولم أقرأ عن شخصية جدليّة حيّرت الملايين بقدر "الختيار"  فتارةً تسمع أنه يهوديّ ابن يهودية ولد في حارة اليهود، ثم تسمع أنه ناسكٌ متعبدٌ يقوم آناء الليل ويُسبّح أطراف النهار، والأطرف من ذلك أني قرأت عن أحد القساوسة الأجانب أن عرفات في آخر سنين عمره كان مهتماً جداً بالتحول الى المسيحية ، وأنه قرأ كثيراً عن تعاليم الدين المسيحي وعن "الخلاص" ، ويقول هذا القسيس أنه يأمل أن يرى أبو عمار في الجنة، هذا على إعتبار أن القسيس يبدو واثقاً من دخوله هو الجنة !

المشكلة أن كل صاحب وجهة نظر لديه مجموعة كبيرة من التوثيقات والشهادات الحيّة والمعاصرة لحياة أبو عمار، وليس مجرد كلاماّ في الهواء وهذا دليل على مدى غموض شخصية أبو عمار ودهائه وحنكته، سواء إتفقنا معه أو اختلفنا، وسواء رأيناه بصورة ملاك أو شيطان !!

  بعيداً عن كل هذا ، لست أهدف عبر هذه السطور الى كشف حقيقة أبو عمار أو القاء الضوء على معلومات خافية عن القارىء، بقدر ما هو تعبيرٌ عن الضجر والضيق من تطرّف الفريقين في تناول شخصية أبوعمار وإعطائها أبعاداً خارج إطار الإنسانية، في النهاية لنا أن نختلف أو نتفق مع هذا الرئيس الراحل ولنا أن نلومه ونهاجمه أو  أن نؤيده ونحزن لفراقه، ولكنه في النهاية أدّى دوره ومضى ، ولن يفيد القضية في شيء، إثباتُ أنه بطل أو خائن ، والأهم من ذلك أن علينا التخلّص من عقدة "الشخصنة" والبحث الدائم عن الرمز والقائد الأسطورة في شخص إنسان، فنحن في النهاية بشر لا نملك الكمال ولا العصا السحرية ، لسنا بإنبياء ومُخلّصين ، الى متى سنبقى عاكفين على رموز نحن صنعناها ومجّدناها فأصبحت بديلاً عن الدين و الوطن و التاريخ والهوية !! القضية الفلسطينة أكبر بكثير من الوقوف عند أبو عمّار ، فإذا كان أبو عمّار بطلاً فإن فلسطين ولاّدة ولن تعجز نساؤنا على إنجاب غيره، وإذا كان مجرماً وخائناً فأروني ماذا صنعتم أنتم للقضية ؟!

   أما آن لنا أن نخرج من إطار تأليه الزعماء أو شيطنتهم ؟! فاذا كان هناك نصرٌ أو نجاح، نسبنا هذا النصر العظيم للقائد العظيم الذي لولاه لما انتصرنا، وإذا فشلنا أو خسرنا معركة علّقنا فشلنا وخيبتنا على شمّاعة هذا الزعيم الخائن العميل !! متى سيكون لنا وأتحدث هنا عن العالم العربي بشكل عام، متى سيكون لنا مؤسسات وطنية واستراتيجيات واضحة بعيداً عن التفرّد والزعامة والحزب الواحد والصوت الواحد والجريدة الواحدة ؟! متى سنتخلص من عقدة " الزعيم" التي تلاحقنا حتى في ثوراتنا على الزعامات !!!
أيمن أبولبن

17-11-2014

السبت، 15 نوفمبر 2014

"معاداة الساميّة" الكذبة الصهيونية الكبرى



لم يكن من الصعب على الحركة الصهيونية العالمية تزييف الحقائق وقلب الوقائع فيما يخص قضية فلسطين لأسباب عديدة من أهمها امتلاكها لوبي صهيوني قوي قادر على التأثير على دوائر إتخاذ القرار بالإضافة الى سيطرتها على وسائل الاعلام الغربية، ولعل الكذبة الكبرى التي إستفادت منها الحركة الصهيونية العالمية بعد تمكنها من انشاء دولة يهودية على أرض فلسطين هي اعادة أستخدام تُهمة "معاداة الساميّة"  وحَصر العرق السامي بمعتنقي الديانة اليهودية، فما هي الساميّة وما هو العرق السامي ؟

