الاثنين، 24 فبراير 2014

في انتظار السيسي .... لماذا أخفقت الثورة المصرية ؟


   بعد تطورات الأحداث الأخيرة على الساحة المصرية ، والمُنزلق الخطير الذي انزلقت فيه الثورة المصرية ، مما أدى بها للعودة الى مربع رقم 1 ، يجدر بكل المهتمين بالحال المصري ، التريث قليلاً والنظر الى الوراء لاستجماع الدروس المُستفادة ، من أجل المُضي قدماً في مشوار التغيير المنشود .

لماذا فشلت الثورة المصرية ؟

    أعتقد أنه بالامكان الاجماع على ثلاثة أسباب رئيسية أدت في النهاية الى فشل الثورة المصرية، السبب الرئيسي كان تفشي الفساد في أركان الدولة بدءاً من الجهاز الأمني والعسكري مروراً بجهاز القضاء والمحكمة الدستورية ، وصولاً الى أجهزة الاعلام ، ناهيك عن الشراكة المصيرية بين نظام مبارك و رجال الأعمال ، والممتدة الى يومنا هذا .

   هذا الفساد جعل من المستحيل القيام بحملة تطهير كاملة في الدولة لاستئصال النظام القديم ، عدا عن صعوبة تغيير المجتمع ومعالجة آفاته المزمنة في وقت قصير ، فلم يكن أمام الرئيس مرسي الا التعامل مع الأمر الواقع والعمل على تصحيح الأوضاع بسياسة النَفَس الطويل وهذا ما أثبت فشله في النهاية ، وعندما كان يحاول استغلال صلاحيات الرئيس وفرض ارادته ، كانت الثورة المُضادة تستغل هذا بكل ذكاء ، وتُصوّره في الاعلام بصورة "الديكتاتور الجديد".

     يُضاف الى هذا، فشل الأخوان في التعامل مع المتسجدات على الساحة وادارة الصراع والنزاع بما يتناسب مع أهداف الثورة، ومحاولتهم قطف ثمار النجاح مبكراُ ، متناسين أن المرحلة الحالية هي مرحلة انتقالية تهدف الى ترسيخ مبادىء الثورة والديمقراطية ، وليس تنفيذ برنامج سياسي بعينه. أخطاء الاخوان هذه كلفتهم خسارة شركائهم في الثورة ، وسهّلت مهمة الحرس القديم في امتلاك زمام الأمور مجدداً.

   السبب الأخير ، هو افتقاد الثورة المصرية لقائد مُلهم لديه كاريزما مميزة قادرة على جمع الناس وتوجيههم الى الايمان بمجموعة من الأهداف والعمل على تحقيقها، فلم تتوافر هذه الصفات في الرئيس المُنتخب ولا في أي مُرشح رئاسي آخر، وهذا يعود لسياسة مُبارك التي اتبعها خلال ثلاثين سنة من الحكم، حيث عمد الى قمع جميع المُعارضين وتلفيق التهم اليهم لتشويه صورهم، كما أنه لم يكن يسمح بأي مشاركة في الحكم أو ببزوغ نجم أي شخصية عامة ، ويكفي الاشارة الى أن مُبارك لم يعين نائباً له حتى اللحظات الأخيرة، ليس هذا فحسب بل أن نرجسيته لم تسمح له بمنح نجله "جمال" منصب نائب الرئيس طيلة فترة حكمه ، رغم التخطيط "غير المعلن" لتوريثه الحكم ، ولعل هذه المشكلة غير محصورة في مصر تحديداً ، بل هي مشكلة عامة في وطننا العربي ، فنحن نفتقد للقيادات من الصف الثاني ، ومن عدم وجود رموز مُعارضة تحظى بدعم الجماهير ، الا ما ندر !!

ما هي الدروس المستفادة وكيف السبيل في نهوض الثورة المصرية من جديد ؟

  على الثورة المصرية العودة الى نقطة الصفر، والاعتماد على شباب الثورة بعيداً عن أي رموز سياسية موجودة حالياً في الساحة ، والعمل على تكوين جبهة معارضة مدنية قوية ، وزيادة الوعي السياسي لفئة الشباب ، الذي يُعد رأس مال الثورة، ورويداً رويداً سيكون بمقدور هؤلاء الشباب اجادة العمل السياسي ومقارعة خصومهم ، ونشر فكرهم الاصلاحي للنهوض بالمجتمع من جديد.

  وعلى الاخوان اعادة تنظيم أنفسهم والاستفادة من أخطائهم السابقة ، والانضمام الى توليفة الثورة من جديد ، هذه التوليفة التي نجحت من قبل في قلب نظام مبارك،  لأنها جمعت المصريين جميعاً تحت مظلة واحدة ، مرددين شعاراً واحداً بسيطاً يخدم الوطن ويجمع المصريين " عيش ، حرية ، عدالة اجتماعية " .

