الخميس، 19 أكتوبر 2023

الكلب والمرآة وحذاء غاندي!

 


 

‏‏يُحكى أن أحد الكلاب ضلّ طريقه في يوم من الأيام ودخل إلى أحد المتاحف، كان متحفًا فريدًا من نوعه، فالجدران والسقف والأبواب وحتى الأرضيات كانت كلّها مصنوعة من المرايا، بمجرّد أن رأى الكلبُ انعكاساته، أصيب بصدمة كبيرة، فقد رأى أمامه فجأة قطيعاً كاملاً من الكلاب التي تحيط به من كلّ مكان، كشّر الكلب عن أنيابه وهزّ ذنبه وبدأ بالنباح، فردّت عليه الكلاب الأخرى بالمثل، فنبح من جديد، وراح يقفز جيئة وذهابًا محاولاً إخافة الكلاب المحيطة به، فقفزت هي الأخرى مقلّدة إياه، وهكذا استمرّ الكلب المسكين في محاولة إخافة الكلاب وإبعادها دون جدوى!

في صباح اليوم التالي، عثر حارس المتحف على الكلب البائس خاليًا من الحياة، مُحاطًا بمئات الانعكاسات لكلبٍ ميتٍ أيضًا.

لم يكن هناك أحدٌ لإيذاء الكلب في المتحف، سوى انعكاساته هو، وكلّ شيء يحدث من حولنا ما هو إلاّ انعكاس لأفكارنا، مشاعرنا، أمانينا وأفعالنا. بمعنى آخر إن العالم الكبير المحيط بنا، ما هو سوى مرآة كبيرة، تعكس ردة فعلنا، وحسن أو سوء تصرّفنا؛ تقول إحدى الحكم القديمة، إنك لن تستطيع تغيير العالم من حولك، ولكنك تستطيع تغيير قناعاتك عن هذا العالم، وأن تتحكم بتصرفاتك وأفعالك.

 

في عام 1776 نص ميثاق الحرية الأمريكي على أن الفرد يتمتع بحرية "السعي نحو السعادة" أي أن للفرد الحرية في اختيار مسار حياته وتحديد تفضيلاته، بما يضمن له السعادة دون تدخل أي سلطة أو جهة ذات مسؤولية، وبهذا يكون للفرد الحق الكامل (حسب الدستور الأمريكي) في الحياة، والحرية، والسعي نحو السعادة، وهذا يتضمن أن تقوم الدولة بعمل كل ما يلزم لحماية هذه الحقوق وضمان حصول الأفراد عليها، ولكن أحداً لن يتدخل لتحديد سلوك هذا الفرد وضمان تحقيقه للسعادة، لأن هذا من شانه الاخلال بالضلع الثالث من مثلث الحريات الذهبي ألا وهو حرية الفرد في الاختيار!

ومن هنا كان الفرد وحده، هو المسؤول أمام نفسه لتحقيق سعادته، وليس المجتمع أو الدولة.

 

وهذا يفسّر مفارقة أن هذا العالم المتحضر التكنولوجي الراقي، يفتقد أفراده إلى الأمان الوظيفي والانتماء الاجتماعي والرضا الذاتي ويعانون من الأرق والضغط والاكتئاب، وازدياد معدلات الجريمة، ومعدلات الانتحار، في الوقت الذي تتعاظم فيه معدلات استهلاكنا اليومي، وتزداد فيه المتع والملذات المادية من حولنا يومأ بعد يوم!

 

لقد تضاعف الدخل اليومي لعائلاتنا بشكل غير مسبوق، وتحسّنت جودة الحياة، وساهمت التكنولوجيا في حل الكثير من المشكلات، وساهمت في تيسير وتسهيل حياتنا، وانخفضت نسبة الأوبئة والأمراض والوفيات المبكرة، ووفيات الأطفال المبكرة، وأخطار البيئة – إلى حد كبير - ولكن كل هذا لم يسهم في شكل رئيسي ومباشر في تحسين المشاعر الايجابية، وتعزيز الشعور بالرضا والسلام الداخلي عند الأفراد!

 

وهذا يقودنا إلى القول مرة أخرى، أن نظرتنا إلى العالم هي التي تتحكم بمشاعرنا الايجابية والسلبية، وأن طريقة تعاطينا وتعاملنا مع الظروف المحيطة، هي التي تتحكم بمزاجنا، ومشاعرنا الايجابية والسلبية، وبالتالي فإنها تتحكم في سعادتنا ودرجة رضانا، فالسعادة ما هي سوى تحقيق المشاعر الايجابية والتخلص من الألم والمشاعر السلبية.