   تم استخدام عبارة "معاداة الساميّة" لأول مرة في أوروبا في القرن التاسع عشر أبان الاضطهاد الأوروبي لليهود، والساميّة تُنسب الى "سام ابن نوح عليه السلام" ، وتنقسم المجموعات الساميّة الى مجموعتين، تضم الأولى الآشوريين والفينيقيين والعبريين، وتضم المجموعة الثانية العرب والذين يُعتبرون الأكثر عدداً في العرق السامي، فكيف يمكن لعاقل أن يُطلق صفة الجنس العرقيّ على متبعي دين معين ؟!

لو بحثنا قليلاً في تاريخ اليهود لوجدنا أن هناك نسبة كبيرة من اليهود "الخَزَر" والذي يعود أصلهم الى الشعوب الوثنية التي استقرت في أوروبا الشرقية ثم اعتنقت اليهودية وعاشوا ضمن الامبراطورية الروسية، عدا عن الييهود الأفارقة واليهود القادمين من الجزيرة العربية، فكيف نجمع كل هؤلاء في مجموعة عرقية واحدة؟! والأنكى من ذلك أن يتم استثناء العرب من العرق السامي وهم يشكلون الأغلبية ممن ينحدرون من نسل سام !  

بعد أن استطاعت البروبوغاندا الصهيونية من حَصر العرق السامي في معتنقي الديانة اليهودية رغماً عن المنطق والتاريخ، تمكنت من نَصب المشانق والنيل من كل من تسوّل له نفسه إنتقاد أو مخالفة المخطط الصهيوني بتهمة "معاداة الساميّة" وهي تهمة تشير الى التمييز العنصري والتفرقة بين البشر على أساس العرق أو الدين، مستغلين بذلك عقدة التمييز العنصري في العالم الغربي، والعزف على وتر الظلم والقهر والتعسّف الذي تعرض له اليهود في أوروبا واجلائهم منها بالقوة، عدا عن المذابح النازيّة.

  صحيح أن البحوث التاريخية تشير الى أن يهود أوروبا قد عاثوا في الأرض الفساد ونشروا الرذيلة وكانوا أول من نشر الربا، وهم من أنشأوا السوق السوداء الى آخر القائمة من الأفعال غير الأخلاقية، إلا أن هذا كله توارى عن الأنظار وتم التركيز على أحقيّة اليهود في انشاء وطن قومي لهم في فلسطين وتحصينهم من أي نقد أو لوم أو حتى التشكيك في صحة ما يدّعون،

ولعل أهم من أُتهم بمعاداة الساميّة في العصر الحديث هو السياسي والكاتب الفرنسي "روجيه غارودي" الذي أعلن إسلامه بعد أن كان مُنتسباً للحزب الشيوعي الفرنسي وكان مولعاً بالماركسيّة، وقد كذّب غارودي الرواية الصهيونية للمحرقة النازية لليهود "الهولوكوست" وشكّكَ في أرقام الضحايا وبيّن أن اليهود لم يكونوا وحدهم من تعرّض للتعذيب والقتل بأفران الغاز النازية، كما نشر العديد من الكتب التي تحارب الفكر الصهيوني وخصوصاً بعد مجازر إسرائيل في حرب لبنان عام 82 ونتيجة لذلك تعرّض غارودي للعديد من المشاكل والمتاعب وتم الحكم عليه بالسجن مع وقف التنفيذ ، كما تم منعه من دخول بعض البلاد والتنقل بحرية بين دول أوروبا وتعرّض لحظر عام في وسائل الإعلام الغربية.

أما من فئة الفنانين والممثلين، فقد تعرّض الممثل والمخرج الأمريكي "ميل جيبسون" للعديد من المضايقات وتم إتهامه بمعاداة السامية بالنظر الى تصريحاته المثيرة للجدل عن اليهود، وأستعرت الحملة الصهيونية ضده بعد إنتاجه وإخراجه لفيلم "آلام المسيح" الذي يُوثّق المؤامرة اليهودية لقتل المسيح وما تعرض له السيد المسيح من تعذيب وصلب، وإن كُنّا نختلف مع رواية قتل وصلب المسيح إلا أننا نتفق تماماً مع المؤامرة اليهودية لقتل المسيح عليه السلام.