   ولعل من المُفيد أيضاً ، أخذ العبرة من تحالف قوى شباب الثورة مع الأخوان خلال الثورة المصرية والتشديد على المصير المشترك الذي يجمع بينهما ، فلم يكن بامكان الثورة المصرية من ان ترى النور لولا دعم الاخوان لها، فالاخوان هم اكبر تنظيم مُعارض على الأرض ، وجذورهم ممتدة في الأرض المصرية منذ ثمانين عاماً ، وهم يتمتعون بتنظيم عال ، ولديهم قنوات تواصل مع كافة أبناء الشعب ، ولولا شعبية الاخوان لفاز مرشح الفلول بالرئاسة مبكراً ، ولكان ذلك ايذاناً بوأد الثورة في مهدها.

  ومما يُعزّز مبدأ الشراكة المصيرية هذه، هو فشل الاخوان في الاستمرار في الحكم ، رغم شرعيّة حكم مرسي ، ورغم أحقيتهم في ذلك ، بسبب تفكك أواصر هذه الشراكة ، ومن هنا نقول أنه لا يستطيع أي حزب الانفراد في الحكم حتى لو حظي بأغلبية الصناديق ، لأن الأصل في القيادة هو الشراكة وليس التفرد ، ولعل هذا كان أقسى الدروس التي تعلمتها الثورة المصرية ، ولكنه أفيدها.

في انتظار السيسي ، هل ترمي الثورة المصرية قُفاز التحدي ، أم تستفيد من عثراتها وتُعيد صياغة التاريخ من جديد ؟

أيمن أبولبن
23-2-2014
Ayman_abulaban@yahoo.com


الخميس، 13 فبراير 2014

ثلاث سنوات على تنحي مبارك

ثلاث سنوات على تنحّي مُبارك
(قراءة ما بين السطور)
   
   قبل أن نشرع في الحديث عن الثورة المصرية ومحاولة قراءة ما بين السطور، دعونا أولاً نعترف أن الثورة المصرية التي انطلقت في 25 يناير عام 2011 ووصلت ذروتها بتنحي الرئيس مبارك عن الحُكم يوم 11 فبراير من نفس العام ، قد انطوت صفحتها بالانقلاب على ارادة الشعب والقاء القبض على الرئيس المُنتخب "محمد مرسي" بفعل الثورة المُضادة التي قادها الحرس القديم وفلول النظام السابق بقيادة المجلس العسكري.
   
   الثورة المصرية كانت مُفاجئة للجميع بل وصادمة أيضاً، فلم يكن أحدٌ يتوقع أن تتطور الأحداث بهذه الصورة، وأن تستمر الثورة المصرية الشابة بهذه العزيمة والاصرار والذكاء ، وأن تحظى بدعم كافة القوى الشعبية والمدنية ، وبدعم الأحزاب السياسية بمختلف انتماءاتها ، بعد أن خلعت رداء الخوف ، وتجلّت بأجمل لُحمة وطنية عرفها التاريخ العربي المعاصر. الثورة المصرية كانت واعدة بالكثير ، سواءً للمصريين في الداخل أو للشعوب العربية التي تسمّرت أمام شاشات التلفاز وواصلت ليلها بنهارها وهي تتابع تطور الأحداث باهتمام بالغ وسط ارتفاع حاد في سقف الأمال والتوقعات بمستقبل مُشرق للمنطقة وانتشار للمُطالبات الشعبية المُنادية بالحرية والعدل والمساواة في معظم دول المنطقة ، ولكن للأسف فان هذه التوقعات والآمال سرعان ما خابت بسبب الثورة المُضادة التي قام بها نظام مبارك القديم.
   
   أولى علامات الثورة المُضادة كانت وصول "أحمد شفيق" أحد رجالات النظام السابق الى الجولة النهائية للانتخابات الرئاسية حيث حصل فيها على ما يزيد عن 48% من الأصوات ، وهذا كان بمثابة اعلان عن مدى صلابة وتماسك أركان النظام القديم، رغم الانهيار الدراماتيكي المُفاجىء لرأس النظام.
   
   استمر مسلسل الثورة المُضادة بعد أن تحالفت قوى الحرس القديم مع القوى المدنية والعلمانية المُناوئة للأخوان وتوحّدت أهدافها في اسقاط حكم الأخوان ، رغم تعدد الأجندات واختلاف الأسباب ، وكان لها في النهاية ما أرادت ، وها هي تتوج نجاحها اليوم بترشُّح "السيسي" للرئاسة أو بالأحرى "الاعلان المُبكر عن اسم الرئيس المصري القادم".
   
كيف نجحت الثورة المُضادة؟

   كما أشرنا فان الثورة المُضادة أثبتت فعاليتها سريعاً ، وبرهنت أنها قادرة على اعادة تصنيع رموزها وتجديد نفسها، فمع بدء الحراك الشعبي تصدّر عمر سليمان واجهة الأحداث ، وتم تقديمه على أنه رجل المرحلة، وعندما فشلت محاولة التجديد هذه تصدّر المجلس العسكري الصورة وقام بسحب البساط من تحت أقدام شباب الثورة ، وأستولى على الحكم المؤقت ، وسط فرحة عارمة بسقوط مبارك أنست الشعب أنهم استبدلوه بالمجلس العسكري.
   