 

تعامل مع من حولك بلطف ومودّة

 

بالعودة إلى القصة القصيرة التي نقلتها في مقدمة مقالي هذا، فإن أول وأهم خطوة في طريق تغيير نظرتك إلى العالم، هو تغيير نظرتك إلى الآخرين، تعامل مع الناس بمودة ولطف ومحبة، لا تفترض فيهم السوء أو إضمار الشر لك، كن منفتحاً على الآخرين، كن صريحاً ولا تجامل، لا تخاف من النقد ولا تخشى الفشل، غامر بحسن النيّة، وامنح الثقة لمن حولك، وسترى أن هذا سينعكس إيجاباً عليهم ثم عليك.

 

ساهم في نشر الايجابية

 

بادر أنت في خلق حلقات ودوائر من المشاعر الايجابية ونشرها في نطاق أوسع، ولا تتعذر بأن الآخرين أشرار وسيئو النية....الخ لأنهم يرونك كما تراهم، تماماً كصاحبنا الكلب ومرآته!

 

قد تتعرض في بعض المراحل لأوقات عصيبة، ومشاعر سلبية وظروف قاهرة، هذه سنة الحياة، ولكنها لن تدوم، اصبر واحتسب، ولا تدع للقلق والخوف والندم الفرصة لتغيير قناعاتك، هناك ضوء في نهاية النفق، وهناك أشياء ايجابية دوماً، ركّز عليها، والتزم الهدوء وتحلّى بالصبر، وستجد انك وبعد كل تجربة سيئة عدت أقوى من قبل وأكثر إصراراً!

تذكّر أن عظماء التاريخ والأنبياء عانوا من قبلك من أشد وأخطر مما مر وسيمرّ عليك، لا تركن إلى أنك مشؤوم وأنك قليل الحظ، أو ان نصيبك في الحياة هو هكذا!

 

ترجم الأخطار إلى فرص

 

في علم الادارة تعلّمت أن أصنع من كل تحدٍّ فرصة جديدة، وأملاً للمستقبل، فخلف كل مأساة قصة حياة!

صعد غاندي وهو شاب صغير إلى أحد القطارات المزدحمة، وعلقت قدمه في الزحام، فسقطت فردة حذائه من القطار، فما كان منه إلا أن خلع فردة حذائه الأخرى وقذف بها!

ظن المحيطون به أنه انزعج من فقد فردة حذائه فعبّر عن ذلك بهذه العصبية، وحين سألوه قال لن أستفيد من فردة حذاء واحدة، ولن أستطيع استرجاع فردة الحذاء من خارج القطار، ولكني أستطيع أن أمنح فردة الحذاء الأخرى للشخص الذي سيعثر على فردة حذائي المفقودة فيستفيد منها!

موقف بسيط ولكن التاريخ سجّله لما فيه من سمو في التفكير واعتبار للحياة، فتصرف غاندي يعكس تماماً قيمة الحياة لديه ومفهومه عن الآخر!

عندما نظر غاندي إلى مرآته استطاع أن يخترق الحواجز ويرى على الطرف الآخر من المرآة، فقيراً يبحث في الفناء فيجد فردتي حذاء جديد فيسعد بهما، لقد صنع غاندي من فقدان حذائه ومشقة السفر حافي القدمين، فرصة لفقير آخر كي ينعم بما افتقده هو!

 

حافظ على حياة نشيطة ومتوازنة

 

حافظ على نظام حياة صحي، نشيط ومتوازن، فالحياة النشيطة والمتوازنة تساهم في تعديل المزاج العام والصحة النفسية، وتساعد على انطلاقتنا الايجابية في الحياة، وعلى العكس من ذلك فإن الكسل والركون إلى الروتين يدفعان بنا إلى الاكتئاب والسلبية.

 

املىء أوقاتك بأشياء إيجابية واشرك من حولك في هذه النشاطات، فممارسة النشاطات الاجتماعية، مع الأصدقاء والأقرباء وزملاء العمل مفيدة جداً في كسر الجمود وتعميق التعارف ونشر الأجواء الايجابية.