أذكر أن الممثل ىالأمريكي المعروف "مارلون براندو" صاحب دور العرّاب الأكثر شهرة في تاريخ السينما الأمريكية قال ذات مرّة في لحظة صدق عابرة أن اليهود يسيطرون على عالم السينما في هوليود وأنهم يستغلون صناعة الأفلام و يحتكرون الفن وأن كل من يعمل في هذا المجال يجب أن يكون من "المرضي عنه" حتى ينجح. هزّت هذه التصريحات أركان هوليود وتردّد صداها في العالم أجمع، ولم تمض أربعٌ وعشرون ساعة حتى دعى مارلون براندو الى مؤتمر صحفي وقدّم اعتذاره عن هذه التصريحات، وبكى بكاءً شديداً وهو يُبدي ندمه على ما قال !

  معاداة الساميّة هي أكبر كذبة أعادت إنتاجها الصهيونية العالمية في العصر الحديث بهدف تحصين اليهود من المحاسبة والملاحقة القانونية وتحليل سفك دماء من يناصبونهم العداء أو حتى يخالفونهم فكرياً ، ويتم إستغلال هذه التهمة لوضع اليهود في منزلة فوق كل البشر، وعلى كل انسان حر  وصاحب مبدأ أن يُعرّي كذب وزيف هذه الإدعاءات.


أيمن أبولبن

14-11-2014


الأحد، 9 نوفمبر 2014

أخاف من الوحدة

أخاف من الوحدة


عشرُ دقائقَ من الوحدة، كافيةٌ كي تُفتحَ أبواب ذكريات الماضي وتُعيد إلينا كلَّ ذلك الحنين الذي إفتقدناه، لتتدفّقَ الذكرياتُ كسيلٍ  عارمٍ فتغطي الوجود وتطمس معالم الزمان والمكان، فنتوه ونغرق في أعماق الذكريات الموجعة والأليمة والمحزنة معاً.

   عشر دقائق أمضيها في غرفة إنتظار الطبيب أو لحظة غياب شاردة من ضجيج العمل في وقت الذروة من النهار، أو تلك الدقائق القليلة التي تسبق النوم، كافيةٌ كي أستعيد شوقي ولهفي وحنيني لمن فقدتهم من الأحبّة ولم أتصالحُ بعدُ مع قَدَر الغياب فيهم، رغم إيماني ورغم قناعتي بأن عجلة الحياة لا بُدّ وأن تدور، ولكن النفس لتحزن رغم أنف القناعات الداخليّة ، والعين لتدمع ، والقلب يكادُ يتوقف في لحظةٍ هاربةٍ من الزمن ، كطفلة تلاحق الفراشات في الحقل، وتطلق العنان لشعرها ليداعب نسيم الهواء ، وهي تتماهى مع جناحي الفراشة.

   ومضاتٌ قليلة تأتينا كأنها إتصالٌ طارىء من عالمٍ خارجي غامض، يسرقنا من لحظتنا الراهنة ثم ما يلبث أن يعيدنا لها ثانية، دون ان يقطع خط الإتصال، فنبقى مُعلّقين بين الوجود واللاوجود.

   لم يكن التعذيب الجسدي هو الكابوس الذي يخشاه المساجين، بل كانت العُزلة هي أعظم كوابيسهم، فالعُزلة قاتلةٌ كما يقولون، فهي تفتكُ بكل ما هو إنسانيٌ فينا، وتلاحق الطُمأنينة فينا كمن يُطارد اّلأشباح.

كم عاش سيدنا آدم قبل خلق حواء ؟! ليس مُهماً أن نعرف، فالتاريخ البشري بدأ بإجتماع آدم وحواء، وأما العُزلةُ فلا تُحسبُ من أعمارنا، لأنها تُنقصها ولا تزيدها.

   أخاف من العُزلة، وأخاف من الوحدة ولو للحظات.