   وبعد أن فشل المجلس العسكري في تقديم شخصية توافقية تحظى بدعم الجماهير ، وأصرّت قوى الثورة على الخروج من عباءة الحُكم العسكري ، تصدّر شفيق الأحداث واستطاع بديبلوماسيته وخبرته وحنكته أن يكون فرس الرهان ، ولكنه فشل في الأمتار الأخيرة أمام شعبية الاخوان ودعم شباب الثورة للدكتور مرسي.
   
   وبعد وصول الاخوان الى الحكم بدأت الثورة المُضادة باستغلال كل نفوذها لمحاربة نظام الحكم الجديد ، مُستخدمةً دعم مؤسسات الدولة التي ما زالت وفيّةً لها ، وكذلك دعم قطاع رجال الأعمال ، بالاضافة الى السلاح الأقوى والأكثر فعالية الا وهو (الاعلام) ، وبهذا استطاعت في النهاية أن تُفرّق بين الاخوان وشركاء الثورة ، ساعدهم في ذلك أخطاء الاخوان أنفسهم بالاضافة الى تنامي التيار العلماني في الدولة ، ورويداً رويداً خسرت حركة الاخوان مُناصريها وفقدت الكثير من شعبيتها ، فكان من البديهي أن يتم توجيه الضربة القاضية لها تحت شعار "مطالب الشعب لتجديد الثورة".
  
   ومع كثرة البدائل امام الثورة المُضادة خلال الأحداث الأخيرة وتشكيل ما يسمى ب "جبهة الانقاذ" أخذ السيسي زمام المباردة وأستغل نفوذ الجيش والقوى الأمنية الضاربة ليقدم نفسه بطلاً قومياً ، ويُعيد الهيبة للعسكر ، وللحرس القديم ، ويقدم أوراق اعتماده ، رئيسا قادماً للبلاد بعد حصوله على مباركة أركان النظام القديم.
  
   خلال السنوات الثلاثة الأخيرة، قام نظام مُبارك بتطوير نفسه ، واستطاع أن يُجاري الأحداث وأن يتفوق في النهاية على الثورة المصرية ، بعد أن خسر الجولة الأولى بشكل سريع ومُفاجىء وها هو يعيد انتاج نفسه من جديد ، ويقدّم لنا نموذجا مُطورا وحديثاً من العهد القديم ، السيسي "آخر اصدارات الثورة المُضادة" ، أهلاً بالعهد الجديد !!

 أيمن أبولبن
11-2-2014




Ayman_abulaban@yahoo.com

السبت، 8 فبراير 2014

مأساة الشعوب العربية ومسلسل "الجريمة المُضاعفة"


   في حرب لبنان عام 82، قامت اسرائيل بجريمة مُضاعفة، الجريمة الأولى كانت استخدامها أسلحة مُحرّمة دولياً ،أما الجريمة الثانية أو المُضاعفة فكانت استخدام الأسلحة التقليدية بالاضافة الى الأسلحة المُحرّمة في قصف المدن الآهلة بالسكان، وبشكل عشوائي.
  
اسرائيل استخدمت القنابل العُنقودية لأول مرة في تاريخ المنطقة، وأستخدمت أيضاً قنابل النابالم، مما أدى الى سقوط ضحايا بأعداد كبيرة من المدنيين، عدا عن الدمار الكبير في البنية التحتيّة. وعند تصاعد الاحتجاجات على الصعيد الدولي من قبل الجهات ذات العلاقة، قالت اسرائيل انها كانت تستهدف الميليشيات الفلسطينية التي تتمترس في المدن وتستخدم المدنيين "دروعاً واقية" ، وتختبىء في المناطق الآهلة بالسكان ، وبالتالي فان المسؤولية تقع على عاتق المقاومة الفلسطينية أو بالأحرى "منظمة التحرير"، في محاولة منها لتحويل الضحية الى جاني، وهذا ما يُسمى في عُرفنا "عُذر أقبح من ذنب" !!

   هذه الأعذار استخدمتها اسرائيل لاحقاً في حربَيْ غزة، وفي حربها ضد حزب الله، كما استخدمتها أيضاً أبان قمعها للانتفاضة الفلسطينية الأخيرة. اللافت أن الادارة الامريكية أستخدمت ذات الأعذار في حروبها في المنطقة بدءاً من حرب الخليج الثانية فالثالثة مروراً بحرب افغانستان، بل انها أستخدمت أعذاراً أكثر وقاحة، عندما كانت تنسب جرائمها ضد المدنيين الى خطأ في توجيه الصواريخ، أو الى عدم دقة المعلومات المخابراتيّة التي تحصّلت عليها، هكذا بكل بساطة، كما حصل في ملجأ العامريّة على سبيل المثال لا الحصر، فالانسان العربي أو بالأحرى أي انسان من دول العالم الثالث لا يساوي عندهم سوى "برقية اعتذار" أو تصريح اعلامي مُقتضب !!

   وبما أن جميع الأنظمة القمعيّة في العالم أجمع،  تشترك بصفة ازدرائها لخصومها، واحتقارها لهم، فأن الأنظمة القمعيّة في منطقتنا أستخدمت نفس الأسلوب ونفس الأعذار، ولكن هذه المرة كان الخصم هو الشعب نفسه وليس أعداء الأمة !! ، فباتت مصيبتنا نحن الشعوب العربية مُضاعفة، لأن الجاني هذه المرة هو راعينا وحامينا والمُتربع على عروشنا.
  مُعمّر القذافي استخدم البطش والقصف والتدمير والحصار ضد شعبه تحت شعار " من أنتم؟!" أما النظام الانقلابي في مصر، فقام بقمع جميع المظاهرات وفض الاعتصامات المُناوئة له باستخدام القوة بل وبالرصاص الحي، تحت شعار "مكافحة الارهاب والحفاظ على نتائج الثورة" !!