 

جدّد من حياتك

إن الثابت في الحياة هو سنة التغيير، أما الجمود فيعني التخلي عن الركب والتخلف عن القافلة، لهذا عليك أن تسعى دوماً لتعلم أشياء جديدة واكتساب مهارات جديدة، إن القراءة والكتابة والتعلّم وممارسة الفنون ومتابعة المستجدات، والاستمتاع بالطبيعة هي بواعث أمل وعوامل ايجابية لنا، وفي ذات الوقت فهي طاردة للمشاعر السلبية.

 

حب العالم والارتباط به يبدأ بحب الذات والامتنان لما أنت عليه، وتقدير النعم التي أنعمها الله عليك، ثم تكتمل الحلقة بالارتباط بالله والتعلّق به، فكلما اقتربت من الله واستشعرت تلك القوة العظمى، وانتماءك لهذا النظام الكوني، ودورك فيه، كلما أصبحت نظرتك إلى الحياة وإلى العالم أكثر إيجابية!

 

خلاصة القول أنك أنت وحدك، من تحددّ حياتك وتسيطر على عالمك، وليس أي أحدٍ آخر، وكلما مررت بظرف سيء وواجهت الصعاب، والتف حولك الأعداء، تذكّر الكلب والمرآة، أو تذكّر حذاء غاندي!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

30-9-2023

السبت، 14 أكتوبر 2023

كونوا رُحماء



 إعادة نشر قصيدة "كونوا رحماء" التي كتبتها أثناء حرب #غزة عام 2009
 
تنويه:
نظراً لكثرة ما حصل من اقتباسات ونسخ ولصق لمحتوى هذه القصيدة من قبل العديد من الصفحات والمواقع يرجى نشر القصيدة من خلال الرابط أو الاشارة إلى كاتبها، مع الشكر
 
#طوفان_الأقصى

 


كونوا رُحماء
عندما تمرّون من سمائنا الجريحة
النازفةِ دماً أبيضاً
والمحترقةِ لوعةً وحسرة
وتخترقون هذه الفوضى العبثيةِ المُمعنة في الدمارِ
وتقتربون من ضحايانا ، لتقبضوا أرواحهم …….
كونوا رُحماءَ ، معهم
لعلّهم يمحون صورة الحصارِ
والدمارِ
من ذاكِرَتهم
ويستبدِلون صورةَ الوطنِ الحُلم
بوطنٍ أجملٍ وأحلى
………. لعلَّ

——————————-

عندما تصعدون بأرواحهم الى السماء
توقّفوا قليلاً ……. في سَماءِ غزّةَ
دعوهم يشتمّون عبيرَها
ويجولون بنظرهم في أرجائها
دعوهم يُلقون نظرةَ الوداعِ الأخيرةِ
ويُسدِلون الستارةَ على وطنٍ
 ماتوا دونهُ
وطنٍ ، ولِدوا فيه
وعاشوا فيه
وماتوا فيه
دون ان يَنعموا به

——————————-

هناكَ ، في ذلك المدى المفتوحِ للرحيلِ
والغيابِ
اشلاءُ طفلةٍ
فقَدَت أباها في خريفِ الانتفاضةِ
فقدت دُميتها …..وحقيبتها المدرسيةِ
تحت انقاضِ ما تبقّى من بيتها
و هناكَ ، بقايا ما تبقّى من طفلٍ حريقٍ
كان يَحلُمُ أن يكونَ ……..
انساناً …..ليس إلا
يفيقُ في الصباحِ
على صوتِ المنبّه لا صوت الإنفجاراتِ
يتناولُ إفطاره مع صِغارهِ
يطبعُ قبلةً على وجنةِ حبيبتهِ
ويتوجّهُ الى العملِ
ينفثُ دخان سيجارته ، لاعناً رئيسه
يعودُ في المساءِ منهكاً …..متعباً
يشاهدُ التلفازَ
وآخر أخبار الحربِ على جُزر الهاواي
يشعر بغُصّة …….وينام