أيمن أبولبن

9-11-2014

الأحد، 26 أكتوبر 2014

في وداع فاطمة

كتبت هذه السطور قبل أيام قليلة من رحيل الوالدة

في وداع فاطمة

     تقول الأساطير القديمة أن الأرواح الشريرة تبدأ نشاطها مع غروب الشمس لتجوب البلاد وتثير فيها الفزع وتدب في النفوس مشاعر الخوف، وما أن يبزغ الفجر حتى تنحسر هذه الأرواح الشريرة وتعود الى مخابئها من جديد، فيكون صياح الديك إيذاناً ببزوغ فجر يوم  جديد، ونهار تعمه السلام والمحبة.

   عندما كنت صغيراً لم أكن أعلم بوجود هذه الخُرافة، ولكني كنت أشعر بضيق شديد حين يحل الظلام، ولهذا كنت أحرص دوماً على أن أستلقي في الفراش وأغط في النوم قبل أخوتي، فوجودهم يقظين من حولي كان يجعلني أشعر بطمأنينة وراحة بال تساعدني كثيراً في النوم المبكر و "الصحي"، وكان هاجسي الوحيد وشغلي الشاغل في كل ليلة أن لا أكون آخر المستيقظين في المنزل !!

   ولكن على عكس الخرافة، لم يكن صوت الديك ما يشعرني بالأمان والطمأنينة، بل كان صوت حفيف ثياب أمي، وطقطقة خطواتها الخافت في الفجر الباكر، والجلبة التي تحدثها في البيت "على استحياء" وهي تجهز لنا أغراض المدرسة، "تأخرت على المدرسة يمّه"  كانت هذه العبارة وحدها تجعلني أبدأ نهاري متّقداً متسلحاً بكل الأمان الموجود في العالم، وجودها حولي، نَفَسُها، رائحتها في البيت ، صوتها، لسانها الذي يلهج بالدعاء ونحن على أعتاب مغادرة المنزل، ترحيبها الحار لنا عند العودة، وسؤالها لكل واحد فينا عن يومه ودروسه وواجباته، وصاياها لنا بمراعاة دروسنا، والمواظبة على الصلاة، وحسن تعاملنا فيما بيننا، وطاعة والدي، كان هذا كله كفيلاً بأن أمضي يومي في سلام  ومحبة وطمأنينة.

إذا كانت كل فتاة بأبيها معجبة، فكل فتىً بأمه مُعجبُ، كنت أشعر منذ نعومة أظفاري بأني طفلها المُدلّل، الطفل المفضل لديها، ولكني مع مرور الزمن أدركتُ أنها لم تكن لتُفاضل بين أبنائها، ولكنها كانت قادرة وبطريقة عجيبة أن تُشعر كل واحد منّا بأنه المُفضل لديها، وكانت قادرةً أيضاً أن تُثبت لوالدي أن معزّته تفوق معزّتنا جميعاً، لم يكن هذا تكلفاً أو تصنعاً منها بقدر ما كان هبة ربانية، ومنحة آلهية.

   لم أرَ في حياتي معنىً مُتجسداً للتضحية من أجل الغير الا فيها، ولم أدرك معنى الإيثار الا من خلال سيرتها، كانت لي المثل الأعلى في كل شيء يخص المرأة، لقد زرعت فينا بذرة التديّن السمح، والأخلاق الحميدة التي أكتسبتها من جدي "عالم الأزهر" وترجمت هذا التدين الى نموذج حي واقعي من خلال علاقاتها بالمحيطين بها،

  والدتي ترقد اليوم على سرير الشفاء، وقد أتمّت رسالتها في الحياة على أتم وجه، ونجد أنفسنا عاجزين عن رد جزء من إحسانها لنا رغم كل محاولاتنا لفعل ذلك، أرى والدتي كل يوم وهي تتألم بصمت، تحاول أن تغادر هذه الحياة بشموخٍ وأنفة، ونحن من حولها نشعر أن المرض يدبّ فينا نحن، وأن الشيخوخة البادية على ملامحها انعسكت شيخوخة مُبكرة فينا، نشعر أننا فقدنا شيئاً ما بداخلنا، وأن جزءاً عميقاً في داخلنا قد انكسر.