   أما النظام السوري فحدّث ولا حرج، فمن استخدام استراتيجية الأرض المحروقة تحت شعار "المؤامرة الكونية" ، الى محاصرة المدن وقصفها بالصواريخ التقليدية ، فالقنابل العنقودية ثم البراميل المتفجرة مؤخراً، تحت شعار  "مكافحة الارهاب" ، واليوم يُحاصر مخيم اليرموك الفلسطيني، ويرميه بالبراميل المتفجرة بل ويستهدف جميع من يحاول الهرب منه ، عبر قنّاصته المرابطين على مداخل ومخارج المخيم ، كما يحاصر مدينة حمص ، ويقصف مدينة حلب بالبراميل المتفجرة يومياً. كل هذا من أجل مكافحة الارهاب !!

   تُهمة الارهاب هذه ، تعيد الى ذاكرتي ما قاله الشاعر السوري الكبير نزار قباني في قصيدته "أنا مع الارهاب":

متهمون نحن بالإرهاب ...
إذا رفعنا صوتنا
ضد كل الشعوبيين من قادتنا ...
وكل من قد غيروا سروجهم ...
وانتقلوا من وحدويين ...
إلى سماسرة !!

   الشعوب العربية ، عانت كثيراً من أعدائها وحُكامها على حد سواء ، وارتُكبت في حقها أبشع الجرائم ، ولكن مسلسل الجرائم المُضاعفة والمُركّبة لم يتوقف عند هذا الحد، بل لعلّه تعمّق وازداد ايلاماً عندما وقفت طائفة كبيرة من المثقفين والشخصيات العامة ورموز المجتمع الى جانب الطغيان ، على حساب الشعوب المسحوقة، بعدما انسلخوا من جلدهم وتنكّروا لكافة مبادئهم.

   كنا نعوّل عليهم الكثير، ونعلّق عليهم آمالاً كبيرة، و نظن أنهم سيكونوا لنا نبراساً مع بدء الحركات الشعبية ، خاصةً أنهم أمضوا السنوات الماضية وهم يتشدقون بالدعوة الى التغيير والثورة على الظلم والديكتاتورية ، واذ بهم ومع أول اختبار حقيقي ينحازون الى جانب الظلم والاستبداد ويساندون الطغاة !!

   هي فرصة اذاً ، للدعوة الى تغيير شامل في مفاهيمنا ، واسقاط كافة الرموز المصطنعة التي صنعناها بأنفسنا ، وكنا السبب في شهرتها ونجوميتها ، فالرمز الحقيقي هو الذي يقف في وجه الظلم في "عالمنا الحقيقي" ، وليس في وسائل الاعلام وخلف الكاميرات ، أو في العوالم الافتراضية ، أما من يقف مع الظلم والطغيان والديكتاتورية في اي مكان على حساب تطلعات الشعوب ومطالبها بنيل حريتها وكرامتها، فهو لا يعاني فقط من خلل في مفاهيمه ومبادئه، بل انه يعاني من مشكلة حقيقية في انسانيته.

أيمن أبولبن
1-2-2014






الجمعة، 31 يناير 2014

الجرح الفلسطيني الغائر، من تل الزعتر الى مخيم اليرموك


     لا شك بأن الفصائل الفلسطينية أخطأت عندما وقعت في فخ استدراجها للوقوع في المستنقع السوري، كان عليها أن تنأى بنفسها عن الخوض في هذه النزالات دفاعاً عن النظام أو حتى دفاعاً عن الثورة السوريّة، ولا شك أيضاُ بأن قيادات هذه الفصائل "السياسية" تتحمّل جزءاً من المسؤولية تجاه ما يحصل للاجئين الفلسطينيين في سوريا، حيث كان عليهم أن يدركوا أن أي موقف سياسي يتخذونه سواءً مع أو ضد النظام، سينعكس على أهل المخيمات، ولكن المسؤولية الأولى وتبعيّة ما يحصل حالياً من قتل وتجويع وحصار، يقع على عاتق الحكومة السورية والنظام السياسي في البلد ، ولا أقصد هنا المسؤولية الأخلاقية فقط، بل المسؤولية المدنيّة والجنائية والدولية ، حسب الأعراف والمواثيق المتفق عليها، ولوائح حقوق الانسان، فأي دولة في العالم مسؤولة بأن تحافظ على حياة الانسان على أراضيها، وكرامته وكرامة عيشه ، ضد أي اعتداء ، سواءً من الأجهزة الحكومية والرسمية، أو حتى من الجهات الخارجية المتواجدة على أراضيها.