——————————-

عندما تنتزعون روح فتاةٍ
في مُقتبل العمر
فقدت حبيبها المراهقَ قبل يومينِ
ودّعت أشلاءَه
رأسه ، وطرَفهُ الأيمنُ مع بعضِ أجزاءِ ملابسهِ
وفي المساء تدفأت على رسائلهِ الغراميةِ
بعد أن نفذَ الغاز والوقودُ
كما نفذ الهواءُ
وكلُ شيءٍ هنا
سوى صوتُ الطائراتِ
والإنفجاراتِ
وصوتُ شهقاتِ الأمواتِ
لحظة أن ………. تقبضوا أرواحهم
لم يعُد للجمالِ عندها  معنى
ولا للوقوفِ أمام المرآةِ  
معنى
ولا الوقوفُ أمام نافذةِ البيتِ المطلّةِ على واجهةِ الشارع
لهُ معنى
ولم يعُد للنظراتِ والإبتساماتِ
وتبادُل الأشعارِ 
معنى
لم يعُد هناكَ معنى لأي معنى
هو معنىً واحدٌ بقِي لهذه الفتاة
أن تموتَ
وحدَها
لا لأن جلادَها يريدُها أن تموتَ
ولكن … لأن
على هذه الأرض ….. ما يستحقُ الموتَ من أجله
كما أن
على هذه الأرض ما يستحقُ الحياة

——————————-

عندما تقبضون روح مُقاومٍ
مقاتلٍ
صامدٍ
هنا  ، على هذه الأرض
رغمَ ما صار
وما يصيرُ
وما سيصيرُ
كونوا رُحماءَ معه
قد لا يبدو لكم أنه جُنديّ نظاميٌ
فهو لا يرتدي بزّةً عسكريةً كنُظرائِه
لا يلبسُ خوذةً ولا يحملُ على ظهره حقيبةً
فوضويّ الهندامِ
لم يتلقّ دروساً في العسكريةِ
ولا نياشيناً
لكنّه رضع حبّ هذا الوطن من آهات صدرِ أمه
ومن أوجاع أهله
ومن قِصص جدّته
أتقن رميَ الحجارةَ منذ نُعومةِ أظفاره
كانت اللعبةَ الوحيدة التي أحبها في صِباه
لم يُتقن لُعب الكرة ولم يهوى لُعب الورق
قد يبدو لكم متجهّما
عابساً
مطلقاً لحيته
بلا تشذيبٍ ولا عنايةٍ
ولكنّه يحملُ بين أضلاعه قلبَ طفلٍ كبير
لم يعرف الطفولةَ بعدُ
ولم يتّسخ بأقذارِ هذه الدنيا

——————————-

قد يقاومكم
عندما تقبضون روحه
ليس خوفاً من الموتِ
ولكن لأنه
إعتاد على المُقاومة
في ما مضى
و اليوم
هو أحرصُ ما يكونُ على الحياةِ
لأنه في هذه الليلة
عندما لوّح لأمّه مُودّعاً
تلوّع قلبُ أمه
وأظهر ما كان يُخفيهِ من خوفٍ   
في هذه الليلة
كان دُعاء أمه مختلفاً
عن ايّ ليلةٍ سواها
يجعل يومي قبل يومك ، يمّه
يجعلك تدفنّي بايديك ، يمّه
ما يدفنّي حدا غريب "

كونوا رُحماءَ معه
ما كان لروحِه أن تُطاوعكم
قبل أن يبرّ بدُعاء أمه
كي لا يكون عصيّا
——————————-
أيتها الملائكةُ
تلكَ التي تقبضُ أرواح ضحايانا
و تصعدُ بها الى
آخر آخر مُنتهاها
كونوا رُحماء
كونوا رُحماء

أيمن يوسف أبولبن
 13-1-2009

السبت، 22 يوليو 2023

الحنينُ إلى الذات

 



 

‏من منّا لم يمر بمرحلة البحث عن الذات، أو محاولة الاجابة عن الأسئلة الوجودية عن ذاته، لوجوده كإنسان، عن غاياته العظمى في هذه الحياة؟

أكاد أقول أن جُلُّنا قد مرّ بهذه المرحلة من الوعي الذاتي، أو القفزة التنويرية، التي نقلته إلى مرحلة فكرية واعية متقدمة عن سابقتها، ربما بسبب حالة من التجلّي الفكري، أو البحث والتأمل، أو بسبب تجربة صعبة وصادمة مثل الحرب والمرض أو فقد عزيز، أو لقاءٍ مع أحد الأشخاص الذين كان يخبأهم القدر لنا، لإحداث تغيير جذري في حيواتنا، أو لسبب آخر خطر على بال القارىء وهو يقرأ هذه السطور، وغاب عن ذهن الكاتب!