  قبل أشهر قليلة، انتصف عقدي الرابع من العمر، وعلّقت يومها قائلاً –وأنا صادقٌ فيما أقول- " أشعر اليوم بأني بلغت الخامسة والثلاثين" ولكني خلال الأيام القليلة الماضية شعرتُ بأني اختزلتُ عشرة أعوام من عمري دفعة واحدة، هرِمتُ يا أمي، وفي غيابك يا أمي عدتُ الى قلقي وخوفي، أتقلب في نومي فزعاً ولا أجد من التجأ اليه، وأصحو كل يوم وانا بإنتظار صوتك يوقظني ويبث فيّ الأمل من جديد.

  أتعلمين يا أمي أني أخاف موتك أكثر منك ؟! هل ستغادريننا حقا؟!


 أيمن أبولبن
17-10-2014

الخميس، 9 أكتوبر 2014

الحرب على داعش والشكوك المتزايدة



     تشير تسريبات "سنودن" بكل وضوح وصراحة أن تنظيم الدولة الاسلامية ما هو الا صنيعة مشتركة للمخابرات الأمريكية والبريطانية والاسرائيلية، فيما تبدو الأهداف من زرع هذا التنظيم في قلب الشرق الأوسط عديدة ومتنوعة ولا تقتصر على إشعال الاقتتال الطائفي في المنطقة، فيما تشير التسريبات الى أن خليفة التنظيم "أبو بكر البغدادي" قد تلقّى تدريبات مُكثّفة على مدار عام من قبل الموساد لتمكينه من تنفيذ مهمته التي أُطلق عليها اسم "عُش الدبابير" نسبة إلى المنظمة التي ستسقطب المتطرفين الاسلاميين من جميع دول العالم.

  وبالعودة الى الظروف الغامضة التي رافقت نشوء هذه الجماعة المتطرفة، وتسلسل الأحداث على أرض الواقع، نجد أن هذا التنظيم لم يُفلح في تحقيق أي من الأهداف التي ادّعى أنه يناضل من أجلها، بل على العكس تماماً كانت النتائج تصب دائماً في مصلحة الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة وبالتالي تصب في مصلحة اسرائيل، فبعد سلسلة من التظاهرات السلمية للقبائل والعشائر السُنيّة في العراق التي عانت الأمرّين من جبروت المالكي وتعنّته الطائفي، وبعد أن بات من الواضح أن الأمور فلتت من قبضة المالكي، وأن رياح التغيير قادمة لا محالة، أخذ تنظيم داعش زمام المبادرة وقام بمصادرة إرادة القبائل السنية وتصدّرَ الأحداث لمواجهة المالكي "عسكرياً" وبهذا انقلبت الأمور 180 درجة، خسرت العشائر السنيّة ورقة الثورة السلمية، وخسرت تأييد المتعاطفين من حولها، ثم وجدت نفسها محصورةً في خندق داعش والتطرف دون أن يكون لها باقة ولا بعير، وعلى الجهة المُقابلة قام الغرب بتسليح الجيش العراقي ليزداد قوةً في مواجهة داعش، كما أعطى الضوء الأخضر لإيران "وحلفائها" للتدخل عسكرياً في العراق والحد من خطورة داعش ، ليس هذا فحسب بل لاقت هذه الخطوات إستحساناً من دول وشعوب المنطقة على حد سواء، وبهذا تغلغل نفوذ إيران والجماعات الشيعية المتطرفة في العراق، وأزدادا الأمر سوءاً على الجماعات السنيّة.

  خلال الشهور الماضية تم إمداد الأكراد وقوات البشمركة بالعتاد والعدّة على مرأى ومسمع الجميع، دون أن يعترض أحد، ودون أن تثور ثائرة المنظمات الدولية، أومجلس الشيوخ الأمريكي، وأحزاب المعارضة هنا وهناك، الا يتبادر للأذهان سؤالٌ مُحير، منذ متى تقوم أمريكا بتزويد ميليشيات مًسلّحة "غير نظامية" بالسلاح علناً وعلى رؤوس الأشهاد، دون إعتراض أو حتى إستفسار ؟!