   النظام السوري على مدار العقود الماضية استغل ضيافة الفصائل الفلسطينية على أرضه للضغط على أبو عمار ومنظمة التحرير لتبني رؤيا النظام السوري الخاصة في المنطقة، وللاحتفاظ ببعض الأوراق السياسية المهمة، كي يبقى لاعباً مهماً ورقماً صعباً في أي حوار أو حل مستقبلي في المنطقة، واستطاع اقناع هذه الفصائل أن منظمة التحرير قد تخلت عن ثوابت القضية وعن مبادىء الثورة الفلسطينية، ولكنه في نفس الوقت احتوى هذه الفصائل ومنعها من القيام بأي عملية عسكرية أو أية مناوشات من أراضيه، تطبيقاً لشعاره "المقاومة والممانعة عن بُعد " ، وعندما تخلت عنه هذه الفصائل أو بعضها ، لم يعد للقضية الفلسطينية ولا حتى للانسان الفلسطيني لديه أي أهمية، وبدأ رحلة انتقام شرسة، تماماً كما فعل في تل الزعتر من قبل. وقد قالها مسؤولو النظام علناً أن بعض الفصائل الفلسطينية ناكرة للجميل، وأن هذه الفصائل -ومن ينتمي اليها- قد عضت اليد التي مُدّت لها.

   النظام السوري يستخدم اليوم ذات الأعذار القبيحة، التي أستخدمتها الأنظمة القمعية والاستعمارية في المنطقة من قبل، ويتذرع بوجود مُسلّحين داخل مخيم اليرموك، في محاولة لتحميل المسؤولية لهم ولأهالي المخيم فيما يحصل من حصار وقتل وتجويع، ولكن الحقيقة أن النظام السوري يقوم بفرض عقاب جماعي على كل قاطني المخيم، لأن أحداً منهم تجرأ على الوقوف ضده، وهذا ليس مستغرباً من نظام فاشي، عاقب أبناء شعبه ونكّل بهم لا لشيء، سوى أنهم طالبوا ب"شويّة كرامة" ، والأنكى من ذلك أن السلطة الفلسطينية، لم تكتف بالتخلي عن كل مسؤولياتها أمام اللاجئين الفلسطينيين بل كررت نفس الاسطوانة المشروخة وأتهمت الفصائل الفلسطينية على لسان رئيس السلطة بالخيانة والعمالة ؟! ممثلو السلطة الفلسطينية يأتون الى دمشق لزيارة الأسد وأعوانه والشد من أزرهم ، بدلاً من التوجه الى المخيم لنجدته.

      لا أدري كيف يقوم بعض المثقفين وأبواق النظام السوري بالترويج لهذه الشعارات والترهات الفارغة، وينسون أن النظام نفسه ارتكب الخطيئة الكبرى (في بداية الحراك الشعبي ) عندما أغمض عينيه عن كل الحقائق ، وأغلق آذانه عن كل النصائح بل والاستجداءات بأن يأخذ المطالب الشعبية مأخذ الجد ، ويتبنى مشروع اصلاح حقيقي "سياسي" بدلاً من تبني الخيار العسكري, ولولا هذه الخطيئة لما وصلت البلاد الى ما وصلت اليه اليوم.

   مأساة مخيم اليرموك أسقطت ورقة التوت عن النظام السوري، الذي لم يكتف بمحاصرة المخيم ، وتَرْكِ أهله يصارعون الموت جوعاً ، بل أمطر المخيم بوابل من البراميل المتفجرة ، ونَشَر قنّاصته على مداخل ومخارج المخيم ، لاشباع غريزة القتل لديهم عبر استهداف كل من يحاول الخروج من جحيم المأساة التي يعيشها . ما يحدث حالياً في مخيم اليرموك، يرقى الى مستوى الفصل العنصري، والابادة الجماعية، وجرائم الحرب وقتل المدنيين، وعلينا جميعاً تقع مسؤولية توثيق هذه الجرائم ، ومطالبة المؤسسات الدولية ومنظمات حقوق الانسان ، بالقيام بواجبها ليس فقط في وضع حد لهذه الجرائم بل بالقصاص من جميع المسؤولين "السوريين وغيرهم" المتورطين في الجرائم المرتكبة بحق الشعب السوري عامةً واللاجئين الفلسطينيين في المخيمات.

  مخيم اليرموك، عرّانا أمام أنفسنا، أصبحنا نستحي من وجوهنا حين ننظر الى المرآة، مأساة مخيم اليرموك حركت شعور العجر والنقص فينا، فطفت على السطح وأصبحت بادية للعيان على ملامحنا، صور الضحايا وهم يحتضرون جوعاً أيقظت في داخلنا عقدة الضحية، وأعادت الى الأذهان مأساة النكبة فالنكسة ، و ذكريات مخيمات برج البراجنة وصبرا وشاتيلا !!!

  من العار علينا كشعوب أن لا نملك سوى الصوت والقلم والدعاء، فهل هذا يكفي لمواجهة أبشع الأنظمة، وأبشع المؤامرات في هذا الزمن الرديء ؟! من العار على حكامنا العرب، أنهم عجزوا عن ايجاد حل عربي للقضية السورية على مدار 3 سنوات، بل انهم زادوا الطين بلّة عندما تخلوا عن مسؤولياتهم واكتفوا بتمويل كل من يرغب في القتال، اعتقاداً منهم أنه أيسر وأقصر الحلول. 