 

لقد تناول الفيلسوف ورائد التحليل النفسي الشهير كارل يونج فكرة "الصحوة الروحيّة Spiritual Awakening" وقال عنها بأنها الجزء الجوهري لوجودنا الإنساني، إذ بدون هذه القفزة الروحية، والارتقاء الفكري، وما يتبعهما من تغيرات في أسلوبنا الحياتي ومراجعةٍ لقيمنا العليا، فإن حياتنا الانسانية ستبقى تراوح مكانها، وستكرر البشرية نفسها من جديد، بلا تحديث أو إضافة حضارية.

 

مفهوم الصحوة الروحية ورد في الثقافات القديمة كذلك بل وحتى في الأديان حول العالم، بصورة أو بأخرى، ويتلخص هذا المفهوم في تغير نظرة الفرد إلى ذاته وعلاقته بالعالم والكون المحيط به، وكأنه يعيد النظر في هذا الوجود من جديد، وفي دوره فيه.

 

وتترافق هذه الرحلة الفكرية، بشعور الفرد بالرغبة في العزلة، والتأمل الفردي بعيداً عن الدوائر المحيطة به، حيث يبدأ بمراجعة كل مسلّماته في الحياة، والتشكيك في كل الثوابت وبدء مرحلة "البحث عن الحقيقة"، ورحلة البحث هذه لن تبدأ سوى بالبحث عن حقيقة ذاته أولاً!

 

ومن أجل الوصول إلى هذه الغاية سيبدأ هذا الفرد بالابتعاد "ولو معنوياً" عن الأشياء والأشخاص الذين اعتاد الاستماع لهم والاستمتاع برفقتهم، لرغبته الشديدة في تكوين مفاهيم جديدة تمس كينونته، وتنبت من أصوله هو.

 

ومن شأن هذا أن يؤثر على الأشخاص المحيطين به، الذين قد لا يكترثون للأمر، أو لربما يزعجهم هذا التغيير والتحوّل إذا صح التعبير، وهنا تبدأ مرحلة جديدة تتمثّل في إعادة ترتيب علاقاته وإعادة النظر فيها من جديد، وقد يضطر إلى اتخاذ قرارات مفصلية في التخلي عن البعض، وإقحام البعض الآخر، وهذه قصة أخرى، يطول الحديث عنها، ولعل مكانها في مقال آخر!

 

ثم يشرع بمراجعة معتقداته وقيمه الروحية ومناقشتها، والبناء عليها، أو تبني معتقدات جديدة، سواء تجلّى هذا الأمر بالارتباط بشكل عميق بالدين أو بالارتباط بمعتقد جديد، أو تغيير مجاله المهني والوظيفي، أو السعي وراء موهبة كامنة، بحثاً عن ذاته أو كما يتم ترديده كثيراً هذه الأيام بحثاُ عن "شغفه الحقيقي".

 

ومع استمرار هذه الحالة النقدية، والمراجعة المستمرة، يبدأ الشخص بإعادة ترتيب أولوياته في الحياة، وتحديد أهدافه بشكل أوضح وأكثر تحديداً، رغم أنه في البداية سيشعر بأنه تائه وسط طود عظيم من الأفكار، التي تعصر به وتقذف به يميناً وشمالاً، إلا أنه سيكتسب الثقة يوماً بعد يوم، وسيتمكن من فلترة تلك الأفكار، للوصول إلى أهدافه الحقيقية التي تتماشى مع طبيعته.

ولعل هذه هي أخطر مراحل الصحوة الروحيّة إذ أن غالبنا لا يتجاوزها بنجاح، بل يغرق في موج الأفكار هذه، ثم لا يلبث أن يجد نفسه تائهاً في الصحراء، دون مرشدٍ، أو نجمٍ يهتدي به، وسرعان ما يعود إلى وتيرة حياته السابقة، مُحملاً بخيبة الأمل!

 

ولكنه إذا ما عبر هذه المرحلة بنجاح، فإنه وبالتأكيد سيتمكن من الحصول على تلك الانفراجة في الرؤية، تلك الطاقة الروحية التي فتحت نافذتها لهذا الشخص ليبصر من جديد، وحينها لن يعود هو كما كان ذات يوم، كما أن العالم الذي عرفه لن يعود ذاته أبداً، وهنا بالذات سيكون قد تجاوز نقطة اللاعودة إلى الأبد!