  أما في سوريا، ففي الوقت الذي كانت فيه الثورة السورية تحقق مكاسب على الأرض، وتُنشىء علاقات "حُسن جوار" مع المدنيين والأهالي في المدن والقُرى المًحررة، ظهرت الجماعات الإرهابية وعلى رأسها داعش لتصبح وبالاً على السوريين وتذيقهم أشد أنواع التنكيل والتعذيب مما أنساهم مرارة الواقع الذي عاشوه تحت حكم الأسد، وأدى في النهاية الى كُفرهم بالثورة السورية ولعنهم اليوم الذي انطلقت فيه شرارة الربيع العربي، خسرت الثورة السورية الكثير من التأييد والتعاطف بسبب داعش، وحقق النظام الكثير من النقاط الحاسمة على مستوى المجتمع الدولي والسياسة الخارجية، ليس هذا فحسب بل قامت بعض الفصائل التي انشقت عن الجيش السوري بإعادة المناطق التي تسيطر عليها للجيش السوري من جديد -بعد التعهد بالعفو عنهم-، حتى لا تسقط هذه المناطق في يد داعش !

  ومن المثير للجدل والدهشة، ما يحصل من تنسيق أمني بين قوات النظام السوري وقوات داعش، ومن الأمثلة الأكثر شيوعاً على ذلك، حين تخوض القوات النظامية معارك ضارية مع الجيش الحر، تبقى داعش خارج دائرة الصراع، وما أن تنسحب القوات السورية من منطقة المعارك، حتى تدخلها داعش، لتحرق الأخضر واليابس وتروّع الأهالي وتشردهم وتدحر الجيش الحر، وهكذا دواليك !

  من أطرف الأخبار التي سمعتها، أن داعش تبيع النفط السوري والغاز من المناطق التي تسيطر عليها للحكومة السورية، وتقوم الحكومة السورية بدفع أثمان هذا النفط عبر وسطاء، أو عبر إتفاقات سريّة مع التنظيم مقابل خدمات عسكرية ميدانية مُتبادلة بين الطرفين. وهكذا تتحقق مصلحة مشتركة بين الطرفين من وجهة نظري، داعش تُزوّد الحكومة السورية بالبترول حتى تستمر في مزاولة أعمالها، والحكومة السورية تموّل داعش للقضاء على ما تبقّى من الثورة السورية !

    بالنظر الى ما تُحقّقه داعش على الأرض، يَسهُل علينا أن نُدرك الأهداف من زرع هذا التنظيم، ومعرفة من المُستفيد من وجود هذا التنظيم، ومن ثم نستطيع أن ندرك، أن الحرب المزعومة على هذا "البُعبُع" ما هي الا حصاد لما تم زرعه، ومحاولة قطف الثمار التي نضجت كما قال الحجاج : (اني أرى رؤوساً قد أينعت وحان قطافها)، فأمريكا اليوم تُعلنها صراحةً أنها تدعم المعارضة المعتدلة في سوريا وأنها لن تسمح بقيام أي تنظيم أو أي دولة تُهدد حلفاءها في المنطقة "وعلى رأسهم اسرائيل" فأمريكا هي من تحدد ما هو تعريف الارهاب ومن هو الارهابي المتطرف، ومن يمثل الطرف المُعتدل كذلك، أما أهداف الحرب على داعش فسوف تتّسع لتشمل كل ما هو ارهابي من وجهة نظر أمريكا، في تمهيد لانهاء الصراع في سوريا واقامة نظام ديمقراطي مدني "شكلي" تشترك فيه كل الأطياف "بما فيها حزب البعث" ولا يكون فيه خاسر والأهم أن لا يكون هناك أي مُنتصر.

  في الحقيقة لا تُقلقني الحرب على الارهاب، بقدر ما يُقلقني أن الشعب السوري لم يستطع أن ينتصر في معركته لا سلمياً ولا عسكرياً -لأسباب خارجة عن ارادته-، وأن السبيل الوحيد لتغيير نظام الحكم في البلد هو لبس عباءة الأمريكان، وإن حصل هذا فسيكون المسمار الأخير في نعش الربيع العربي،
  
أيمن أبولبن

30-09-2014