أستذكر في هذا المقام قصيدة د. غازي القصيبي رحمه الله ، عندما خاطب مخترع "الفياغرا" قائلاً :

ياسيدي المخترع العظيم 
يامن صنعت بلسماً 
قضى على مواجع الكهولة 
وأيقظ الفحولة
أما لديك بلسم 
يعيد في أمتنا الرجولة؟
أيمن أبولبن
20-1-2014

موقع المقال في جريدة القدس العربي
Ayman_abulaban@yahoo.com

الاثنين، 27 يناير 2014

بعض الناس "خطايا فادحة"






      "المُجرمون مصيرهم الى النار"، قال خطيبُ المسجد ذات مرة، كنت ولداً صغيراً قد بدأٌ للتو حضور خطبة الجمعة بصحبة أولاد الحي. لم يكن مصطلح "المُجرم" من المفردات الدارجة ضمن قاموس لغتي الخاصة، كانت العبارة مُبهمة بالنسبة لي !! "بعد الموت، إما جنة و إما نار"، قال الشيخ ابراهيم مُدرسُّ اللّغة الانجليزية في مدرستي الابتدائية، كان شخصيةً محبوبةً عند الطلاب، يدُرّسُ اللغة الانجليزيّة ولكنه شيخٌ وداعية في الأساس، أسلوبه لطيف ومُحبّب في التدريس، ولكن مواعظه كانت حادّةً في بعض الأحيان.

      كنت صغيراً غضاً، ولمّا تعتركني الحياةٌ بعد، لأدركَ أن هناك ظلماً وجرائم في هذه الدنيا يستحق فاعلُها مصير النار، لم أكن أتخيل أن أحد هؤلاء البشر الذين أعرفهم واتعامل معهم قد يدخل النار !! كنت أنظر حولي كلما سمعتُ  مثل هذه العبارات، وأتمعّنُ في الأشخاص الذين يحيطون بي، وأدعو ببراءة الأطفال لهم جميعاً بأن لا يكونوا من أصحاب النار، ألتمس لهم العذر ان قصّروا في أدائهم لواجباتهم الدينية، وأقول في داخلي طالما أنهم يؤمنون بالله فلا خوفٌ عليهم، لأن الله غفورٌ رحيم.

   كنت اتمنى السلامةَ للجميع، للقريب وللبعيد، بما فيهم أولئك "الأولادُ المشاغبون" ولو أساؤوا التصرف معي. كنتُ أفكرُ مليّا عند سماعي لخبر وفاة أحد الأقارب أوالمعارف؛ تُرى كيف سيكون مصيره وكيف سيلاقي ربه؟! أفكر مليّاً وأدعو له بالرحمة.

   مرّت الأعوامُ؛ دخلتُ المرحلة الاعداديّة، وأطل علينا صيفُ عام 82، حاملاً معه أخبار الاجتياح الاسرائيلي للبنان، بهدف التخلص من براثن المقاومة الفلسطينية، استعرت الحربُ وزادَ البطشُ الاسرائيلي، المدينةُ تسقطُ تلو المدينة، المخيمات تحاصرُ وتُدكّ بالقذائف، وصل الزحف الى بيروت، بيروت تحت الحصار والقصف، اسرائيل تستخدم أسلحةً مُحرّمة دولياً، الأبرياءُ والمدنيون يُقتلون أو يشرّدون، رائحة الدم  تنتشر في المكان، لا استثناءات للقتل، الاذاعاتُ تنقلُ الجرائمَ أولاً بأول، كأنها قصةٌ روائيةٌ طويلةٌ في عالم افتراضي !!

 وزاد الطين بلّة عندما انضوت بعض الميليشيات العميلة تحت لواء الجيش الاسرائيلي، وأنبرت لتصفية الفلسطينيين في المخيمات تحت حماية الجيش الاسرائيلي، كانت الميليشيات تتعمّدُ استهدافَ النساء الحوامل، والأجنّة في بطون أمهاتهم ، انها حرب "بَقْر البطون"، مصطلحٌ جديدٌ يضاف الى قاموس لغتي !!







   بدأت أدركُ مدى الفظائع التي يُمكنُ أن يفعلها الانسان في حق أخيه الانسان. وبعد أن وضعت الحربُ أوزارها، قرأتُ ديوان محمود درويش "مديح الظل العالي" الذي يؤرخُ فيه مآسي هذه الحرب، أذكر مطلع القصيدة جيداَ :
                                



بحرٌ لأيلولَ الجديدِ

خريفُنا يدنو من الأبوابِ

 آه ، خريفنا يدنو من الأبواب، وربيع عمري لم يبدأ بعد !! لم يكن عقلي أو حتى خيالي يتصورُ أن تقع كل هذه الفظائع والمآسي في يوم من الأيام، وها هي تحدثُ على مرأى ومسمع الجميع،  ولكن لا حياةَ لمن تُنادي، كان عليّ أن أتعود على شعور الضحيّة هذا، لأنه سيلازمني طويلاً !