 

إعادة إكتشاف الذات، تعني إعادة اكتشاف قدراتنا، وحدسنا، وشغفنا، وشخصيتنا، سنشعر بطاقتنا الروحية من جديد، وسنكتشف قدرات ومواهب جديدة كانت مدفونة تحت غلافنا الخارجي، ولربما طمسناها لنتماهى مع من حولنا، ومع هذه الاكتشافات والطاقات الجديدة المنبعثة فينا، سنشعر ولأول مرة ربما، أننا بتنا أكثر انسجاماً مع أنفسنا، على عكس ما كنا نظن في السابق!

ولعلّ أهم نتائج هذه الرحلة هي الوصول إلى التوافق الروحي؛ أن نصبح نسخة أفضل من أنفسنا، قادرة على الإجابة عن تلك الأسئلة التي كانت تؤرقنا، بل إننا نكون قد أسّسنا لعهد جديد، لقفزة فكرية وروحيّة ستفتح لنا آفاقاً جديدةً، وورؤية أكثر اتساعاً وجمالاً وحيويةً!

وهذا التوافق الروحي سينعكس علينا إيجاباً في الانصهار في المجتمع بشكل أفضل وأكثر سلاسة، فاليقظة الروحية لا تعني ممارسة حياة النسّاك، بل على العكس تماماً، فهي تزيد من وعينا المجتمعي وتعاطفنا مع القضايا العامة والانسانية.

 

وهي رحلة لا شك طويلة وشائكة، بل ومستمرة، ومن أجل الاستمرارية علينا أن نجد الأجوبة المناسبة، وملءَ الفراغات الروحية، وفي سبيل ذلك علينا أن نتخلى عن خداع الذات، فاليقظة الروحية تتطلب تنظيف الجسد أولاً والفكر ثانياً، من أجل بناء شخصيتنا من جديد، ومن ثم البدء بتغيير واقعنا، والعالم من حولنا، إن استطعنا، ولن نتمكن من هذا إلا إذا واجهنا أنفسنا بالحقيقة، وتخلّينا عن كل الأعذار والتسويفات، وعن كل القيود التي تحدّ تفكيرنا، وتشلّ حركتنا.

 

هي رحلة مستمرة، قد تستغرق عمراً طويلاً، يتخلّله صعودٌ وهبوط، ولكن بغض النظر عن مدى الصعوبات التي تواجهنا، والاخفاقات التي تحدث لنا في بعض الفترات، علينا دائماً النهوض والمحاولة من جديد، للوصول إلى الهدف، للوصول إلى ذواتنا، إلى أعماق أعماق ذواتنا، هي رحلة إلى الذات، يدفعنا لها، ذلك الحنين، الحنينُ إلى الذات!

 

 

أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

24-3-2023


رابط القدس العربي

في المساءِ

 



 

في المساءِ، أعشق الهدوء والجلوس وحيداً، أجلس ومن حولي كل شخوص النهار، أحاورهم ويحاورونني، بلطف وحيادية بعيداً عن شحناء النهار.

 

في الليلِ تهدأ النفوس، وتزدانُ بالحكمة وطول النظر فتتجاوز توافه الأمور، وتنظر إلى ما أبعد من ذلك.

 

في المساءِ تقترب السماء من الأرض، تُطلّ النجوم على البشر، تتجوّل الملائكة على الأرض، لتنثر الهدوء والسكينة.

 

حين تتجولُ في المساءِ، وتنظر إلى أعلى، تستطيعُ إن دقّقت النظر، وإذا حباك الله بكشفِ الغطاء، أن ترى عيوناً في السماء، تحرسك وتسهر على راحتك!

 

تستطيعُ إن ركّزت أكثر، أن ترى أرواحا في السماء، قد غادرت عالمنا منذ زمنٍ ليس بقليل، تتجوّل مُطمأنّة، تتسامر فيما بينها، وحين تلتقي عيناك بأعينهم، تشعر أنك أصبحت بينهم، أو أنهم أصبحوا قربك!

 

نعم، في المساء، يحدث كل هذا، لذا فأنا أعشق المساء، وأعشق الهدوء والسكينة، أعشق الجلوس وحيداً، أنا لا أحب الوحدة، ولكني أحب أن أكون قريبا، من أناس لا أراهم إلا في المساء.

 

أنا أحب ما أكونُ في المساءِ

 

أيمن يوسف أبولبن

ذات ليلة

الأربعاء، 30 نوفمبر 2022

الطفلُ الذي بكى

 



يستذكر آدمُ ذكرياته الشائكة مع والده، وهو طفلٌ صغير، تلك الذكريات التي يغلبُ عليها الندرةُ، واختلاط المشاعر، والحيرة التي كانت تتلبسه، وما زالت تتلبسه كلما استرجع تلك الذكريات.

 عاش آدمُ طفولةً معقدةً بعض الشيء، انطباعه الأولي كان الغضب العارم على غياب والده المتكرر، والذي لم يكن يسمح ببناء علاقة تناغم وتواصل قوية ومستمرة بينهما، فقد كانت متقطعة ومتخبطة.

 والدهُ الذي اغترب لفترة طويلة، لم يكن متواجداً في أغلب الأوقات لمشاركة طفله لحظاته المميزة، ومناسباته الخاصة، عيد ميلاده، احتفالية انتهاء العام الدراسي، فوزه بميدالية بطولة الشطرنج، مشاركته في اللعب بالثلج، أو حتى اصطحابه إلى السينما في عطلة نهاية الأسبوع.

كانت هذه الفترة في حياة آدم، مخدوشةً دوماً، ومدعاةً للشعور بالنقص، نقص الأبوّة، ونقص العاطفة.

 ولكنها كانت فترة مُرضيةً من ناحية أخرى، فقد نال فيها آدمُ الكثير من الهدايا الثمينة، واستحوذ خلالها على العديد من الألعاب باهظة الثمن، وتمكّن من الانتساب إلى نادي الشطرنج للناشئين.

ومن هنا كان آدمُ حائراً في المفاضلة بين حميميّة المشاعر، وبين ما يمكن أن يجنيه من غيابها، وهي لا شك معادلةٌ صعبة!

 أما الفترة التي تلتها، فتلك التي لم تأتِ بمفيدٍ له، فقد عاد أبوه من الخليج إثر غزو الكويت بخفّي حنين، وعانى الأمرّين للحصول على وظيفة بعد الكساد الذي شهده السوق، وهو ما أدّى إلى انخفاضٍ ملحوظ في مستوى المعيشة للعائلة، نتج عنه تحويل آدم إلى مدرسة حكومية، وانفصاله عن ترف العيش الطفولي.

 لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل أصبح تواجد والده في المنزل نادراً جداً، حيث اضطر أن يعمل سائق "تاكسي" بعد الوظيفة الحكومية لسد احتياجات الأسرة، ما أدى إلى اختصار تواصل آدم مع والده إلى ساعات قليلة في الأسبوع، محصورة في يوم الجمعة.

 عاش آدمُ حالةً نفسيةً مزرية، ولكنه لم يصرّح لأحد، حتى لأمه، أقرب الناس إليه، وجسر المحبة بينه وبين أبيه، بل بينه وبين العالم.

هذا الكبْت الذي عاشه، أدى إلى حالة فريدة من احتباس الدموع؛ لم يكن آدمُ قادراً على البكاء، حتى لو تعرّض لأقسى عقاب من مُدرّسيه، أو تعنيفٍ من زملائه الذين يتنمرّون عليه كونه من أولاد الطبقة الارستقراطية وأهل الخليج. لم يكن قادراً على البكاء، حتى لو شعر بالرغبة في ذلك!

 استمرت هذه الحالة معه لسنوات، ولم يشعر بها سوى والدته، التي حاولت علاجه وعرضه على الأطباء، بل وعلى جارتها التي تعمل بالحُجُب، دون أي جدوى!

 وفي يوم من الأيام، قرّر آدمُ مواجهة واقعه، والتحدّث إلى والده، كان يريد أن يصرخ في وجهه، أن يتخلص من كل الأعباء الجاثمة على صدره ويلقي بها عليه، كان يريد أن يقول له بأنه تسبّب بتراجع مستواه الأكاديمي، وتحصيله العلمي، وأنه خسر أصدقاءه وزملاءه في المدرسة القديمة بسببه، وأنه حُرم من حلم العمر بأن يكون بطلاً دولياً في الشطرنج يوماً ما، بل إنه حُرم من طفولته ومن حقه في البكاء، إلخ القائمة الطويلة من العتاب واللوم!

كان والده، في هذه اللحظة يمثّل له كل المعوّقات التي تمنعه من النجاح، كان مُقصّرا في حقه، وفي حق والدته، وربما في حق نفسه، ولكن آدم لم يكن مُبالياً بذلك، ما يهمه هو حقه هو، فوالده ووالدته ناضجان يتحمّلان مسؤولية نفسيهما، أما هو فلا.