   برز حينها اسم "ارييل شارون" وزير الدفاع الاسرائيلي، "السفّاح" ، عرّاب حرب لبنان، والمُنسّق العام لكافة الفظائع والجرائم التي شهدتها هذه الحرب. أصبحت هذه الشخصية بالنسبة لي رمزاً للاجرام والشر، أصبح الأنموذج الذي أقيس به فظاعةَ الآخرين وقُبحهم، حتى أن أسمه قد أشتُقّ من كلمة "الشر". كلما أقترب شخصٌ ما من بشاعة شارون، كلما أدركتُ سوادَ قلب هذا الشخص، وقُربه من المصير الذي حذّرنا منه خطيب الجمعة ذات مرة.





   لاحقاً قمتُ بالبحث عن تاريخ شارون لأجد أنه مجرمُ حرب باقتدار غير مسبوق، فمن "قبية" مروراً بحرب أكتوبر وقتل الأسرى في سيناء، الى صبرا وشاتيلا. لم يرفّ لهذا المُجرم جفن، وكأنه يُقرّبُ قرباناً الى الآلهة كي ترضى عنه وعن شعبه، كان يقوم بكل هذه الأفعال وهو يظن في داخله أنه يعملُ عملاَ وطن
ياً يستحق عليه أن ينال الأوسمة !! قال له رؤساؤه عندما كان ضابطاً صغيراً : " لا تُرهق نفسك بالقراءة، فأنت لا تنفع الا للقتل" !!


  
رويداً رويداً بدأتُ أدركُ أن النار مصيرٌ حتميّ لكثير منا، وأنها جزاءٌ طبيعي لأفعال كثير من الناس، تماماَ كضرورة الجنة والنعيم للأبرياء والمظلومين.

   ومرت السنين، وكنتُ شاهداَ مرة أخرى على جرائم متتالية موقعّة باسم شارون؛ قمع انتفاضة الأقصى التي دججها هو بنفسه، وما تضمنها من مجازر بحق الشعب الفلسطيني، وعلى رأسها مجزرة "جنين"، وانتهاءَ بآخر جرائمه "على ما أذكر" اغتيال الشيخ أحمد ياسين، بعد الافراج عنه والتعهد بعدم استهدافه، ولكن لا عهد مع اسرائيل، كما يعترفُ شارون نفسه. كانت صور اغتيال الشيخ ياسين قاسية للغاية، شيخٌ مُقعَد يتم استهدافه وهو خارجٌ من المسجد بعد صلاة الفجر، بصاروخ جو أرض من طائرة هليوكبتر مقاتلة، لكم أن تتخيلوا المشهد !!

  "بعض الناس خطايا فادحة"، قال مظفر النواب في احدى قصائده، للوهلة الأولى، لم أستطع أن أهضم هذه العبارة القاسية، رأيت فيها خروجاً عن سياق الانسانيّة، واصرارٌ على  جلد الذات البشريّة. ولكني أصبحتُ اليوم "وللأسف" أدركُ أكثر من أي وقت مضى، أن بعض الناس خطايا فادحة في حق البشرية!!

قبل أيام قليلة، استرجعتُ وبشكل عفوي، هذه العبارة، بمجرد سماعي خبر وفاة ارييل شارون.

ارييل شارون الى جهنم وبئس المصير.




أيمن أبولبن
14-1-2014


 

السبت، 18 يناير 2014

الفن وأشياء أخرى

الفن وأشياء أخرى

   قديماً، كان الفن وسيلة للرقي بالمجتمعات ، كان للفن رسالة ذات قيمة. كان الفنان يعمل جاهداً لايصال رسالته الى الجمهور من خلال أعماله الفنية، سواءً من على خشبة المسرح او من خلال شاشات السينما او من خلال الموسيقى أو عبر لوحة فنية او كلمات تحتضنها قصيدة شعرية، وفي المقابل كان المُتَلقّي يشعر بأن الفن  ينقله من حياته الضيّقة الى أفق واسع لا حدود له، سوى حدود خياله هو، كلما توغل المُتَلقّي عميقاً في خياله وأطلق العنان لأفكاره ومشاعره، كلما استطاع أن يبلغ مدىً أوسع وأعمق من التأملات، والوصول الى حالة سامية من نشوة العقل والروح، هذه الحالة من السمو لا تتحقق الا اذا تلاقى الفنان مع المُتَلقّي من خلال فن راق وجميل، كما تلتقي الأرض مع السماء في يوم شتاء دافىء، لتُعانق أمطار الخير حبّات التراب، ويرتسم قوس قزح في الأفق، في لوحة فنية خلاّبة.