 وفي تلك الليلة، لم ينم آدمُ، اصطنع النعاس، واندس تحت الفراش في غرفته، أغلق عينيه وأبقى الباب مفتوحاً، مُرخياً السمع. مرّت الساعة تلو الساعة، حتى اقترب الليلُ من الانتصاف، وإذ بدقّات خفيفةً على باب الشقّة، تحركت والدته بخفّة إثرها لتشق الباب بهدوء وتعانق والده مرحّبةً به.

فتح آدم عينيه، وبقي متيقظاً، متحيّناً الفرصة للخروج.

سألته زوجته عن يومه، شرح لها معاناته دون أن تسقط الابتسامة عن وجهه، حدّثها عن بخل ذلك الزبون ثم ألقى النكات متندراً عليه. حدّثها عن العجوز المسنّة التي رفض أن يأخذ منها الأجرة، وشاركها الضحك على نصيبه الناقص في الدنيا!.

 وبينما كان يتناول طعام الغذاء -أو العشاء المتأخر- قال، جاءني أحد المُراجعين صباح اليوم، يبدو عليه انه أديبٌ أو صحفي، كان يريد استخراج شهادة وفاة لأبيه، وما أن تبادلت معه أطراف الحديث، حتى فتح لي قلبه، وقال بضع كلمات حفظتها أو لعلّي حفظت معناها، قال: عندما يموت أبوك تُدركُ أنه كان رجلاً عادياً لم يكن بإمكانه أن يفعل أكثر مما كان، تتصوره بطلاً وتتوقع منه المعجزات، ولكنه في النهاية مجرد إنسان قد هزمه الزمن. ثم تتمنى بعد أن تُدرك ذلك، لو أنك عقلتَ ذلك باكراً، وبادلته الحب بدل العتاب!

  ساد الصمت المكان، وحشرج صوته، بينما ابتلعت الصدمةُ لسان الأم وتجمّدت تعابيرها، شعرت أن الكلام هذا نابعٌ من قلبٍ مكلوم، وحزن مكتوم، أو لعلها أدركت في تلك اللحظة، أنها هي ذاتها لم تكن تتصور أن الزمن يُمكن أن يهزم هذا الشخص الذي أحبته وعاشت معه السراء والضراء، بل إنها لربما لم يخطر في بالها أن الموت نفسهُ قادرٌ على أن يهزمه!

 "آدمُ" قال، آدمُ كان أولَ من خطر على بالي تلك اللحظة، وظللت مشغولاً بالتفكير به طوال اليوم، هل هو نائم؟ لم تجب الزوجة؛ كانت غارقة في التفكير وتتمتم بكلمات غير مفهومة، مسك بيديها وهزّها، ما بكِ!

قالت ببطء وبصوت متهدّج: (إنني أختارُ الحياةَ، سأحيا لأن ثمّة أناساً قليلين أحب أن أبقى معهم أطول وقتٍ ممكن، ... لا يعنيني إن كان للحياة معنى أو لم يكن لها معنى!) ثم أردفت، تذكّرت هذه الكلمات من رواية الطيب صالح، كنت أقرأها هذا الصباح!.

كان الكلام مؤثراً، ووصل إلى قلب والد آدم كما أرادت بالضبط. قال متلعثماً محاولاً تغيير الحديث، آدم، كنت أسألك عن آدم.

لا تزعجه، بالكاد نام، شعرتُ به وهو يقاوم النوم في فراشه.

 انسل الوالد بخفّة ودخل غرفة آدم، وقف قبالة السرير، كان آدمُ قد أغلق عينيه، ورسم على محيّاه ملامح الهدوء والسكينة، بعد ان ابتلع كل كلام العتاب ولم ينبس ببنت شفة. ابتسم والده، تفحّصه مليّاً كان قلبه يراوده أن يوقظه من نومه، كي يحتضنه، كي يشتم رائحته، ويقبّل جبينه، ولكنه لم يفعل، غادر الغرفة كما دخلها بخفّة وأغلق الباب وراءه بهدوء.

فتح آدم عينيه، وفي تلك اللحظة شعر بحاجةٍ ملحّةٍ للبكاء، حينها بكى، نعم بكى، بكى بشدّة واسترسلت الدموع، بل انهمرت كطوفان نوح.

 أيمن يوسف أبولبن

كاتب ومُدوّن من الأردن

27-11-2022


رابط القدس العربي