  الفن الجميل هو رسالةٌ تحمل فكرة ما، يرسلها الفنان ويتلقاها المستمع أو المشاهد، وكلما ارتقى الفنان بفنه وبرسالته، كلما ارتقى المجتمع، والعكس صحيح، فكلما تردّى الفن تردّت المجتمعات وانحدر المستوى الثقافي العام فيها. وما الفنون الا واجهة او انعكاس حقيقي لثقافات الشعوب، من موسيقى وأدب وفنون سينمائية ومسرحية .... الخ

  أذكر أني كنت في ندوة شعرية للشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش، ومنذ اللحظة الأولى التي اعتلى فيها خشبة المسرح، وخيّم السكون فيها على المكان، وبدأت الكلمات والصور الشعرية تنساب من بين شفتيه، وتنتشر في أرجاء المسرح، انتقلتُ لحظتها من حدود المكان والزمان وسافرتُ بعيداً الى "اللامكان" .  حالة النشوة هذه وصلت الى قمتها مع اختتام الندوة والقائه قصيدته الشهيرة "الجدارية"

هذا البحرُ لي
هذا الهواءُ الرَّطْبُ لي
هذا الرصيفُ وما عَلَيْهِ
من خُطَايَ ِ … لي
ومحطَّةُ الباصِ القديمةُ لي . ولي
شَبَحي وصاحبُهُ . وآنيةُ النحاس
وآيةُ الكرسيّ ، والمفتاحُ لي
والبابُ والحُرَّاسُ والأجراسُ لي



 غادرتُ الندوة، وانتقلت بجسدي الى خارج القاعة وتوجهت عائداً الى المنزل، ولكن شيئاً ما في داخلي كان ما زال عالقاً هناك في "اللامكان". أحسست باضطراب ولم أستطع أن أخرج من حالة النشوة هذه، وأمضيت بقية الليل شارد
 الذهن، تائهاً بين المكان واللامكان .

   الحقيقة انه عند بداية متابتعتي للشعر وللفن التشكيلي في صغري، كنت أجد صعوبة في استيعاب المعنى المختبىء بين السطور، أو استنباط جمالية الصور الشعرية ومراد الشاعر، وكان هذا دافعاً بالنسبة لي الى مزيد من القراءة والبحث والسؤال، أما الفن التشكيلي فكان لغزاً مُحيّراً بالنسبة لي، لم أدرك جماليته، الا بعد دخول أخي لكلية الفنون الجميلة، حيث ساعدني ذلك في التعرف على أساسيات الفن التشكيلي و تذوق هذا النوع من الفنون. ما أريد قوله أن هناك حاجة الى أن نرقى بانفسنا كي نستوعب مختلف أنواع الفنون، ونتحاور معها داخلياً، فتؤثر فينا، ونؤثر فيها، وهذا هو المقصد الرئيسي من الفن "من وجهة نظري".

   فما بال حال الفن في أيامنا هذه ؟! لم يعد الفنان يسعى للرُقيّ بالمُتَلقّي، بل أصبح همّهُ الوصول الى المُتَلقّي بأسهل وأسرع الطرق، لجمع أكبر عدد ممكن من المعجبين والمتابعين. ضاعت الرسالة وضاعت القيم الجميلة للفن، الا من فئة قليلة ومحدودة من الفنانين المُلتزمين. أصبح الهم الوحيد للفنان هو "النزول" بفنه الى مستوى عامة الناس كي يضمن أكبر عدد من المشاهدات والمتابعات واللايكات على صفحات التواصل الاجتماعي. أصبح شعار الفنان هذه الأيام للأسف "بَسّط حياتك وخليك كوول" !!
   الفن في أيامنا هذه أصبح يجاري الموضة، فهو فن خفيف أو "دايت" خوفاً من أن يُثقلَ على الجمهور، قهوة بدون كافيين ان جاز التعبير، أو وجبة خفيفة خالية من "الدسم"، أغاني أيام الزمن الجميل كانت تداعب عقولنا قبل أن تداعب قلوبنا ومشاعرنا، أما أغاني هذه الأيام فهي تداعب خصورنا وأقدامنا ، وقس على ذلك باقي الفنون !!

   حتى ان لغة المذيعين ولغة الحوارات الاعلاميّة، أقتربت من اللغة العامية الدارجة، وقليلةٌ جداً تلك البرامج الحواريّة التي تستدعي منك أن تُشنّفَ آذانك أو أن تتسمّرَ في مكانك خوفاً من ان تضيع منك كلمة في الزحام أو تغفل عن مصطلح ما أستخدمه المحاور، أو تعبير مجازي أستخدمه الضيف.

  نحن نعيش في مجتمعات وصل فيها الفساد الى منابت الفن، واذا أردنا ان نرتقي بمجتمعاتنا وبثقافاتنا من جديد، علينا أن نبدأ رحلة عكسيّةَ هذه المرة، علينا جميعا أن نحارب الفن الهابط والفاسد، علينا أن نمتنع عن المتابعة والترويج لكل أنواع الفن الهابط،علينا ان نشجّع ونهتم بالمسرح الجاد ومهرجانات المسرح التي تنظمها النقابات الفنية، علينا أن نعيد الاهتمام الى المسرح الجامعي، وبالحركات الثقافية داخل الجامعات، علينا الاهتمام بالمواهب الشابة المُثقفة والتي تحمل رؤية ثقافية بعيدة عن الفن التجاري،علينا ان نهتم بالقراءة ومتابعة المهرجانات الثقافية ومعارض الكتب، باختصار علينا ان نوصل رسالة للقائمين على الفنون في مجتمعاتنا نقول فيها احترموا عقولنا، وقدموا لنا فنّاً يرقى بنا لا فنّاً ينحدر بكم وبنا .   
 

أيمن أبولبن
10-1-2014
ayman_abulaban@yahoo.com

فيديو يوضح تدهور الأغاني العاطفية